ليست معروفة بالضبط الأسباب الحقيقية التي دفعت إيران إلى إعادة موضعة بعض المليشيات التابعة لها في سورية، وخروج بعض منها نحو العراق في الأيام الماضية. هل هذه نتاج الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية التي قال وزير الأمن السابق، نفتالي بينيت، إن الهدف منها هو إخراج إيران عسكريا من سورية قبل نهاية العام الجاري؟ أم أنها تأتي في سياق استراتيجي آخر مختلف كليا؟ في الإجابة على السؤال الأول، من الصعوبة بمكان ربط الانسحاب العسكري الإيراني من سورية، أو تخفيف الوجود العسكري الإيراني بالضربات العسكرية الإسرائيلية.
صحيح أن إسرائيل بدأت، أخيرا، تغير نمط استراتيجيتها السابقة “المعركة بين الحروب”، والانتقال إلى استراتيجية تكثيف الهجمات، مصحوبة بتكتيك “النقر على السطح”، القائم على الإبلاغ مسبقا بشن عملية عسكرية لمنع وقوع ضحايا بشرية، وقصر الخسائر على العتاد الحربي، إلا أن هذه الاستراتيجية الجديدة لم تحقق أهدافها في سورية، بحسب مراكز أبحاث إسرائيلية وأميركية، ويمكن تلمّس ذلك من خلال أمور عدة:
أولا، إبلاغ إسرائيل نهاية العام الماضي الروس عزمها تكثيف هجماتها على القوات الإيرانية في سورية، مع تبني المسؤولية عن هذه العمليات، بشكلٍ يضع حدا لسياسة الغموض التي اتسمت بها العمليات الإسرائيلية في سورية، منذ العام 2014.
الانتقال من استراتيجية إلى أخرى مؤشّر على فشل الاستراتيجية القديمة، كما أن تخلي إسرائيل
“إيران ما تزال المورد المالي الرئيسي للنظام الذي يستطيع أن يتحمّل الضربات الإسرائيلية”عن سياستها التقليدية القائمة على غموض الهجمات العسكرية، والانتقال إلى سياسة التصريح، هدفها إحراج صناع القرار في إيران أمام قواعدهم الشعبية، وأمام حلفائهم، نوعا من ممارسة الضغط السياسي والإعلامي.
ثانيا، استمرار إيران في نقل أسلحة متطورة إلى حزب الله، وقد أكدت تقارير إسرائيلية امتلاك الحزب ترسانة من الصواريخ المتطوّرة.
ثالثا، استمرار تعزيز إيران وجودها العسكري في سورية، بل وتكثيفه، وفي نهاية الشهر الماضي (إبريل/نيسان)، قالت قناة كان الإسرائيلية الرسمية إن “تصاعد وتيرة الغارات في سورية خلال الأسابيع الأخيرة يشير إلى إسراع إيران في تنفيذ مخططاتها العسكرية هناك”.
في الإجابة على السؤال الثاني، ربما يكون تفسير المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، جيمس جيفري، معقولا، حين قال، قبل نحو أسبوع، إن إيران لم تعد في حاجة إلى أعداد كبيرة من القوات البرية على الأرض، فضلا عن التكاليف المالية الباهظة لاستمرار انتشار القوات في ظل العقوبات الاقتصادية المستمرة من الولايات المتحدة، ناهيك عن الضغوط المالية الهائلة التي فرضها انتشار وباء كورونا على إيران. وفي هذا إشارة إلى أن إعادة التموضع العسكرية مسألة تكتيكية وليست استراتيجية، أقله في الظاهر.
وقد يبدو مفهوما، بلغة السياسة والدبلوماسية، عدم ذكر جيفري الدور العسكري الإسرائيلي والدور السياسي الروسي في إعادة موضعة إيران بعض القوات العسكرية التابعة لها في سورية، وكأنه عمد قصدا إلى عدم التقليل من وزن إيران في المعادلة السورية، فهو يدرك أن انسحابها العسكري من الجغرافيا السورية لا يمكن أن يتحقق بالهجمات العسكرية الإسرائيلية، مهما بلغت من الكثرة والقوة، وأن روسيا وحدها غير قادرة على إخراج إيران من سورية، إلا ضمن معادلة دولية إقليمية، تكون فيها إيران جزءا من الحل المتفق عليه. ولكن أخطر ما جاء في حديث جيفري مطالبته بانسحاب جميع القوات الأجنبية التي دخلت سورية، وهذا يشمل القوات الأميركية والإيرانية والتركية، من دون ذكر للقوات الروسية، في إشارة ربما إلى تفاهم روسي ـ أميركي، أو ربما عرض أميركي لروسيا مفاده ترك الولايات المتحدة سورية لروسيا مقابل خروج جميع القوات الأجنبية والانتقال إلى المسار السياسي.
هل هذا مؤشر أولي لصفقة أميركية ـ روسية؟ إذا ما أخذنا بالاعتبار ما كشفه المرصد السوري
“الانتقال من استراتيجية إيرانية إلى أخرى مؤشّر على فشل الاستراتيجية القديمة”لحقوق الإنسان، قبل أيام، أن تحالفا ثلاثيا بين إسرائيل وقوات التحالف الدولي وروسيا، يعمل، بشكل غير مباشر، لإغلاق طريق طهران بيروت من الجانب السوري، ومجابهة النفوذ الإيراني في البادية السورية، فإننا سنكون أمام صفقة غير واضحة المعالم، وإن كانت في الظاهر متمحورةً حول إخراج إيران من سورية، أو حصرها في بقع جغرافية محدّدة. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، بسبب التباينات في الأهداف بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة ثانية، فبالنسبة للأخيرتين ينحصر الهدف بمنع تحويل سورية إلى ساحة عسكرية للنفوذ الإيراني، بما يهدد إسرائيل بشكل مباشر، وإضعاف التمدّد الإيراني في المنطقة. أما بالنسبة لروسيا، الأمر مختلف تماما، فهي تريد إضعاف التأثير السياسي الإيراني في سورية الذي يشكل عقبة في تمرير رؤيتها السياسية، ولن يحدث ذلك إلا بإضعاف حضورها العسكري في الجغرافيا السورية، بحيث يصبح زائدا لا إضافة فيه، ولا تأثير فيه على موازين القوى، كما أن حرمان الإيرانيين من بعض المناطق الجغرافية الحدودية يضعف من استفادتهم الاقتصادية في نقل البضائع.
بعبارة أخرى، لن يكون أمام روسيا سوى طريق تخفيف الحضور العسكري الإيراني في سورية، أو تحويله إلى وجودٍ عديم الفائدة، وزائدا عن الحاجة من الناحية العسكرية، وذا تأثير سلبي من الناحية الاستراتيجية على النظام السوري، غير أن هذا الطريق بالغ الصعوبة وطويل الأمد، فضلا عن أن التأثير الإيراني في سورية ما عاد يقتصر على البعد العسكري فحسب، فقد أصبحت لإيران قوى محلية: شيعية وعلوية وعشائرية سنية، ناهيك عن حصول كثيرين من عناصر المليشيات التابعة لها على الجنسية السورية، وتوجد في القواعد العسكرية للنظام. والأهم من ذلك كله أن إيران ما تزال تشكل المورد المالي الرئيسي للنظام الذي يستطيع أن يتحمّل الضربات الإسرائيلية مهما بلغت من القوة، طالما بقيت من دون سقف تدمير قوته الرئيسية.
وفقا لذلك، إخراج إيران عسكريا من سورية، أو تحييد وجودها العسكري، مسألة شبه مستحيلة، في ضوء المعطيات الاستراتيجية التي يقوم عليها الملف السوري في الساحات، المحلية والإقليمية والدولية.
حسين عبدالعزيز
العربي الجديد