نشر موقع “بوليتكو” مقالا لماثيو كارينتشنغ عن التحول الذي طرأ على طبيعة الأحزاب الأوروبية التي لم تعد سوى كيانات تعبر عن شخصية زعمائها كما أظهرت الانتخابات البريطانية وفوز حزب المحافظين بزعامة بوريس جونسون. وقال فيه “الرجل هو الرسالة”. ومن أهم الدروس التي يمكن أن تستقى من انتصار جونسون الباهر هي أن “الشخصية هي من تهيمن”.
ورغم ما كشفه البريكست من انقسام عميق داخل المجتمع البريطاني إلا أن كثيرا من البريطانيين يتفقون على ما يبدو على شيء واحد وهو أنهم يحبون جونسون. فقد كشفت الاستطلاعات طوال الحملة الانتخابية وبشكل مستمر تقدم رئيس الوزراء على زعيم العمال جيرمي كوربن. وبالطبع كان الإعجاب بالشخصية عاملا في خيار الناخبين. وفي الماضي كان السياسيون الأوروبيون الجذابون أولا وأخيرا يمثلون مثالا وبرنامجا سياسيا، وفوق كل هذا حزبا سياسيا يعبر عنهم. وبعبارة أخرى عبروا عن أمور أكثر من مجرد شيء واحد، سواء كان البريكسيت أم الهجرة. وعلينا أن نذكر هنا مارغريت تاتشر وهلموت كول وفرانسوا ميتران أو ويلي برانت. أما في عالم اليوم حيث استبدلت الأيديولوجية والمبادئ بالبراغماتية والانتهازية الفجة، أصبحت الأحزاب مجرد غلاف لشخصيات سياسية. خذ مثلا جونسون الذي كتب مقالين بصحيفة “ديلي تلغراف” عبر في واحد عن تأييده للخروج من الاتحاد الأوروبي ومعارضته في الثاني، حيث كان يخط طريقه إلى السلطة. أو إيمانويل ماكرون الذي أنشأ حركة من الصعب تعريفها “لنمشي” حيث كان مختصر اسم الحركة يعني اسمه.
ويرى الكاتب أن تفوق الشخصية على الأيديولوجية واضح في اللغة. فقد ولت الأيام التي عكست الألقاب جوهر برنامج الزعيم السياسي مثل “المرأة الحديدية” والذي نظر إليه على أنه تعبير عن استقامة ووضوح الهدف. بخلاف النجوم الجدد في أوروبا الذين تبدو أسماؤهم أنها من فرق موسيقية للشباب والقاب مثل “بوجو” (بوريس جونسون) وباستي (المحافظ النمساوي سبستيان كيرز) ومانو (ماكرون) وإلكابيتانو (الزعيم الإيطالي المتطرف ماتيو سالفيني).
ويرى جوزيف جانينيغ، المحلل السياسي الألماني، أن السبب في ظهور هذه الشخصيات هو تراجع الأحزاب السياسية الأوروبية القديمة. وأدى فشل الأحزاب الرئيسية في التعامل وبطريقة فعالة مع مظاهر قلق الناخبين من العولمة والتكنولوجيا والهجرة إلى خلق ثغرة استغلها الساسة الصاعدون وتقديم أنفسهم كرموز (أيقونات) مستعدين لتفكيك الوضع القائم، سواء من داخل المؤسسة كما في حالة جونسون وكيرز أو من خارجها مثل ماكرون الذي تخلي عن الحزب الاشتراكي الفرنسي أو سالفيني الذي أعاد تشكيل حزب رابطة الشمال وحوله إلى قوة وطنية. ولأن رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي خاف أن يختفي فقد طلق موقفه الميال إلى يسار- الوسط الديمقراطي هذا الخريف وبدأ حركة باسم براق “إيتاليا فيفا” حيث أعاد وضع نفسه في مركز الاهتمام. ويرى جانينغ أن هذه الحركات لها طبيعة الناس الخارجين عن الصف (مافريك). وبدلا من القيم التي طبعت الأحزاب التقليدية يبدو القادة هؤلاء مدفوعين بجماعات تركز على موضوعات معينة ويتأثرون بالاستطلاعات ووسائل التواصل الاجتماعي. وفي معظم الحالات تمسكوا بالقضية التي ارتبطت بهم كالهجرة في حالة كيرز وسالفيني والبريكسيت كما هو حال جونسون. فقد استخدم صيغة دونالد ترامب التي تتجنب التفاصيل الدقيقة على حساب الأسطورة وباع البريكسيت بأنها الطريقة المثلى لاستعادة بريطانيا مجدها الماضي وقدم نفسه على تجسيد جديد لوينستون تشرتشل.
ففي الماضي كانت سلوكيات وأخلاقيات ترامب وجونسون كفيلة باستبعادهما من قيادة حزبيهما. أما اليوم فإن القواعد الشعبية تجاهلت هذه الأمور ودعمتهما بحماس نادر. ويشترك القادة الذين يغردون خارج السرب (مافريك) اليوم في أمر آخر وهو الشراسة. ففي الماضي كانت الأحزاب الأوروبية تعمل كمؤسسة قطاع مدني تجند أفضل وأذكى العقول وترفعهم تدريجيا للمناصب القيادية، وكان وصولهم للحكومة تتويجا لعقود من العمل السياسي، وهذا لم يعد هو الحال.
وقد وجد كيرز تدهورا في حزب الشعب النمساوي ولهذا خطط لسنوات وانتهز الفرصة للسيطرة على الحزب في عمر صغير، 30 عاما. وعندما وصل إلى القيادة تخلص من الحرس القديم وأعاد تسمية الحزب بـ “قائمة سبستيان كيرز” أو حزب الشعب الجديد واستبدل علم الحزب الأسود إلى الفيروزي. وبعد أشهر أصبح مستشار النمسا حيث كان أصغر نمساوي يتولى المنصب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وكانت مناورات جونسون وتطهيره لحزب المحافظين درامية. وفي الوقت الذي حول فيه المحافظين من حزب المؤسسة إلى حزب الطبقة العاملة المتذمرة لم يعد الأتباع المخلصون له يعرفون حزبهم القديم. وقال المعلق السابق في صحيفة “تلغراف” بيتر أوبورن “هذه الحكومة لم تعد محافظة بل هو تنصل صريح من كل شيء يعني المحافظة”. والسؤال المهم فيما إن كانت الأحزاب السياسية القائمة على الشخصية ستقود القارة، وماذا سيحدث عندما يكتشف الناخبون أنهم ليسوا موجودين في وقت الحاجة؟ ويعلق روبن نيبليت، مدير تشاتام هاوس في لندن ” قد يكونوا مثل الألعاب النارية التي تطلق الأضواء ثم تنظفئ”. ورغم مرور زعماء جذابين ومتبجحين مثل سيلفيو برلسكوني إلا أنه لم يكن هناك عدد كبير يتركز مثل اليوم في أوروبا الغربية. وفي حالة عدم ظهور طبقة جديدة من الساسة يخشى بعض المراقبين من تحول أوروبا إلى ساحة تشبه أمريكا اللاتينية بما فيها من شعبويين وفاسدين ولا التزام بالديمقراطية إلا بالشعارات.
وفي أوروبا الشرقية تقود شخصيات شعبوية مثل بيتر أوربا في هنغاريا إلى جمهورية التشيك وبلغاريا ورومانيا. وظلت ألمانيا محصنة تحت عين المستشارة أنغيلا ميركل والتي عادة ما قدمت باعتبارها الصورة المضادة لعبادة الشخصية. مع أن ميركل تجسيد عصر القيادة الشخصية في أوروبا، وبعد 14 عاما من الحكم. وقد بنت ميركل صورتها بعناية، فعلا خلاف بريطانيا وإيطاليا يحب الألمان تواضع وهدوء ميركل. ولكن لا تسأل عن موقفها، حيث لم يتم وزنها من خلال الأيديولوجيا. ففي عام 2003 وعندما كانت في المعارضة وأطلق على ألمانيا “رجل أوروبا المريض” دعت لسلسلة من الإصلاحات النيوليبرالية، وعندما لم تنجح هذه الأفكار تخلت عنها. وفي عام 2009 دعت لاستمرار المفاعلات النووية الألمانية، وعندما خافت من ردة فعل الناخبين بعد مأساة فوكوشيما في اليابان تراجعت وسرعت من إنهاء الطاقة النووية. وظلت ميركل رغم النكسات التي تعرض لها الحزب المسيحي الديمقراطي لا تزال ميركل من أكثر الشخصيات السياسية شعبية في البلاد والأكثر ثقة. وفي الوقت الذي تسيطر فيها النزعات الشعبوية على أوروبا يعرف الألمان أن لديهم “موتي” (الأم). والمفارقة أن جاذبية ميركل التي جمعت بين القيم التقليدية والتغيرات المستمرة أسهمت في تراجع الأحزاب التقليدية بما في ذلك حزبها. وبدأت الأحزاب المعادية للمهاجرين والخضر الذين استثمروا في قضايا البيئة بملء الفراغ. ومهما يحدث لنجوم أوروبا السياسيين الجدد فإن جاذبيتهم لن تختفي قريبا فهم يعبرون عن تحول عميق في المناخ السياسي.
القدس العربي