إجراءات تخفيف التجول والحجر الصحي المرتبطة بمكافحة جائحة كورونا لم تمنع آلاف المواطنين اللبنانيين من الخروج إلى الشوارع، وقطع الطرقات وإحراق الإطارات في طرابلس والعاصمة بيروت وجبل لبنان والبقاع، وذلك في احتجاجات جديدة يلوح أنها تستأنف الانتفاضة الشعبية العارمة التي عمت لبنان في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وطالبت بالتغيير الجوهري وإنقاذ المواطن اللبناني من تدهور الاوضاع المعيشية وجنون الأسعار وانهيار العملة الوطنية وهيمنة نظام الفساد والمحاصصة الطائفية.
فتيل موجة الاحتجاجات الجديدة أشعله عجز حكومة حسان دياب عن مواجهة المشكلات المعاشية اليومية المتفاقمة التي تجعل 50٪ من المواطنين تحت خط الفقر، بينهم 30٪ تحت خط الفقر المدقع حسب تقديرات البنك الدولي. وكانت هذه الحكومة قد تشكلت على أساس أنها المخرج والحل لأنها تألفت من «اختصاصيين» ليسوا أعضاء في البرلمان ولا يمثلون تنظيمات سياسية، لكن هذه الصورة سرعان ما كشفت حقيقة ارتباط الحكومة بثلاثي «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» و«حركة أمل»، وبالتالي استأنفت الكثير من أساليب النهج القديم في الحكم وسوء الإدارة والتقصير والفساد.
كذلك تجددت جذوة الاحتجاج الشعبي على خلفية الغلاء الجنوني في الأسعار مقابل هبوط العملة الوطنية التي تخطت عتبة 4000 ليرة مقابل الدولار، في موازاة سعر الصرف الرسمي الثابت عند 1500 ليرة، وفي استمرار الحرب التي تشنها المصارف على ودائع اللبنانيين، والتضييق في منح القطع الأجنبي مقابل ما تردد ويتردد عن السماح لقلة قليلة من المتنفذين بإخراج مليارات الدولارات إلى مصارف أجنبية. وإذا لم يكن من جديد في هذه المواجهة المفتوحة بين المواطنين وجبهة المصارف، فإن انكماش الاقتصاد الناجم عن إجراءات مكافحة جائحة كورونا تكفل بإضافة المزيد إلى عذابات السواد الأعظم من المواطنين اللبنانيين وإضعاف قدراتهم الشرائية أكثر فأكثر.
وما يزيد في سوء الأوضاع أن حكومة دياب دخلت مؤخراً في مواجهة معلنة مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ضمن استقطاب ثنائي جديد يهدد بشق صفوف الائتلاف الثلاثي الذي رعى ولادة الحكومة، بين «حزب الله» الذي يطالب برأس سلامة ويتهمه بكل الشرور، و«حركة أمل» التي تحث على التريث في إقالة الحاكم، والرئيس ميشيل عون وتياره الذي يضع قدماً هنا وأخرى هناك. صحيح بالطبع أن سلامة يتحمل مسؤولية الكثير من القرارات التي أضرّت بالليرة اللبنانية وسياسات المصارف إجمالاً، والتي كان آخرها امتناعه عن التدخل لوقف انفلات سوق العملات، ولكن من الصحيح أيضاً أنه ثابت في منصبه منذ سنة 1993، وقد عاصر رؤساء كثرا وحكومات شتى وبالتالي هو أحد المشاركين في منظومة والقيّمين على نهج متكامل، ويتوجب استطراداً مساءلة صلاحياته القصوى كحاكم مالي أوحد قبل التفكير في إقالته كفرد.
ومن المثير للقلق أن رد فعل السلطات الأمنية اللبنانية على مظاهر الاحتجاج الأخيرة كان عنيفاً وعلى نحو غير مسبوق، أسفر عن مقتل مواطن وجرح آخرين في طرابلس، وأن الائتلاف الثلاثي الداعم لحكومة دياب استغل هذه المناخات لتسعير الاستقطابات السياسية التقليدية وإحياء الانحيازات القديمة الطائفية والمناطقية، الأمر الذي انخرطت فيه أيضاً بعض القوى المناوئة للحكومة ومسانديها.
وكأن هذه الطبقة السياسية لم تتعلم أي درس من شعار الانتفاضة الشعبية الشهير، الذي طالب بمحاسبة الكل وبلا استثناء.
القدس العربي