يسأل معظم الأوساط السياسية اللبنانية عن سبب النقاش المبكر الذي فتحته الولايات المتحدة الأميركية هذه السنة حول إجراء تعديل في مهمة انتداب قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب لبنان (يونيفيل)، قبل نحو أربعة أشهر من تاريخ التجديد لهذه القوات في آخر أغسطس (آب) المقبل.
أدى ذلك إلى فتح نقاش مبكر أيضاً في بيروت بين الأطراف المحلية المعنية بهذا الاستحقاق، ينتظر أن يستمر في الأسابيع المقبلة، فيما اعتادت واشنطن في السنوات الماضية على إثارة هذا الموضوع في يوليو (تموز) أي قبل 3 أو 4 أسابيع من موعد التجديد لهذه القوات. والبارز أن إثارة الموضوع ترافقت مع حصول حادثتين بين وحدات من القوات الدولية في الجنوب وبين “الأهالي”، موالين لـ”حزب الله” في قريتين جنوبيتين.
الاستعجال الأميركي لتغيير “قواعد العمل”
الاستعجال الأميركي ظهر حين غردت السفيرة الأميركية الجديدة في نيويورك كيلي كرافت على تويتر في 5 مايو (أيار) بعد جلسة لمجلس الأمن لمناقشة تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حول تطبيق القرار الدولي الرقم 1701، داعية إلى مراجعة التفويض الممنوح لـ”يونيفيل”، مذكرة أن التجديد لها اقترب في الصيف و”يجب على مجلس الأمن أن يعمل لضمان أن تكون قادرة على العمل كقوة فاعلة ومؤثرة”. ورأت أنه “لا يزال ممنوعاً على اليونيفيل أن تنفذ تفويضها”، مشيرة إلى أن “حزب الله تمكن من تسليح نفسه وتوسيع عملياته، ما يعرض الشعب اللبناني للخطر”. وقالت إن “على مجلس الأمن إما أن يسعى إلى تغيير جدي لتمكين يونيفيل، وإما أن يعيد تنظيم العاملين لديها ومواردها بمهمات يمكنها تحقيقها”.
وتقول مصادر دبلوماسية غربية معنية بمناقشات مجلس الأمن إن واشنطن دأبت منذ العام 2017، على طرح تعديل تفويض “يونيفيل” بحيث يجري التشدد في دورياتها بحثاً عن سلاح “حزب الله” استناداً إلى القرار 1701 الذي يحظر وجود سلاح جنوب نهر الليطاني غير سلاح القوات المسلحة اللبنانية. والجانبان الأميركي والإسرائيلي دأبا على طرح هذه المسألة كل سنة مطالبين بإعطاء الحق للقوات الدولية بالدخول إلى الملكيات الخاصة والمنازل في القرى، بحثاً عن سلاح إذا اشتبهت في وجوده، فيما قواعد عملها الحالية، وفق اتفاق مع السلطات العسكرية اللبنانية، تقضي بأن تبلغ الجيش اللبناني عن أي مكان تشتبه في إخفائه سلاحاً، لتقوم وحدات الجيش بالتفتيش والتدقيق فيه. كما أن قواعد العمل تقضي بأن تتم دوريات “يونيفيل” داخل القرى وأحيائها السكنية بشكل مشترك ومنسق مسبقاً مع وحدات الجيش اللبناني المنتشرة في الجنوب. هذه القواعد وُضعت بإصرار من “حزب الله” وأطراف السلطة السياسية (برئاسة الرئيس السابق إميل لحود) في العام 2006 بعيد حرب يوليو الإسرائيلية ضد الحزب ولبنان، التي انتهت بصدور القرار 1701 الذي نُفّذ منه وقف العمليات العدائية، من دون تثبيت وقف إطلاق النار وبنود أخرى.
استمر التعايش الدولي مع هذه القواعد نتيجة تفاهم ضمني بين الدول المعنية بأن معالجة سلاح “حزب الله” في الجنوب يتوقف على التوافق اللبناني الداخلي في إطار إستراتيجية دفاعية تجد مخرجاً لانضواء هذا السلاح تحت إمرة الشرعية اللبنانية. وهو ما واصلت تقارير الأمانة العامة للأمم المتحدة نصف السنوية على المطالبة به، في وقت رجّح التوافق الدولي على حفظ الاستقرار في الجنوب، وأولوية تفادي أي مواجهة جديدة بين إسرائيل والحزب، الاعتقاد بأن نزع سلاحه رهن باتفاقات دولية وإقليمية مع إيران، لأن قرار السلاح بيد طهران في نهاية المطاف.
ضغط ترمب ونتنياهو
ينسب المسؤولون اللبنانيون الذين خبروا المطالبة الأميركية بتعديل تفويض “يونيفيل” إلى بداية عهد الرئيس دونالد ترمب، إذ باشرت واشنطن إثارة ذلك بعد أشهر قليلة من وصوله إلى البيت الأبيض آخر مطلع 2017، استناداً إلى علاقته المميزة عبر صهره جاريد كوشنير مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فالجانب الإسرائيلي لم يتوقف لحظة عن تبرير خروقاته للأجواء اللبنانية وللحدود البرية بوجود سلاح “حزب الله” خلافاً للقرار 1701، مطالباً القوات الدولية بالتشدد لكشف الأسلحة التي تردد استخباراته أن الحزب يكدسها جنوب الليطاني، فيما الأخير لم يتوقف عن إعلان تعاظم قدرات المقاومة التسليحية والصاروخية.
لم يستفد نتنياهو من العلاقة الخاصة لإقناع إدارة ترمب نتيجة انحيازه الاستثنائي إلى إسرائيل، بالضغط على الأمم المتحدة في هذا الاتجاه فحسب. فهذا التوجه يتقاطع مع توافقهما على تصعيد الضغوط على إيران، الذي توّجته واشنطن بالانسحاب من موجبات الاتفاق النووي معها، في مايو2018، باعتبار “حزب الله” الذراع الرئيسة للأخيرة في المنطقة، والتي تهدد فيها أمن إسرائيل، وتوكل إليها مهمات أخرى في دول عدة في المنطقة.
باتت توجهات واشنطن حيال الجنوب ولبنان، متصلة بإستراتيجيتها إزاء إيران دولياً وإقليمياً. ويدرك المسؤولون اللبنانيون أنها ليست منفصلة عن تصاعد العقوبات ضد الحزب والتلويح بشمولها حلفاء له، والحملة من أجل انسحاب إيران وقواته من سوريا، وليست معزولة عن تحميله مسؤولية الأزمة الاقتصادية المالية التي يغرق البلد فيها، ولا عن الدفع من أجل ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل… وهذا ما يفسر حملة “حزب الله” المضادة للتوجه الأميركي إعلامياً وسياسياً، وحديث أمينه العام السيد حسن نصر الله في آخر خطابين له عن رفض أي تعديل في مهمة القوات الدولية، إذ أكد أن لبنان “رفض تغيير مهمة يونيفيل لكن الإسرائيلي يريد إطلاق يدها، وأن يكون لها الحق بمداهمة وتفتيش الأملاك الخاصة والأميركيون يضغطون على لبنان بهذا الملف، وزيادة أعداد قواتها أو تخفيفها هو الأمر نفسه بالنسبة إلينا وإذا أرادوا ترحيلهم هذا شأنهم ونحن لسنا ضد بقائهم”.
وفي خطاب سابق هاجم نصر الله فكرة توسيع مهمة “يونيفيل” لتنتشر على الحدود مع سوريا لمنع التهريب وتنقل قواته بين البقاع اللبناني والداخل السوري، مع أن هذه الفكرة لم تطرح في الآونة الأخيرة.
مفارقتان: الحزب وإسرائيل ضد انسحاب القوات الدولية
حاول “حزب الله” استباق الضغوط عبر افتعال حوادث عبر “الأهالي” (التعبير الذي يستخدمه حين يقوم أنصاره بالتعرض للقوات الدولية) في قرية برعشيت في فبراير (شباط) الماضي حيث تصدى شبان لدورية فرنسية دخلت الأحياء السكنية وصادروا منها معدات، ثم في بلدة بليدا الأسبوع الماضي، بين شبان ودورية راجلة من الكتيبة الفنلندية بحجة منعها من التجول بين الأحياء السكنية من دون مرافقة الجيش اللبناني.
وراء افتعال هذه الإشكالات توجيه رسائل برفض توسيع مهمات “يونيفيل” وبوجوب حصر تحركاتها على الطرقات العامة خارج القرى، والخط الأزرق. إلا أنها حوادث لا تسعف السلطات اللبنانية في مسعاها إلى الالتفاف على الحملات الإسرائيلية والتشدد الأميركي، على الرغم من الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة حسان دياب إلى مقر “يونيفيل”، معلناً التمسك ببقائها وعدم تعديل تفويضها.
تبرز مفارقتان في هذا السياق، إذ يقول سياسي لبناني وثيق الصلة بالدوائر الغربية لـ”اندبندنت عربية” إن تأكيد نصر الله أنه ليس ضد القوات الدولية يعود إلى أنها تشكل صلة الوصل بين الحزب وإسرائيل في كثير من الحالات. فهي قوة عازلة وهو يمرر الرسائل إلى تل أبيب عن طريقها، كما حصل آخر الصيف الماضي حين قصف آلية إسرائيلية رداً على قصف طائرة إسرائيلية مسيرة الضاحية الجنوبية لبيروت. إذ مرّر عبر قوات الأمم المتحدة الرسالة بأن رده سيكون محدوداً ولا يريد تصعيداً.
المفارقة الثانية بحسب قول مصدر دبلوماسي غربي لـ”اندبندنت عربية” أن إسرائيل، مع تشجيعها واشنطن على الضغط من أجل تشدّد القوات الدولية في إجراءاتها ضد الحزب جنوباً، ليست مع خفض عديدها، كما تسعى إليه واشنطن، خشية أن يؤدي ذلك إلى قلق بعض الدول المشاركة فيها من تمديد بقاء قواتها إذا انسحبت منها دول غربية أساسية. فعدد الدول المشاركة فيها يبلغ 45. وإلى فرنسا، هناك ألمانيا، إسبانيا، إيطاليا، النمسا، إيرلندا واليونان، فضلاً عن دول آسيوية وأفريقية ومن أوروبا الشرقية، موالية للغرب… وإسرائيل لا تريد إضعاف دورها كضابط لأي توتر على جانبي الحدود. وهي مثل الحزب لا تريد انفلاتاً لأي توتر محتمل. لكن هذا لا يمنع القول، وفق تقارير دبلوماسية غربية، بيروت على علم بها، أن نتنياهو يسعى إلى أخذ أقصى ما يمكنه من ترمب قبل الانتخابات الرئاسية الخريف المقبل، ومنها تصعيد الضغط عبر “يونيفيل” في الجنوب.
الحجج الأميركية تشمل عديد الجيش
الحجج الأميركية المحرجة للبنان، والمشحونة بالحملات الإسرائيلية حيال تعديل مهمة “يونيفيل”، تصاعدت بالتوازي مع توجهات ترمب نحو خفض مساهمة بلاده في موازنة قوات حفظ السلام التابعة للمنظمة الدولية في العالم، فتدرجت على مدى السنوات الماضية، كما هذه السنة، من وجوب خفض عديد القوات الدولية، وزيادة عديد الجيش اللبناني في الجنوب، وصولاً إلى زيادة صلاحيات “يونيفيل” بتخويلها دخول الأملاك الخاصة والمنازل سواء بالاشتراك مع الجيش أو من دونه، حتى أن الضغوط شملت انتقاد تخفيف الجيش عديده في الجنوب بعدما اضطر في الأعوام الماضية لنقل وحدات إلى الداخل لمواجهة توسع عمليات تنظيم “داعش” والمجموعات الإرهابية في لبنان، قبل أن يخوض ضدها حرب “الجرود” في العام 2017. ويخشى بعض الأوساط اللبنانية أن يتناغم انتقاد الجيش مع أصوات في الكونغرس أخذت تطالب بوقف المساعدات عن الجيش بسبب نفوذ “حزب الله” في السلطة.
أما هذه السنة، فإن حجة خفض حصة واشنطن في تمويل قوات حفظ السلام في العالم مطروحة بقوة أكثر بحكم الوضع الاقتصادي العالمي، جراء جائحة كورونا. وإثارتها مجدداً مع الطرح المبكر بتعديل تفويض “يونيفيل” جاء قبيل أيام من “اليوم العالمي لقوات حفظ السلام” الذي أحيته الأمم المتحدة الجمعة الماضي في 29 مايو، والذي يليه احتفال في نيويورك الاثنين 1 يونيو (حزيران). وطلب الأمين العام أنطونيو غوتيريش في اجتماعات الأسبوع الماضي زيادة ميزانية هذه القوات حول العالم نظراً إلى أن الاضطرابات في مناطق عدة أوجبت نشر المزيد منها، بعكس الميل الأميركي.
الدور الفرنسي الصعب
منذ عام 2017 وقفت دول كبرى عدة ضد التوجه الأميركي الإسرائيلي نحو تعديل التفويض نظراً إلى إدراكها حساسية الوضع اللبناني، خصوصاً تلك التي لها قوات في إطار “يونيفيل”، ولا سيما فرنسا من الدول الغربية الحليفة للولايات المتحدة، إضافة إلى الصين التي تحتفظ بوحدات في إطار هذه القوات في الجنوب، فضلاً عن روسيا، من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. ولعبت باريس دوراً في السنوات الماضية في تليين الموقف الأميركي عبر الصياغات التي كانت تطرحها عند كل استحقاق التمديد لـ”يونيفيل”. وفي بعض الأحيان انضمت إليها بريطانيا على الرغم من أنها الأكثر انسجاماً مع السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
ومع أن مصادر دبلوماسية أوروبية ترى أن التفاوض مع واشنطن سيكون صعباً بدليل طرحها المبكر لمطالبها من “يونيفيل”، فإنها تنفي أن تكون الزيارة التي قام بها السفير الفرنسي في بيروت برونو فوشيه إلى مقر قيادة “يونيفيل” الخميس في 28 مايو في الجنوب، رداً على الموقف الأميركي. إذ إن فوشيه حرص، مع الانزعاج الفرنسي من الحوادث التي تتعرض لها القوات الدولية، على القول من هناك إنه بحث مع قائد القوات الجنرال ستيفانو ديل كول “موضوع تجديد ولاية الخوذ الزرق”، التي اعتبر أنها “متكيّفة مع الوضع الميداني”. كما أكد فوشيه أن موقف فرنسا “لن يتغير حول هذا الموضوع”، وشدد “على تمسك فرنسا بلبنان وجيشه”، معتبراً أنه “مدماك أساسي في استقرار البلد”.
وليد شقير
اندبندت عربي