في جلسةٍ استثنائيةٍ عقدها مجلس النواب العراقي، يوم الأحد الفائت، بمشاركة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، صوّت النواب الحاضرون والذين ينتمون إلى طيفٍ سياسيٍ واحدٍ فقط، على قرار يقضي بإلزام الحكومة العراقية إلغاء طلب المساعدة المقدم إلى “التحالف الدولي” لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي، وإنهاء الوجود العسكري الأجنبي في العراق، ومنع استخدام أجوائه، فضلاً عن تقديم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ضد واشنطن، على خلفية الهجمات التي نفذتها أخيرًا في مدينتي القائم وبغداد، وأسفرت عن مقتل قائد “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني، ونائب قائد فصائل “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس.
هذا القرار أثار غضب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي هدّد ليلة الأحد على الاثنين، بفرض “عقوبات شديدة” على العراق، إذا أُجبِرت القوات الأميركية على مغادرة أراضيه، بعد ساعات من مطالبة البرلمان العراقي الحكومة بـ”إنهاء وجود” القوّات الأجنبيّة في البلاد.
وقال ترمب، على متن الطائرة الرئاسية “إير فورس وان” عائداً إلى واشنطن بعد عطلة استمرّت أسبوعين في فلوريدا: “إذا طلبوا منا بالفعل أن نغادر (…)، فسنفرض عليهم عقوبات لم يروها من قبل”. وأشار إلى أن هذه العقوبات التي هدَّد بفرضها على العراق، ستجعل من تلكَ المفروضة على إيران ضئيلة مقارنةً بها.
وأضاف الرئيس الأميركي: “لدينا قاعدة جوّية باهظة الكلفة بشكلٍ استثنائيّ هناك… لقد كلّفت مليارات الدولارات لبنائها، ولن نغادر إذا لم يعوضوا لنا” كلفتها.
لم تكن جلسةً استثنائيةً فقط لجهة القرارات التي اتخذت من قبل ذلك الطيف السياسي الكبير، مستغلًا غياب الطيفين السياسيين اللذين قاطعا جلسة مجلس النواب، لو لم يقاطعا الجلسة، وعرضت مسودة القرار للتصويت لكان الفشل مصيرها، وإنما استثنائية أيضًا عندما تجاهل عادل عبدالمهدي رئيس الوزراء العراقي المستقيل الأسئلة المهمة التي وجهها إليه محمد الحلبوسي رئيس مجلس النواب، وكأن شيئًا لم يكن، ولكي لا تنحرف مسار الجلسة عن الهدف المراد لها.
فخروج القوات الأمريكية من العراق يعد مكسبا استراتيجيًا لهذا الطيف السياسي، فهذا الطيف كان -ولا يزال- يتهم الولايات المتحدة الأمريكية بدعم الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في غرة تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وعمت معظم محافظات العراق بدءًا بالعاصمة بغداد ومرورًا بمحافظات الفرات الأوسط ووصولًا إلى محافظة البصرة في جنوبي العراق، لكن ربما غاب عن بال بعض أو معظم أنصار ذلك الطيف السياسي، أن مرد تلك الاحتجاجات لم يكن بسبب الوجود الأمريكي في العراق، وإنما لممارساتهم الخاطئة في حكم العراق!
وينظر هذا الطيف إلى الوجود الأمريكي كمصدر تهديد لمصالحه في العراق، فهو من وقت إلى آخر يقوم جناحه العسكري بالاعتداء على المصالح الأمريكية ” البعثة الدبلوماسية، القواعد العسكرية” في العراق، ولأن واشنطن لا ترغب بالتصعيد العسكري مع ذلك الطيف وجناحه العسكري كانت ترسل باستمرار رسائل إنذار بعدم تكرار الاعتداءات.
لكن كانت تفهم تلك الرسائل بشكل خاطىء، واستمروا في عملياتهم العسكرية حتى وصل الأمر بهم إلى قصف قاعدة “كيوان” ما أسفر عن إصابة عدد من الجنود الأمريكيين، ومقتل متعاقد مدني، كانت مسؤولة عن تأمين خطوط نقل النفط العراقي من محافظة كركوك، ردت واشنطن على ذلك باستهداف مقرات كتائب حزب الله العراقي في منطقة القائم في الأنبار، وفي العمق السوري، كان الرد على الاستهداف اقتحام مناصرون للفصائل العراقية المنضوية في هيئة الحشد الشعبي السور الخارجي لمقر السفارة الأمريكية المحصنة في المنطقة الخضراء ببغداد لأول مرة منذ تشييدها بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، ورفعوا أعلام «حزب الله العراق» على جدرانها، لتأتي ضربات درونز أميركية وتقضي على قائد «فيلق القدس» سليماني، المسؤول عن الميليشيات، الذي جاء قادمًا من رحلة عمل، من سوريا ولبنان. وبدلاً من أن يأتي الرد على اغتيال سليماني من إيران جاء من العراق!!
سياسيًا، صوّت مجلس النواب العراقي على خروج القوات الأمريكية من العراق.
عسكريًا: إعادة استهداف السفارة الأمريكية في بفداد والقواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في العراق.
لكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق: ما هي تبعات قرار إخراج القوات الأمريكية من العراق؟
عسكريًا: وبحسب معلومات خاصة حصل عليها مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بسحب قواتها من قواعدها في بلد والكيارة ومطار المثنى “مطار بغداد الدولي الجانب العسكري” ، كونها قواعد رخوة من السهولة بمكان استهدافها، لكن أهميتها تكمن بأنها تقدم الدعم اللوجستي للقوة الجوية العراقية، وبعض القطاعات العسكرية العراقية في مجال التدريب والتنسيق. ومن المقرر أن تنتقل تلك القوات إلى أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق ودولة قطر.
ومن المفيد الإشارة هنا أن هذه القواعد في أثناء عملها، وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية تشكل 40 % من القوة القتالية، ولا شك أن بعد خروج القوات الأمريكية، بأن القدرة القتالية للقوات الأمنية العراقية ستتضاءل لتصل إلى 20 %، ومع مرور الوقت، ستستمر في التضاؤل حتى تصل إلى الصفر المئوي.
أما اقتصاديًا: هدد دونالد ترمب بفرض عقوبات قاسية على العراق إذا أجبرت القوات الأمريكية على مغادرته، وعلى الفور أثر هذا التصريح السياسي بشكلٍ كبير على سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي، ويمكن أن تطبق عقوبات قاسية ضد العراق، فالعراق لأول مرة منذ معاقبة نظام صدام على احتلال الكويت، صار ينتج 4 ملايين برميل نفط يوميًا، ويُمنح تسهيلات كبيرة، وهذه كلها قد تختفي، وسيعود العراق بلدًا محاصرًا فقيرًا، وسوف تعمه الفوضى، نتيجة تورطه في مواجهة واشنطن اصطفافاً مع إيران.
وفي الوقت الذي تخسر بغداد علاقتها مع الدولة الرئيسة الحامية لها، تكون طهران، بخلاف ذلك، قد شرعت في التفاوض مع واشنطن على أمل إنهاء الحصار الاقتصادي عليها.
إن انقسام الأطياف السياسية الثلاثة حول قرار مجلس النواب العراقي، يعني أن العراق يعيش أزمة هوية وأزمة جغرافيا، ومع هذا الانقسام بدأت الأصوات في الشرق والغرب تسأل: هل العراق في طريقه إلى التقسيم الطائفي والعرقي؟
على الأطياف السياسية الثلاثة، وخاصة الطيف السياسي الكبير، أن يعظم مصالح العراق، وعليه أن يدرك بشكل عميق بأن الولايات المتحدة الأمريكية دولة عظمى لا يستقيم التعامل معها بمنطق الانفعالات، وإنما بمنطق تحكمه الخيارات العقلانية، فإيران وعلى الرغم من الضربة الموجعة التي تلقتها باغتيال قاسم سليماني، إلا أنها ولغاية هذه اللحظة تغلب العقلانية في التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها تدرك بشكلٍ عميقٍ جدًا أ،ه ليس من السهولة مواجهتها الولايات المتحدة بصورةٍ مباشرة.
لذلك.. ترى وحدة الدراسات العراقية في مركز الروابط، أن العراق سيخسر الكثير إذا استمر ذلك الطيف السياسي على موقفه من الولايات المتحدة الأمريكية، وتبدأ مرحلة التراجع التي قد تؤثر على حاضر العراق ومستقبله.