تتعمّق أزمة النظام العراقي يوما بعد آخر بفعل الاحتجاجات الشعبية التي لم تُجْدِ مختلف الوسائل السياسية والأمنية في وقفها.وحوّل استعصاء تعيين رئيس للحكومة خلفا للمستقيل عادل عبدالمهدي، حوّل استقالة الأخير من وسيلة لتهدئة الشارع إلى ورطة تقرّب النظام من هاوية السقوط.
بعد قيام الرئيس العراقي برهم صالح بتمديد مهلة اختيار مرشح يتولى مهمة تشكيل الحكومة، حتى الخميس المقبل، لم يبق أمام القوى السياسية سوى 72 ساعة للاتفاق على اسم رئيس الحكومة السابعة منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وسط تزايد الرفض الشعبي لجميع مرشحي الأحزاب لتولي المنصب. في وقت لم يعد فيه رفض الشارع لكلّ الشخصيات التي تسرّبت أسماؤها كمرشّحة لتولّي المنصب، هو العائق الوحيد لملء الفراغ الحكومي، بل إنّ الخلافات الحادّة بين الفرقاء السياسيين والمتنافسين التقليديين على السلطة، زادت من تعقيد عملية البحث عن خليفة لعبدالمهدي يكون محلّ توافق هؤلاء الفرقاء وقابلا للتسويق لدى الشارع الغاضب.
وعلى صعيد سياسي رفض كلّ من تحالف سائرون المدعوم من رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، وتحالف النصر الذي يتزعّمه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، الأحد، ترشيح أي شخصية تنتمي إلى الأحزاب لرئاسة الحكومة المقبلة. وجاء هذا الرفض ردا على تداول اسم القيادي المستقيل من حزب الدعوة الإسلامية والنائب في البرلمان محمد شياع السوداني كمرشح لرئاسة الحكومة.
ويعني ترؤس السوداني للحكومة بالنسبة إلى الصدر والعبادي عودة عدوّهما اللّدود رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي، بقوّة إلى السلطة، وإن بطريقة غير مباشرة.
ذهب العراقيون مرات عدة إلى صناديق الاقتراع بعد إطاحة صدام حسين، لكن ذلك لم ينجب الاستقرار، ولم يفتح باب الازدهار. غلبه الخبث. تبخرت مئات مليارات الدولارات. وحين خرج الناس احتجاجاً، وافتهم «فرق الموت» إلى الساحات. حقائق مؤلمة. بعض الذين رقصوا ابتهاجاً حول جثة صدام أظهروا في ممارساتهم أنهم صَدَّاميون من الوريد إلى الوريد. لا يحنُّ أبداً إلى زمن «القائد الملهم» . كوارث عهده ماثلة للعيان. لكن ما حجم الخسائر البشرية والاقتصادية التي مُني بها العراق في مرحلة ما بعد صدام؟
ومن خلال متابعة التطورات الحالية التي تشهدها البلاد، فإنّ كفة تشكيل الحكومة الجديدة تميل للمتظاهرين الذين مارسوا ضغوطاً على حكومة تصريف الأعمال برئاسة عادل عبد المهدي حتى استقالتها، بحسب متابعين للشأن العراقي، إنّ استقالة الحكومة لم تأتِ بطلب من الكتل الكبيرة أو الصغيرة بل استجابة للحراك الشعبي.
وأوضحوا أنّ “الكتل السياسية خالفت الدستور حين جاءت بحكومة عبد المهدي دون أن تفصح عن اسم الكتلة الأكبر التي يجري الحديث عنها الآن”، لافتاً إلى أن “الحكومة استقالت بضغط الشارع، والأمر الطبيعي الآن هو أنّ الكتلة الأكبر هي الشعب”.
وأن “الأنسب للوضع العراقي الآن هو تشكيل حكومة إنقاذ، لأن البلاد تمر بظروف غير طبيعية، إلا أنّ آراء القوى السياسية لا تسير بهذا الاتجاه، لذا لا بد من الذهاب باتجاه خيار آخر هو تشكيل حكومة مؤقتة حسب رغبة الشعب تتولى مهمات عدة، أبرزها سنّ قانون انتخابات عادل، وتشكيل مفوضية انتخابات جديدة، بعد ذلك يتم حل البرلمان والذهاب باتجاه إجراء انتخابات مبكرة”.
دعا زعيم “ائتلاف الوطنية” إياد علاوي، أمس الأحد، رئيس الجمهورية إلى أن تكون الحكومة المقبلة “مصغرة ومؤقتة لا يتجاوز سقفها عاماً واحداً ولا ترشح للانتخابات، بل تهيئ لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة بقانون انتخابات جديد”، مشدداً، في رسالة وجهها لصالح، على ضرورة الإسراع في إيجاد حل للأزمة الحالية.
في المقابل، يصرّ تحالف “البناء” على كونه الكتلة الأكبر في البرلمان، إذ قال النائب عن التحالف محمد البلداوي، إنّ “البناء” هو الأكثر عدداً وسيقوم بتسمية المرشح لرئاسة الوزراء.
ويصرّ المتظاهرون على شرط أساسي هو استبعاد جميع مرشحي الأحزاب من التكليف برئاسة الحكومة الجديدة. وتوافقت شعارات التظاهرات في بغداد والمحافظات على رفض كل الأسماء التي طرحتها الأحزاب، مع ضرورة إسناد الحكومة لشخصية مستقلة يرضى عنها المتظاهرون.
ويرى متابعون للشأن العراقي إن “تكليف رئيس وزراء من قبل الطبقة السياسية سيكون عاملاً لتصعيد الاحتجاجات، وقوى الفساد تدرك ذلك جيداً”، مبيناً أن “كل ما يقرّه الفاسدون لا يعني المتظاهرين، وستبقى التظاهرات والاعتصامات إلى حين إسقاط آخر فاسد في العراق. ولهذا، فإن تكليف رئيس وزراء من قبل الطبقة السياسية الحالية لا يعني المتظاهرين”. وتابعوا، أن “طرح اسم السوداني استهانة من الأحزاب والقوى السياسية، وقد تؤدي إلى انعكاسات خطيرة على الوضع الميداني”، مبينين أن “على الإيرانيين رفع يدهم هذه المرة، وترك العراقيين يفعلون ما يريدون، لا ما يملى عليهم من خلال الكتل السياسية التي ترتهن لأمر إيران”، مضيفين أن “الرفض الأكبر للسوداني لم يعد نابعاً من كونه وزيرا سابقا أو قياديا في حزب الدعوة بقدر ما استفز العراقيين عودة سليماني للعراق مجدداً ليرسم ما يريد ويفرض السوداني عليهم”.
ويرى المتابعون للشأن العراقي أيضًا أن المأزق السياسي مستمر في عدم قدرة سليماني على إيجاد رئيس وزراء بديل لعبدالمهدي أمام إصرار الانتفاضة على ترشيح رئيس وزراء بالمواصفات الشعبية ولا دور للأحزاب في ترشيحه، لكن القضية في نظر سليماني ليست في الاختيار وإنما تكمن في خشيته من أن تحقيق مطالب الجماهير في اختيار رئيس الوزراء يمكن أن يؤدي إلى تساقط أحجار الدومينو في مطالب حل البرلمان والقانون الانتخابي وتعديل الدستور على طريق إزاحة الأحزاب، وهذا ما يؤرق النظام الإيراني.
وأضافوا أن الاستفزازات العسكرية الإيرانية للوجود العسكري الأميركي في العراق، المتواترة أخيرا، قوبلت بردود فعل شديدة من الإدارة الأميركية يفهم علي خامنئي أكثر من غيره مغزاها في علاقتها بالفوضى السياسية داخل العراق، واحتمالات التسريع في تفكيكه بعد اضطرار طهران إلى الانسحاب من العراق. ورغم العنتريات الإيرانية بسبب أكوام السلاح الإيراني بيد آلاف التابعين المساكين على الأرض العراقية والمرصودة من العيون الأميركية، إلا أن طهران تخشى الذهاب إلى الشوط الأخير في المواجهة العسكرية التي تنهي وجودها في العراق وسط ترحيب شعبي عراقي.
وتابعوا أن ما يحصل في العراق اليوم هو اختزال لقرار الدم الذي اختاره النظام بعد خيار الفساد والنهب منذ عام 2003 إلى حد اليوم، ولهذا فإن اللحظة التاريخية انفتحت أمام الشعب، وساعة رحيل قاسم سليماني عن العراق لم تعد بعيدة، وسيبكي على ماضيه الإرهابي حين كان ينفذ مشروع تصفية الشباب وتهجير أهل الموصل وصلاح الدين وديالى والفلوجة وجرف الصخر من ديارهم، ويتنقل بين الروابي والوديان العراقية متباهيا ومتشفيا بشعب العراق، لكن جدّه كسرى سبق أن ودع مهزوماً قصره بمدينة المدائن شرق بغداد.
ما تفكر فيه الطبقة السياسية اليوم لن يكون ممكنا غدا. ذلك لأن الأزمة بالرغم من كل ما أحاط بها من التباسات إقليمية ودولية كانت ولا تزال عراقية ولم تتعرض لأي محاولة للتدويل.
محنة العراق وطنية شاملة، وليست في الإجراءات والتفاصيل، وضياع استقلال الوطن العراقي هو المأساة الأعظم، التي مهدت، وقادت إلى فوضى شاملة، وإلى تحكم عصابات السلاح والسرقة والنهب بالوكالة وبالأصالة.
إن جوهر أزمة العراق ليست في تبديل وتقليب الصيغ المماطلة اتشكيل الحكومة العراقية، ولا في تقديم قانون انتخابي جديد لمجلس النواب، ولا في تشكيل قضائي غير حزبي لمفوضية الانتخابات، فهذه كلها إيحاءات خادعة، لن تنجح في التخفي بعورات نظام السلطة الشائه البائس، ولن تحجب عن العين جوهر محنة العراق، كبلد عظيم فقد استقلاله الوطني، وخسر مهابته وكرامته، وسرقت ثرواته الهائلة من المنبع، وخضع لدستور شاذ، وضعه بول بريمر حاكم الاحتلال الأمريكي، وبغرض واحد وحيد، هو محو عروبة العراق بعد تهميشها، و»دسترة» عملية تفكيك العراق، وافتعال «فيدرالية» التفتيت، وتقسيم المجتمع إلى طوائف متناحرة، خصوصا في الوسط العربي الغالب، وتحويل الطوائف الدينية إلى «قوميات» متشاكسة طوال الوقت.
وتوارت أبجديات الاستقلال الوطني، وتفكك نسيج الوطنية العراقية الجامعة، وانكسر العمود الفقري العروبي الطابع للتكوين العراقي، ودارت حروب التهجير والفرز الطائفي بين سنة العراق وشيعته، وهو ما أدرك خطره غريزيا، جمهور المنتفضين الشيعة، وقد توالت دورات ثوراتهم الغاضبة، إلى أن بلغت ذراها في الانتفاضة الأخيرة المتصلة، التي يتدافع شبابها إلى حومة الموت والاستشهاد، طلبا لاستعادة عروبة العراق، وتحريره من ربقة المهانة المزدوجة، التي كرسها الاحتلال الأمريكي والهيمنة الإيرانية، وبتصميم بطولي ظاهر عند المنتفضين، يريد استعادة العراق للعراقيين أولا، فلا قيمة لأي حديث عن الديمقراطية في بلد محتل ومهان، فالديمقراطية ليست وسيلة إلهاء وتعمية، بل وسيلة لبناء سلطة الشعب الحر.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية