يبدو أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الجانبين، التركي والروسي، وهو أقرب إلى التفاهم، بشأن الأوضاع في منطقة إدلب في شمال سورية، كان أفضل الممكن بالنسبة إلى الرئيس التركي أردوغان. وهو اتفاق كان متوقعاً إلى حدٍ كبير، استناداً إلى المتغيرات العسكرية الميدانية، وتفاقم الكارثة الإنسانية نتيجة نزوح أكثر من مليون إنسان، معظمهم من النساء والأطفال عن منازلهم، بحثاً عن ملاذٍ آمن في الفضاء المفتوح الذي ظل هدفاً لهجمات طيران الروس والنظام على المدنيين الهاربين من جحيم المعارك، بقصد قتل مزيد منهم، وترويع الغالبية، ورسم حدود مناطق النفوذ، وربما التقسيم مستقبلاً، بالحديد والنار، فالمواقف الدولية، خصوصا الأميركية والأوروبية، كانت تدفع باتجاه الوصول إلى اتفاقٍ ما، حول منطقة آمنة، تضمن الأمن للمدنيين، وإتاحة المجال أمام المنظمات الإغاثية لتقديم العون والمساعدة للناس على الأرض السورية، وذلك بهدف قطع الطريق أمام توجههم نحو أوروبا، وغيرها من المهاجر. هذا في حين أن الروس لم يتمكّنوا من ناحيتهم، بموجب هذا الاتفاق، من الوصول إلى هدفهم الدائم المعلن، وهو ضرورة سيطرة نظام بشار على كامل التراب السوري.
وعلى الرغم من الحشود الكبيرة التي دخلت إلى منطقة إدلب والساحل السوري، سواء من الجانب التركي أو الروسي؛ فضلاً عن الاستعدادات الميدانية المستمرّة، لم تحصل المواجهة
“المواقف الدولية، خصوصا الأميركية والأوروبية، كانت تدفع باتجاه الوصول إلى اتفاقٍ ما، حول منطقة آمنة للمدنيين”الفعلية بين الجانبين اللذين كان واضحا أنهما يتحاشيان أمراً من هذا القبيل؛ بل كانا يصرّان على تسويق الرسائل عبر نسب الأفعال الميدانية الحساسة، خصوصا المجزرة التي تعرّض لها جنود أتراك، أو إسقاط طائرات النظام، إلى جيش النظام وفصائل المعارضة السورية؛ مع تيقّن الجميع بأن تلك الأفعال لم تكن لتتم لولا دعم ومساندة القوات الروسية، بل وفعلها، خصوصا الجوية منها؛ هذا إلى بالإضافة إلى تدخل الجيش التركي المباشر في المعارك أخيرا بعد المجزرة التي تعرّض لها الجنود الأتراك، ويشار هنا بصورة خاصة إلى التأثير الفاعل للمسيرات التركية.
ولكن واضح أن الجيش المذكور يشدّد على ضرورة حصر المواجهة بينه وبين قوات النظام، ويدعو الروس إلى الابتعاد عن الميدان؛ هذا في حين أن التعتيم على الدور الإيراني والمليشيات المرتبطة به كان لافتاً، الأمر الذي استنتج منه بعضهم وجود إمكانية إخراج بشار من معادلة التسوية المستقبلية، إذا ما تمت. وما يدعم هذا التوجه أن الاتفاق الذي تم كان بين الروس وتركيا فقط، وبعيداً عن مسار أستانة – سوتشي الثلاثي؛ كما أن النظام لم يكن له أي وجود ملحوظ، ولا ذكر، في سياق المباحثات المطوّلة التي كانت بين الرئيسين، التركي أردوغان والروسي بوتين، أولاً، ومن ثم بين الوفدين الروسي والتركي رفيعي المستوى.
لقد أرضى هذا الاتفاق الأولي الذي سيتبين لاحقاً مدى صموده ودرجة الالتزام به من الأطراف المعنية، بصورة نسبية، مختلف الأطراف الدولية المعنية بالملف السوري، وتطورات الأوضاع في المنطقة، والنتائج الآنية والمسقبلية المترتبة عليه، فأميركياً كان من الواضح من تلك التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية، بومبيو، ودبلوماسيون عديدون مسؤولون عن الملف السوري، سيما جيمس جيفري، وجود رغبة معلنة على الأقل، في الاستعداد الأميركي لمساعدة
“النظام لم يكن له أي وجود، في سياق المباحثات المطوّلة التي كانت بين الرئيسين، التركي أردوغان والروسي بوتين”تركيا التي قالوا عنها أنها حليفتهم في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي التصريحات التي تم دعمها بالزيارة اللافتة التي قام بها جيمس جيفري، وكيلي كرافت، ودافيد ساترفيلد، إلى منطقة باب الهوى، واللقاءات التي أجروها مع أعضاء من منظمة الخوذ البيضاء، والناس في المنطقة؛ وهي إشارة معبرة تؤكد الدعم الأميركي للموقف التركي بهذه الدرجة أو تلك، فأميركا منذ البداية، لم تكن تريد تسليم ملف محافظة إدلب بالكامل للروس، بل كانت حريصة على تقديم الدعم، حتى وإن لم يكن حاسماً، لتركيا في إشارةٍ واضحةٍ منها إلى أن التحالف الاستراتيجي مع تركيا يبقى من الأسس التي تعتمدها الإدارة الأميركية في سياساتها الشرق أوسطية، خصوصا في ظروف المواجهة مع إيران؛ هذا إلى جانب السعي من أجل تحجيم الدور الروسي بما يتلاءم مع التصورات الأميركية لمستقبل المعادلات التوازنية في المنطقة.
من جهة أخرى، يلبي الاتفاق، موضوع الحديث هنا، إلى حد ما، المطالب الأوروبية التي تمحورت حول ضرورة إنشاء منطقة آمنة، أو مناطق آمنة في الشمال السوري، وذلك بهدف تحاشي مخاطر موجاتٍ جديدةٍ من اللاجئين السوريين المتوجهين نحو أوروبا التي تعاني أصلاً من جملة مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وفي مقدمتها تصاعد النزعات الشعبوية واليمينية المتطرّفة المعادية لسياسة فتح البلدان الأوروبية أمام مزيد من اللاجئين، فبموجب الاتفاق الذي تم، ستتوقف المعارك، وسيُسمح للمواطنين السوريين النازحين بالعودة؛ وهو الأمر الذي تدور حوله تساؤلات كثيرة، فأولئك الذين نزحوا من المناطق التي سيطر عليها النظام بدعم روسي وإيراني، لن يعودوا على الأغلب، وهذا معناه استمرارية المشكلة، إلا في حالة بذل جهودٍ دوليةٍ لتأمين منطقة آمنة لهم في المناطق التي تسيطر عليها تركيا، شرط ضمان عدم تعرّضهم لقصف جوي أو صاروخي ومدفعي من جانب حلف الروس والنظام والقوات الإيرانية
“الذين نزحوا من المناطق التي سيطر عليها النظام لن يعودوا على الأغلب، وهذا معناه استمرارية المشكلة” والمليشيات التابعة لها.
ولكن بصورة عامة، يبقى الاتفاق هشّا، تتوقف احتمالية استمراريته على مدى التزام مختلف الأطراف به، خصوصا أن الروس قد منحوا أنفسهم، كعادتهم في جميع الاتفاقيات التي كانت من هذا القبيل، حرية الحركة تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وهي سياسة مستمرّة، اعتمدوها لقضم مزيد من المناطق. كما أن تركيا قد احتفظت لنفسها بحق الرد على أي عمل عسكري من النظام، وهذا الأمر هو الآخر يؤكد أن ما تم التوصل إليه لا يمثل حلاً، بقدر ما يعتبر هدنةً اضطراريةً، فرضتها الظروف على الطرفين، كل لاعتباراته الخاصة.
كيف سيتم التعامل مع وجود هيئة تحرير الشام؟ وما هو مصير طريق إدلب دمشق؟ وما مصير نقاط المراقبة التركية؟ ماذا عن سيطرة النظام على المدن المفصلية في محافظة إدلب؟ وما هو موقع الاتفاق برمته من خريطة التسويات التي تمت؟ ما هي آليات التطبيق وحل الخلافات؟ كل هذه الأسئلة، وغيرها، تبقى معلقة في انتظار ما ستسفر عنه الأيام المقبلة. وفي جميع الأحوال، يبقى موضوع وقف المعارك بين القوى المتصارعة في الشمال السوري، وسورية بصورة عامة، لصالح السوريين المدنيين، خصوصا في ظل واقع خروج زمام المبادرة من أيدي السوريين معارضة وموالاة، وذلك انتظاراً لحل سياسي شامل، نأمل أن يمكّن السوريين من استعادة بلادهم، وثقتهم بمستقبل أفضل، يمكّنهم من التعايش المشترك، على الرغم من كل ما حصل.
وحل كهذا لا يمكن أن يستقيم أبدا بوجود النظام الذي يعتبر المسؤول الأول المباشر عن الكارثة السورية. وهذا معناه أن الإصرار على تسويقه من هذه الجهة الدولية أو تلك، مؤدّاه الإصرار على تقسيم البلد والشعب، على الرغم من كل التصريحات التخديرية التي نسمعها هنا وهناك، وهي تصريحاتٌ تؤكد، في جانبها الإعلامي الدعائي، أهمية الحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً.
يعاني المجتمع الدولي في مواجهة القيامة السورية من حالة إرباك وتعارض في التوجهات والمصالح. ويبدو أن مستقبل الحل في سورية قد ارتبط، إلى حد كبير، بالوضعين، اللبناني والعراقي، وهذا يعد مجرّد تحصيل حاصل، إذا ما استوعبنا جيداً الدور المفتاحي الذي تتمتع به سورية على مستوى المنطقة؛ ومدى التأثير والتأثر المتبادلين بين الأوضاع السورية والإقليمية.
وبناء على ما تقدم، تأتي أهمية الموقف الأميركي القادر على الحسم، إذا ما توفرت الإرادة لدى الإدراة المشغولة هذه الأيام بحساباتها الانتخابية الداخلية، وهي حساباتٌ عادة ما تكون لها الأولوية في عام الانتخابات، وهو العام الذي تتحوّل فيه الإدارة إلى بطّة عرجاء؛ ولعل الموقف الأميركي الذي طالب مجلس الأمن بالتريث في إعلان دعمه الاتفاق المعني، يؤكد الأمرين معاً: القدرة على الحسم والرغبة في الإرجاء.