أثقلت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) كاهل اقتصادات دول العالم، ومع تضرر كبرى الاقتصادات العالمية، أصبحت الدول النامية في وضع أكثر ضعفاً، ومن بينها بلدان أفريقيا والشرق الأوسط التي تعج بالفعل بمشكلات متعددة، بما في ذلك صراعات طويلة وتوترات سياسية داخلية واسعة النطاق وأزمات اقتصادية. هذه الدول هي نفسها التي يرتكز عليها المشروع الصيني الضخم مبادرة “طريق الحرير” أو “الحزام والطريق”، الذي ينطوي على إنفاق تريليون دولار في مساعدات البناء والاستثمارات في أكثر من مئة دولة عبر آسيا الوسطى وأفريقيا وأوروبا.
ويجمع المشروع بين الحزام الاقتصادي بطريق الحرير البري والطريق البحري الذي يربط الصين بأوروبا عبر جنوب شرق آسيا، وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، وهو يغطي 70 في المئة من سكان العالم، و75 في المئة من احتياطيات الطاقة المعروفة. ويقدّر معهد كيل، وهو مجموعة بحثية ألمانية، إقراض الصين العالم النامي نحو 520 مليار دولار أو أكثر، معظمها في السنوات القليلة الماضية، ما يجعلها مقرضاً أكبر من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي.
وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط، فعلى مدى السنوات السبع الماضية، وفقاً لمؤشر تشينا غلوبال إنفستمنت تراكر، المتخصص في حركة الاستثمار، استثمرت بكين ما يقدّر بـ93.3 مليار دولار في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بشكل رئيس في الطاقة (52.8 مليار دولار)، والعقارات (18.4 مليار دولار)، والنقل (18.6 مليار دولار)، والمرافق (5.9 مليار دولار)، ومن المتوقّع أن ينمو هذا الرقم بشكل كبير خلال العقد المقبل، إذ تدخل استراتيجية طريق الحرير مرحلتها التالية.
معضلة الاقتصاد والقروض
لكن، أمام الطموحات الاقتصادية الضخمة للتنين الصيني، جاء الفيروس القاتل الذي ظهر أولاً في مدينة ووهان الصينية في ديسمبر (كانون الأول) 2019، وانتشر منها إلى جميع أنحاء العالم، ليلقي بمعضلة كبرى لطموحات بكين. تتمثل المعضلة التي يواجهها المشروع الصيني العملاق في عدة تحديات، تبدأ من توقف العمل بالمشروعات في ظل استراتيجية الإغلاق التي تتبعها معظم بلدان العالم، لوقف انتشار الفيروس، مروراً بتوقّف حركة الطيران، ووصولاً إلى أزمة الديون التي تتعلق بقروض البلدان والشركات العاملة في المشروعات الخاصة بالمبادرة، وسط ما تواجهه من خسائر اقتصادية بالداخل.
في تقرير صدر الجمعة الماضية، توقّع بنك التنمية الآسيوي أن تتعدى خسائر الأزمة الاقتصادية الناجمة عن فيروس كورونا المستجد ثمانية تريليونات دولار، بينها خسائر آسيوية تتراوح بين 1.7 و2.5 تريليون دولار، أمّا خسائر الصين وحدها فستتراوح بين 1.1 و1.6 تريليون دولار، وفقاً للبنك. وتبلغ هذه الخسائر المتوقعة ما بين 6.4 في المئة و9.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهي أسوأ من التوقعات المعلنة في أبريل (نيسان) الماضي، إذ رجح البنك أن تبلغ ما بين 2 و4.1 تريليون دولار.
وردّاً على تفشي الفيروس التاجي، تحوّلت الحكومة الصينية إلى سلسلة من الإجراءات الشديدة للسيطرة على انتشار الفيروس، إذ أوقفت السفر الدولي، وفرضت الحجر الصحي على المدن، وفرضت عمليات الإغلاق في جميع أنحاء البلاد، وهو ما أدّى إلى توقعات بتباطؤ الاقتصاد الصيني، ووفقاً لبعض التوقعات فإنه حتى في ظل أكثر تدابير التحفيز صرامة، قد لا تتمكّن الصين من تحقيق نمو بنسبة ثلاثة في المئة هذا العام، وهو ما سيكون له آثار في استراتيجية طريق الحرير الطموحة للبلاد، حسب معهد الشرق الأوسط للدراسات في واشنطن.
وأعلن بنك التنمية الصيني أخيراً أنه سيقدم قروضاً منخفضة التكلفة إلى الشركات المتضررة العاملة في مشروعات طريق الحرير، على الرغم من أنه من المُفترض أن تذهب هذه القروض بشكل أساسي إلى الشركات الصينية. كما يذكر معهد سياسات المجتمع الآسيوي، أنّ مشروعات طريق الحرير تعتمد في الغالب على المواد والإمدادات الصينية، بدلاً من المحلية، ومن ثمّ فإنّ تفشي الفيروس أثر في سلاسل توريد التصنيع الصينية التي تعتمد عليها هذه المشروعات، وأدّى الوباء إلى تقويض سلاسل التوريد العالمية التي تحافظ على استمرار عملها، ما يحدّ من تدفق البضائع خارج الصين إلى الحدّ الذي تعاني فيه بكين عجزاً تجارياً خلال الشهرين الأولين من العام.
ليس ذلك فحسب، فقد عطّل الفيروس التاجي صناعة الشحن العالمية التي تباطأت إلى درجة أقل ما كانت عليه خلال أسوأ نقاط الأزمة المالية لعام 2008. وفرضت أكثر من 130 دولة حول العالم قيوداً على دخول المواطنين الصينيين من الأفراد المسافرين من الصين. وكلما طالت فترة عدم تمكّن العمال الصينيين من العودة إلى مشروعات طريق الحرير في الخارج، زادت مدة المشروعات غير المكتملة، ما يتسبب في التخلي عن بعضها تماماً. ويقول معهد الشرق الأوسط إن انتشار فيروس كورونا “كان له تأثير مباشر في مشروعات بكين الخاصة بمبادرة طريق الحرير بالشرق الأوسط”.
إعادة التفكير في الشراكة
ويضيف، في تقرير صدر حديثاً، “عمليات حظر السفر المقيدة وإغلاق الموانئ والرحلات الجوية منعت العمال الصينيين من العودة إلى مواقع العمل بالمنطقة، بينما أدّى إغلاق المصانع الصينية المسؤولة عن الآلات والمواد الخام لمشروعات المبادرة، إلى إعاقة المشروعات من المُضي قدماً”. وتتسبب هذه الاضطرابات وغيرها “في حدوث تأخيرات وعدم التزام المواعيد النهائية، وزيادة تكاليف بناء البنية التحتية، التي ربما تجد الاقتصادات المحلية صعوبة في استيعابها”.
وأشار تقرير صادر في أبريل (نيسان) الماضي، عن إدارة فيتش سوليوشنز لإدارة البحوث في وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، إلى أنّ “مشروعاً للسكك الحديدية بين الصين وماليزيا ومشروع القطار الفائق السرعة في تايلاند، الذي تموّله بكين، عُلّقا بالفعل”.
وعلى الرغم من أنه من غير المحتمل أن يكون للوباء تأثير قاتل لتنفيذ مشروعات المبادرة، حسب المعهد الأميركي، فإن الانتشار السريع والمميت للمرض سيجعل الحكومات “تُعيد التفكير في المخاطر المرتبطة بمزيدٍ من التكامل والاعتماد الاقتصادي على استراتيجية التنمية الصينية القائمة على البنية التحتية”.
وهذه الملابسات إلى جانب حملة واشنطن المناهضة الصين بسبب سوء تعاملها مع أزمة الفيروس منذ البداية وإخفاء معلومات بشأن انتقال العدوى من شخص إلى آخر، يمكن أن تؤدي ببعض الدول إلى إعادة النظر في مشاركة بكين مبادرتها الكبرى.
سمعة الصين على المحك
ليس هذا فحسب، يوجد جانب آخر أشد ضراوة يتمثل في مليارات من القروض التي منحتها الصين للدول الفقيرة في إطار هذه المبادرة الضخمة. فحسب تقرير نشرته أخيراً صحيفة نيويورك تايمز، فإنّ الدول الفقيرة تريد من بكين إعفاءها أو إعادة التفاوض على القروض، بسبب معاناة اقتصاداتها في ظل انتشار فيروس كورونا، وبينما خيار مثل ذلك سيكون مكلفاً لبكين، فإنّ الرفض سيضر بشدة صورتها العالمية، لا سيما في ظل وصمة ارتباطها بالوباء الذي أضرّ سكان العالم.
وفي تعليقات للوكالة الفرنسية، قالت ماري فرانسواز رينار، مديرة معهد البحوث الاقتصادية في الصين (IDREC)، إنها “عملية موازنة صعبة، وضعت الصين بالفعل عدداً من الإجراءات لدعم اقتصادها العام الماضي، لكن أجبرها الوباء على إنفاق المزيد، الأمر الذي يقلل من ميزانيتها للمناورة”.
وطلبت باكستان وقيرغيزستان وسريلانكا وعدد من الدول الأفريقية، من الصين “إعادة هيكلة” مليارات الدولارات من القروض، و”تأجيل السداد”، أو “التنازل عن عشرات المليارات من الدولارات” من القروض المستحقة هذا العام.
وفي تعليقات لصحيفة فايننشيال تايمز البريطانية، قال باحث في بنك التنمية الصيني، “بنك السياسة” الذي يقود عدة قروض لمشروعات المبادرة: “نفهم أن كثيراً من الدول تتطلع إلى إعادة التفاوض بشأن شروط هذه القروض. إنها عملية تستغرق وقتاً”، وأضاف “هذه القروض ليست مساعدات أجنبية. توجد حاجة إلى التفاهم بشأن الأمر”.
لكن، رينار تعتقد أن بكين يمكنها التغلب على هذه التحديات في أفريقيا، وقالت إن غالبية الدول الأفريقية “تعتقد أن هناك كثيراً مما هو متوقع من الصين، التي ساعدتها حتى الآن على التطوّر أكثر من الولايات المتحدة أو أوروبا”، وأشارت إلى أنّ هذه الدول لن تغلق الباب بوجه مبادرة طريق الحرير إلا “إذا واجهت مشكلات مباشرة مع بكين، أو اعتقدت أن فوائد مشروعات البنية التحتية لن تتحقق”.
إنجي مجدي
اندبندت عربي