استقر رئيس الحكومة التونسية المكلف هشام المشيشي على تشكيلة وزارية تعتمد الكفاءات المستقلة، مستبعداً بذلك الصيغة السياسية التي تقتضي التمثيل الحزبي لمكونات البرلمان الأساسية، معللاً ذلك بحاجة تونس إلى حكومة «إنجاز اقتصادي واجتماعي» يكون محور اهتمامها المواطن، وتنأى عن «التجاذبات والخصومات السياسية»، ويتمتع الوزراء فيها بشروط «النزاهة والنجاعة والجاهزية». كذلك استند في قراره هذا إلى استحالة إيجاد حكومة تجمع الأطراف السياسية في ضوء الخلافات بين الأحزاب والفرقاء السياسيين.
منطق المشيشي يبدو مفهوماً من حيث الشكل، خاصة وأن الدستور التونسي لا يُلزم رئيس الحكومة المكلف باعتماد الصيغة السياسية حصرياً، كما أن تجارب الحكومات السياسية السابقة في تونس تعثرت وانتهت غالباً إلى الجمود وفقدان ثقة البرلمان. ولكن يصح من جانب آخر الافتراض بأن المشيشي يدرك جيداً طبيعة النظام السياسي الراهن في تونس، وأن دستور 2014 أعطى البرلمان والسلطة التشريعية صلاحيات واسعة في العلاقة مع الحكومة والسلطة التنفيذية. بهذا المعنى فإن الحكومة التي يزمع تشكيلها سوف تعمل مع الأحزاب تحت قبة البرلمان، ويصعب أن تمرر قوانينها ومشاريعها الإصلاحية من دون توافق الحد الأدنى بين الكتل البرلمانية، وفي غياب ما بات يُعرف في تونس باسم «الحزام السياسي».
يُخشى بالتالي أن تقع حكومة المشيشي المقبلة بين مطرقة شارع شعبي عريض يطالبها بما ألقته على عاتقها من إنجاز مهام الإصلاح الشامل والنهوض بالاقتصاد الوطني وتحسين المعيشة وتطوير البنى التحتية ومحاربة الفساد، وسندان برلمان لا يوفر لها دائماً الغطاء الدستوري والتشريعي لكي تنجز المطلوب منها. والخشية إذن هي شلل الحكومة مجدداً وانقلابها مثل سابقاتها إلى موضوع اختلاف بين الأحزاب والكتل البرلمانية، وصولاً إلى سحب الثقة منها وإسقاطها، حيث لا يبقى من خيار دستوري آخر سوى حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة.
ولا يخفى بالطبع أن هذه النتيجة الأخيرة هي جزء من حسابات الرئيس التونسي قيس سعيد، ضمن وضعية الشد والجذب بين مطالب القصر الرئاسي وردود الكتل البرلمانية والأحزاب السياسية. وقد اتضح هذا الأمر حين تجاهل سعيد جميع مقترحات الأحزاب حول اسم المكلف بتشكيل الحكومة، فاختار المشيشي والصيغة الحكومية غير السياسية، مدركاً أن اختياره سوف يضع النواب أمام خيارين أحلاهما مر: منح الثقة لحكومة خالية من ممثلي الأحزاب، أو حجبها والمجازفة بحل البرلمان واحتمال خسران مقاعدهم في الانتخابات المبكرة.
وفي ظل الغياب الدائم للمحكمة الدستورية التي يتوجب أن تحسم أي خلاف يمكن أن ينشب بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، سوف يكون في وسع الرئيس التونسي أن يفرض المقاربة السياسية التي يراها ملائمة للبلد من وجهة نظره، والتي قد تطابق روحية الدستور من حيث الشكل ولكنها يمكن أيضاً أن تتعارض مع معطيات انتخابات تشريعية أفرزت مشهداً سياسياً واضحاً لا يصح عدم احتسابه وأخذه بعين الاعتبار فقط، بل يتوجب الرضوخ لاشتراطاته أيضاً، وفي طليعتها تمثيل الأحزاب السياسي في الحكومة.
تستحق تونس وشعبها ممارسة ديمقراطية أخرى أفضل وأنقى وأكثر فاعلية والتزاماً بقضايا الشعب، كما تفرض على ساستها واجب تطوير التجربة وإنجاح التعددية الحزبية والسير بالحياة البرلمانية نحو مناخات أكثر عافية ووئاماً.
القدس العربي