26 عاماً على “أوسلو” .. مقاربة مغايرة

26 عاماً على “أوسلو” .. مقاربة مغايرة

أردت نشر هذه الورقة في الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لتوقيع اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والمعروف باتفاق أوسلو، في حديقة البيت الأبيض، في 13/9/1993، أي نشره قبل سنة، إلا أنني آثرت حينها عدم المشاركة في السجال الصاخب، والتلاوم المرير، الذي نشب بحدّةٍ لافتةٍ في هذه المناسبة، المثيرة لآلام الفلسطينيين وأشجانهم، المجدّدة لخلافاتهم وانقساماتهم، الحاضرة بقوة في مختلف أدبياتهم السياسية، حيث بدا مشهد المشتبكين بشأن الاتفاق، وكأن أحداً منهم لا يود التوقف عن اجترار المرارة، فتح الجراح، تجرّع خيبة الأمل، أو غير ذلك من الذكريات المفعمة بروح الاتهامات المتبادلة، فيما بدت الاستعادات الإسرائيلية لهذه الواقعة، وفق ما حفلت به الصحافة العبرية في الذكرى ذاتها، طافحةً بالألم والندم على ارتكاب خطيئةٍ كبرى، مكّنت العدو الرئيس للحركة الصهيونية، ونعني بها الحركة الوطنية الفلسطينية، من إقامة أول رأس جسر على أول أرض متاحة، ومنحها اعترافاً رسمياً ووضعية قانونية، ومشروعية دولية، وفوق ذلك شقت أمامها طريقاً يعِد بدولة فلسطينية مستقلة.
لا تودّ هذه المقدمة التمهيدية أن تقف على منصة الاتهام بالطبع، ولا أن تترافع في المقابل عن اتفاق كان ولا يزال خلافياً. كما لا يودّ صاحب هذه المطالعة أن يبدو تبريرياً لإكراهات مرحلةٍ سياسية لم تختتم فصولها بعد، وقد لا تختتمها في زمن قريب، أو أن يكون مسوّغاً لمآل وطني إشكالي بالضرورة الموضوعية، ومثقلٍ بالصعوبات والإخفاقات، حيث لا يزال الماضي ماثلاً ملء السمع والبصر، يمضي ولا يمضي بآثاره الحسّية ونتائجه غير النهائية، بينما المضارع مفتوحٌ على كل الاحتمالات الممكنة. كذلك لا تود هذه المقاربة الحذرة أن تُصدر أحكاماً قطعية على هذا الاتفاق، وفق مرجعياتٍ معرفيةٍ وخبراتٍ مكتسبة في وقت زمني لاحق، قد لا تمت بصلة قويةٍ إلى تلك المعطيات التي أدّت، في حينه، إلى إبرام هذا الاتفاق، الذي وصف في حينه بزلزال سياسي لا يقل أهمية عن زلزال سقوط حائط برلين.
خلفية تاريخية
بكلام آخر، لا يستقيم الحكم على اتفاق أوسلو، لا بحسب النيات، ولا بحسب النتائج أيضاً،
“ليس من العدل تقييم اتفاق أوسلو بصورة منصفة، إلا باستحضار كل الحقائق والظروف والمعطيات التي كانت قائمة”وليس من العدل تقييمه بصورة منصفة، إلا باستحضار كل تلك الحقائق والظروف والمعطيات التي كانت قائمة في حينه، تلك الحقائق التي جعلت من خيار “أوسلو” هذا أقل الخيارات الممكنة سوءاً آنذاك، وأقرب البدائل منالاً إلى يدٍ مغلولة، كان صاحبها يراوح في مكانه، على دروبٍ مسدودة، لا ظهر له ولا وعداً يلوح في سمائه المطبقة على الأرض، فيما الخزينة فارغة، والحصار المالي لا يقل شدّة عن الحصار السياسي المضروب على القيادة الفلسطينية منذ غزو العراق الكويت، فضلاً عما اعترى الحالة الفلسطينية من مظاهر تآكلٍ ذاتي، كادت أن تُميت منظمة التحرير في منفاها البعيد، وتحيلها إلى المصير الذي آلت إليه حكومة عموم فلسطين.
إذ كانت قد مرّت، في أوائل عقد التسعينيات، أي عشية بدء المفاوضات السرية بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل، وهي أول مفاوضاتٍ من نوعها في تاريخ الصراع المديد، نحو عشر سنواتٍ على آخر المعارك العسكرية الكبرى التي خاضتها قوات الثورة الفلسطينية في معقلها اللبناني ضد إسرائيل عام 1982، تلك المعركة التي انتهت بتشتيت المقاتلين في بلدانٍ عربية، ونفي القيادة الوطنية ومقاتليها إلى مقر يبعد آلاف الكيلومترات عن حدود فلسطين، إلى جانب وقوع مجزرة رهيبة في مخيمي صبرا وشاتيلا، وحدوث أبشع انقسام في العالم العربي إثر اجتياح العراق دولة الكويت، ناهيك عن انهيار الاتحاد السوفييتي، وانفتاح أبواب الهجرة أمام مئات ألوف اليهود الروس.
وهكذا انغلقت الدروب التي لم تكن مفتوحة بالأساس، وقلّت الخيارات القليلة أصلاً في واقع الحال، وباتت المنجزات الوطنية الجزئية والمتفرّقة، المتحققة بالقتال والدماء والعذابات، معرّضةً للتبدّد التدريجي، واستبدّ الخوف من إمكانية ذهاب كل التضحيات سدى مع الريح، وذلك بعد أن انهار العالم القديم، وتبدّلت المعطيات على الصعيدين؛ الإقليمي والدولي، على نحو عميق. ولولا انتفاضة الحجارة الباسلة عام 1987، التي ردّت الاعتبار للعامل الذاتي بعد طول غياب، وأعادت تأهيل الوضع الفلسطيني، ومنحته قوة دفع ذاتي هائلة، وأقامت بعض التوازن النسبي، وأوجدت معادلةً جديدة، بل ووضعت بين يدي القيادة المحاصرة رافعةً قويةً ضد محاولات الإلغاء والتهميش، نقول لولا تلك الانتفاضة المجيدة، لما تمكّنت سفينة الحركة الوطنية المحاصرة من الإقلاع ثانيةً من البرزخ الصخري العالقة فيه.
وليس من شكٍّ في أنه من غير تلك الانتفاضة الباسلة التي أعادت منظمة التحرير إلى قلب المشهد السياسي، بعد أن كانت مهدّدة بالخروج من المعادلة صفر اليدين، وأكسبت الممثل الشرعي الوحيد أهليةً وحيويةً مستحقتين، ورفعت القضية الفلسطينية إلى مكانتها الباسقة على جدول الاهتمامات العربية والدولية، لما كان لعملية أوسلو أن ترى النور، ولا كان لذلك الاتفاق الذي منح القيادة الفلسطينية قاعدة ارتكازٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ على أرض فلسطين أن يوقّع، وذلك بعد أن أنهت الانتفاضة حالة الاستخفاف الإسرائيلي المديد بقدرة الشعب الفلسطيني على الانبعاث من جديد، على نحو أشد فاعلية من ذي قبل، وأكثر مقبولية ومشروعية لدى الرأي العام الدولي، بما في ذلك قطاعات مهمة من الرأي العام الإسرائيلي.
معطيات مرحلة استثنائية
على خلفية ما تقدّم، شكلت معطيات تلك المرحلة الاستثنائية لحظةً مواتيةً للبحث عن مخرجٍ من حالة الانسداد التام، أو قل للبحث عن مخرجٍ ما من الطريق المسدود أمام سائر الأطراف، لا
“كان الاتفاق بمثابة ممرٍّ إجباري، ليس بالنسبة للفلسطينيين فقط، وإنما بالنسبة للإسرائيليين أيضاً” سيما أمام القيادة الفلسطينية التي رأت في الأفق البعيد المغلق ما يشبه شمعةً ضئيلةً متقدة وسط ليل عربي فلسطيني دامس، الأمر الذي حفزها على تجريب ما لم تجرّبه من قبل (التفاوض مع العدو وجهاً لوجه)، وبالتالي كسر بعض من التابوهات والمحرّمات الراسخة في كل من الأدبيات السياسية المتداولة والثقافة الشعبية المتوارثة، ومن ثمّ الخروج من أسر الأفكار المسبقة والصور الانطباعية المتبادلة. فأمسكت القيادة المنفية في تونس بما اعتقدت أنها لحظةٌ تاريخيةٌ تستحق المحاولة، بل وأخذت مجازفةً محسوبةً بالقبول بهذا الخيار الصادم لما استقرّ فعلاً، وكابراً عن كابر، في عمق أعماق الوجدان الوطني الفلسطيني الذي تربى على الرفض المستمد من حسٍّ عميق بالغبن والقهر، حتى منذ ما قبل النكبة، حيث كان الرفض والشعارات الثورية بمثابة الخبر اليومي للفلسطينيين عامة.
لقد بدأت هذه الخطوة الكبيرة في إطار علاقات اتصال غير رسمية، لها بداية وليست لها نهاية محدّدة، أو كخطوة أولى حذرة، مثقلةٍ بالشكوك المتبادلة والتحفظات المتقابلة، على طريقٍ زلقٍ لا ضوء فيه، خطوة تنطوي على فرصٍ ضئيلةٍ وعواقب خطيرة، أتت في زمن التحولات الكبرى واختلال الموازين، وبدت للدائرة الصغيرة الممسكة بناصية القرار أقرب ما تكون إلى كوّة صغيرة انفتحت في جدار الحصار والعزلة المطبقة على الوضع الفلسطيني، من شأنها أن تخلق أملاً ضئيلاً برؤية نهايةٍ ممكنةٍ لواقع الاحتلال، وأن تفتح سبيلاً لإدامة الكفاح الوطني بأدواتٍ أخرى غير متصادمة مع عصر القطبية الأحادية، عصرٍ تقرّر فيه دولة عظمى وحيدة، بمفردها، ماهية الشرعية الدولية، ومعايير الحق والعدل، دولة تعادي كل حركة تحرّر على وجه الأرض، وترى في كل بندقية، وفي كل كفاح مسلح، عملاً إرهابياً مداناً، مهما كان الظلم الواقع على أصحابه، ومهما كانت القضية عادلة.
وفي المحصلة غير النهائية، تم توقيع اتفاق غاص بالعيوب، ومنقوص إلى أبعد الحدود، اتفاق يستحق الذم والهجاء بعظمة لسان كل فلسطيني وعربي غيور، إلا أنه جاء، على الرغم من ذلك كله، كنقطة تحوّل كبرى، أو قل خاتمة، في مسار الكفاح المسلح الذي انتهى واقعياً بعد معركة بيروت عام 1982، ذلك الاتفاق الذي أرسى معالم حقيقة سياسية فارقة، خلط أوراقاً وفتح أبواباً، وأقام أول بنية كيانية لشعبٍ سبق أن أنكرت إسرائيل وجوده، ولم تره إلا من خلال فوهات البنادق وفي قاعات المعتقلات والسجون، وذلك إلى أن أرغمها الصبر والصمود والكفاح العنيد على الجلوس معه وجهاً لوجه، والاعتراف بوجوده حقيقة لا تقبل الامّحاء، والكف عن الرهان على استسلامه، أو اقتلاعه في نهاية مطاف طويل.
ممر إجباري ليائسيْن
بكلام آخر، كان اتفاق أوسلو بمثابة ممرٍّ إجباري، ليس بالنسبة للفلسطينيين فقط، وإنما بالنسبة للإسرائيليين أيضاً، ففيما كان الطرف المهدّد بخسارة اللعبة بالكامل، والخروج منها صفر
“اتفاق غاص بالعيوب، ومنقوص إلى أبعد الحدود”اليدين، جرّاء العزلة السياسية القاتلة، والحصار المالي الخانق، إن لم نقل الغريق الذي يتعلق بالقشة، كان الطرف الممسك بكل الأوراق المادية والسياسية، على الجهة المقابلة، قد وصل، على ما بدا الأمر في حينه، إلى استنتاجٍ قوامه أن الصراع الذي مضى عليه نحو مائة سنة قد يستمر إلى ما لا نهاية، في ظل سياسة الإنكار والتنكر لوجود شعبٍ آخر، وأنه صراع غير قابل للحل عبر خيار القوة العسكرية المجرّدة، تلك التي تم اختبارها مراراً وتكراراً من دون أن تفضي إلى النتيجة التي تشتهيها أشرعة السفينة الإسرائيلية المبحرة وسط محيطٍ عربيٍّ مدجج بالكراهية لها، الأمر الذي حمل إسحق رابين وشمعون بيريس على تجريب طريق المفاوضات السلمية، بتحوّط شديد، وقبل ذلك كسر التابوهات والمعتقدات الكامنة في تلافيف الذهنية الصهيونية.
وهكذا، ومن رحم كل المتغيرات والتطورات والنتائج والتداعيات، وحدّث ولا حرج عن الخذلان والانكسارات على الجانب الفلسطيني، انبثقت روح أوسلو التي لم تُخلق من فراغ. وبالتالي، يمكن القول إن هذا الاتفاق المنقوص لم يولد من العدم، أو نبتا منقطع الصلة بأرض الواقع المعاش، بل جاء محصلةً منطقيةً لميزان قوى مختل على الصعيدين، الإقليمي والدولي، ونتيجةً فرضت نفسها على الطرف الأضعف في المعادلة التي كانت تزداد خللاً مع مرور الوقت، غير أنه، وعلى الرغم من كل ما احتوى عليه من عيوب، فقد أتاح هذا الاتفاق للفلسطينيين الانتقال من عتبة التاريخ الذي رابطوا فيه طويلاً إلى حيّز الجغرافيا، وأوجد أفضل ظرفٍ دوليٍّ مر به هؤلاء منذ نكبة عام 1948، وأعاد نحو ثلاثمائة ألف منهم، وأوجد نوعاً من التوازن السياسي النسبي الذي كان مفقوداً مع الدولة التي أنكرت مجرد وجودهم.
وأكثر من ذلك، فقد أوصدت اتفاقية أوسلو الباب أمام أي دور عربي قد يقوم مقامهم، ويتفاوض بالنيابة عنهم، كما راكم لدى الفلسطينيين الذين لم يعودوا قاصرين سياسياً من ذلك اليوم كثيرا من عوامل الندية والتكافؤ، والشعور بالجدارة والاعتزاز بالنفس، عندما انفتحت لهم أبواب البيت الأبيض، إشارةً على اكتمال حلقة الاعتراف الدولي بهم، وبقضيتهم الوطنية وقيادتهم الشرعية، خصوصاً بعد الاحتفال الباذخ بهذا الاتفاق قبل 26 عاماً، في مثل هذا اليوم، برعاية الدولة العظمى الوحيدة، وحضور عشرات الدول التي بدت وكأنها تحتفل بعيد ميلاد الكيان الفلسطيني، وبتطويب هذا الحدث نقطة فاصلة بين زمنين في تاريخ الشرق الأوسط، وبإنهاء الوضع الشاذ في المنطقة التي كانت تتنازع فيها خمسة شعوبٍ داخل أربعة كيانات سياسية، حيث أرسى هذا الاتفاق حجر الأساس لمعمار الكيان الخامس، كيان الشعب الفلسطيني الذي لم يعد مجرد فائض سكاني في جغرافيا شرق البحر الأبيض المتوسط.
قد يصح القول اليوم، بعد كل ما لحق به من ضرباتٍ شديدة على أيدي الحكومات اليمينية الإسرائيلية المتعاقبة، ناهيك عن الإخفاقات الفلسطينية، إن اتفاق أوسلو بات جثةً واجبة الدفن، أو أنه صار خرقة بالية، أو غير ذلك من الأوصاف التحقيرية التي دأبت عليها قوى الرفض الفلسطينية، إلا أن هذا الاتفاق المؤسس لقاعدة بنية النظام السياسي والبنية الكيانية الفلسطينية القائمة، لا يزال واقفاً على رجليه، على الرغم من ترنّحه أغلب الوقت، ولا يزال أيضاً صالحاً للاستخدام إلى أجل غير معلوم، كونه البديل الذي لا بديل له حتى الآن، وأنه إذا كان تعطيله أمراً ممكنا فإن إلغاءه قصة أخرى كبيرة، لا يقدر عليها ولا يستطيع الإقدام عليها أشد أعداء “عملية أوسلو” على الاطلاق.
كذلك، إذا كان الالتزام بمقتضيات هذا الاتفاق ضعيفاً إلى أبعد الحدود، والتجاوز عليه من الاحتلال لا يحتاج إلى دليل، فإن التنصل منه، ومما أرساه من حقائق على الأرض، يدخل في باب الممنوعات، إن لم نقل المحرّمات السياسية. وليس أدل على ذلك من أن أشد أعداء الاتفاق، وأكثرهم كرهاً له، وهم في سدة الحكم منذ عقدين، لم يجرؤوا على اقتراف عملية إسقاطه تحت أي مبرر، أو إعلان بطلانه من طرف واحد، حتى وإن كانوا يواصلون استخدام النواقص والعيوب في النص، للتغطية على انتهاكاتهم الفظّة يومياً، ولزيادة وتيرة أعمالهم الاستيطانية التي تسابق الوقت.
في متن النص
في الأصل، وبموجب اتفاق أوسلو، تم الاعتراف الرسمي الإسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبتمثيلها للشعب الفلسطيني، من خلال رسائل الاعتراف المتبادل بين رئيسي الحكومة الإسرائيلية والمنظمة، إذ تم دمج هذه الرسائل في اتفاق إعلان المبادئ المشترك، واعُتبرت جزءاً من الاتفاق، وهو ما شكل نقلةً نوعيةً في مكانة منظمة التحرير على الصعيدين، الإقليمي والدولي. كما نص هذا الاتفاق على سلسلة من الخطوات التطبيقية المتدرّجة، في إطار جدول زمني محدّد البدايات والنهايات، الأمر الذي جعل من “أوسلو” خطة عمل مفصلة وملزمة، ليس للطرفين اللذين وقّعا عليه فقط، وإنما أيضاً للدولة العظمى التي احتضنته، ووقّعت عليه شاهدا وضامنا لحسن تنفيذه.
“الوعد بسلام وازدهار وشرق أوسط جديد خالٍ من العنف والإرهاب، قد تبدّد إلى أجل غير معلوم، وإن هذه المنطقة قد تحولت إلى بؤرة صراع أعقد”
وفي إطار نقاش نص الاتفاق، بعيداً عن تطبيقاته التي توقفت بعد اغتيال إسحق رابين، وخروج حزب العمل من الحكم في عهد شمعون بيريس القصير، فإنه يمكن اعتبار هذا الاتفاق، بمعايير الطرف الفلسطيني، خطةً استراتيجية، سيما لجهة الأهداف بعيدة المدى، كما تم النظر إليه فلسطينياً، من زاوية ميزان القوى المختلّ، على أنه استراتيجية دفاعية ناجعة للجم التغوّل الإسرائيلي المتمادي من دون رد وازن. أما بمعيار النتائج المرغوب في تحقيقها، فقد نُظر إليه كاستراتيجية هجومية، فيما يمكن النظر إلى مراحله المتدرجة، والإجراءات التنفيذية المتعاقبة، على أن هذا الاتفاق كان تجسيداً لسياسة الخطوة خطوة، من الخطوة الأسهل إلى الخطوة الأصعب فالأشد صعوبة، أي على العكس من استراتيجية الصفقة الواحدة التي تجنّبها الطرفان تماماً، خشية الارتطام بفشلٍ محقق.
واليوم، وبعد أكثر من ربع قرن على اتفاق أوسلو الذي بدّل كثيرا من المفاهيم السائدة لدى الطرفين، أحدهما عن الآخر، وغيّر الرؤية المستقرّة عميقاً في قلب منظومة الأفكار النمطية المتقابلة على الجانبين، بل وأعاد رسم الاستراتيجيات الأمنية والسياسية، وكسر تابوهات وبديهيات عديدة كادت، لفرط تلقائيتها، أن تدخل في طور القداسة لدى الطرفين، نقف اليوم في نهاية هذه المسافة الزمنية الطويلة بكل المعايير، للقول إن إسرائيل التي وقّعت هذا الاتفاق ليست هي إسرائيل الراهنة، المسكونة بروح التطرّف المجنون والاستيطان والعنصرية، وإن الوعد بسلام وازدهار وشرق أوسط جديد خالٍ من العنف والإرهاب، قد تبدّد إلى أجل غير معلوم، وإن هذه المنطقة قد تحولت إلى بؤرة صراع أعقد وأشد من ذي قبل، وإن الصراع الطويل من المقدّر له أن يطول أكثر فأكثر.