لا بد أن علي خامينئي كان يود لو ينسى هذه الأيام التي ذكرت القيادة الإيرانية بأن أمريكا ليست نمراً من ورق، بل نمر حقيقي، وأن قوة إيران متدنية قياساً لها. ولكن ما من جواب كاف بعد على السؤال إذا كان للرئيس ترامب استراتيجية مرتبة في مواضيع الخارجية والأمن، أم أن قراراته ارتجالية.
مثلما توقعنا، فإن الأحداث الأخيرة أثارت جدالات في الولايات المتحدة، بعضها سياسية أكثر مما هي موضوعية. توماس فريدمان، المحلل الكبير في “نيويورك تايمز” (والذي وإن كان أيد تصفية سليماني بل ووافق على أنه سيكون لذلك تأثير إيجابي من ناحية الردع الأمريكي)، لم يمتنع من أن يضيف بضع ملاحظات أقل ثناء على ترامب. بل وكان هو من فسر بأن ليس هناك تضارب بين تصفية سليماني وميزة ترامب الأساسية؛ أي ضرب أعداء أمريكا عند الحاجة، ولكن الامتناع قدر الإمكان عن تدخل بعيد المدى.
ولكن هذا التفسير لا يجيب عن السؤال الأساس آنف الذكر (الذي يمكن أن نطرحه أيضاً حول إدارة أوباما) بشأن الـGrand strategy، أي الاستراتيجية الشاملة التي تقوم على أساس الجوانب العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والعلمية، وما شابه على المدى البعيد، والتي فيها ما يحدد مستقبل الدولة الأمني الشامل.
فمثلاً، يعتقد باحثان أمريكيان، الأول في الأكاديمية والثاني جنرال سابق، بأن كان لأمريكا على مدى التاريخ استراتيجيتان كبريان: استراتيجية جورج واشنطن، التي رفضت الأحلاف العسكرية مع دول أخرى وسادت على مدى 150 سنة، وعقيدة ترومان في 1947 التي تعهدت بالدفاع عن الحلفاء ضد التهديدات من الاتحاد السوفياتي. ترامب، برأيهم، لا يتمسك لا بالاستراتيجية الكبرى الأولى ولا بالثانية، ولكن ثمة فضائل لطريقة عمله غير المتوقعة. فالوضع المتغير بسرعة في العالم –الصين، وروسيا، والضعف البنيوي لأوروبا– يستوجب، برأيهم، جهداً ثقافياً وعملياً عاجلات لإعادة تخطيط الاستراتيجية الكبرى الأمريكية.
وماذا بالنسبة لإسرائيل؟ صحيح أنه يمكن الادعاء بقدر معين من الحق، بأن تطور إسرائيل في كل المجالات تقريباً منذ قيامها يدل بأثر رجعي على أن لزعمائها، من بن غوريون وحتى نتنياهو، استراتيجية كبرى غير مكتوبة في المواضيع الأساسية، وإن كانت مع غير قليل من التجارب والأخطاء. ويمكن أن نقول ذلك على نحو خاص بشكل إيجابي بشأن مواضيع الأمن والسياسة الخارجية، التي ثبت مبادئها الحديدية في حينه زئيف جابوتنسكي (“الحائط الحديدي”) وبن غوريون في صياغة أخرى، لا تزال سارية المفعول حتى اليوم. بمعنى أن ازدهار وأمن دولة إسرائيل – كذا استعداد جيرانها العرب للتسليم بوجودها– مشروطان بضمان قوتها العسكرية (هذا المبدأ يجد تعبيره أيضاً في البند الذي حرصت إسرائيل على إدراجه في ارتباطاتها الأمنية مع الولايات المتحدة، أي “يمكن لإسرائيل أن تدافع عن نفسها بنفسها”).
وثمة مبدأ آخر في المجال السياسي يتمثل بوجوب الاجتهاد لأن يكون هناك تقارب في المواقف مع القوة العظمى المتصدرة في العالم. وقد أصدرت محافل مختلفة، سواء رسمية أم بحثية، من تحت أيديها في الزمن الأخير وثائق مهمة في الموضوع الأمني–السياسي. وثمة مثال ملموس آخر لما يمكن وينبغي من هذه الناحية، مثلما تحدثت مرجعية أمنية كبيرة جداً، وهو التوافقات بين رئيس الوزراء نتنياهو والرئيس الروسي بوتين حول أعمال الجيش الإسرائيلي في سوريا، إلى جانب تعميق التنسيق مع أمريكا. ولكن من الصعب الامتناع عن السؤال فيما إذا كان كل هذا كافياً في الواقع الجغرافي السياسي والاستراتيجي المتغير بسرعة في الشرق الأوسط وفي العالم، بما في ذلك وضع يهود أمريكا والعلاقة معهم، لضمان ازدهار وأمن الدولة للأجيال القادمة أيضاً؟
رداً على هذا التحدي، شرعت “مؤسسة شموئيل نئمان للبحوث السياسية القومية” قبل نحو سنتين، في مشروع هدفه المعلن هو، ضمن أمور أخرى، “ربط العناصر المختلفة للقوة القومية… وضمان أن تتمتع إسرائيل بتفوق تنافسي، سواء في المستوى الوطني أم المستوى الدولي”. يحتمل أن تكون هناك محافل أخرى، رسمية، وأكاديمية، وخاصة، تعنى بوضع استراتيجية كبرى لإسرائيل. أما الاختبار الأساس فسيكون بالطبع في مسألة بأي قدر ستتبنى إسرائيل الخط التوجيهي لأوراق العمل هذه، ولكن إحدى علامات الاستفهام التي تثور في هذا السياق هي كيفية العمل في وضع لا يكون فيه لحليفتها الأساس، وفي واقع الأمر الوحيدة، أمريكا، استراتيجية كبرى يمكن التعاطي معها؟
القدس العربي