الطماطم فاكهة مغمسة بعرق المزارعات في تونس

الطماطم فاكهة مغمسة بعرق المزارعات في تونس

يهدد نقص اليد العاملة المواسم الفلاحية في تونس بعد أن تركها الشباب ولم تبق فيها سوى النساء من المسنات ومتوسطات العمر اللاتي أجبرتهن ظروف الحياة على ذلك لإعالة الأسرة، فموسم جني الطماطم في محافظة منوبة تنقذه سنويا النساء اللاتي يعانين من برد الشتاء في فصل زرع الشتلات وتحرقهن لفحات الشمس في فصل الجني.

منوبة (تونس) ـ فقدت أياديهن نعومتها منذ سنوات، وجلدت خيوط الشمس جباههن، راسمة ثنايا تحكي بصمت قصة سنوات من الشقاء والعطاء وتجارب عاملات جمع الطماطم، وشتى الأعمال الفلاحية الموسمية التي استنزفت طاقاتهن على مر الزمان.

بداخلهن قناعة كبرى، فقد كللن حد الإرهاق، دون أن تمللن وتنقطعن طيلة السنة، وحققن سلاما داخليا بأنهن خلقن لذلك العمل وأن لا شيء يصعب عليهن، وأن لا بديل أمامهن لتدبير قوت عائلاتهن وتحسين وضعهن المادي.
تنطلق رحلة عملهن الرابعة صباحا، بعد قضاء شؤون المنزل، حيث تنتظر البعيدات منهن عن الضيعات ووحدات تجفيف الطماطم، الشاحنات التي تقلهن مع الشباب في ظروف أغلبها غير آمنة وتواجههن مهام شتى، أولاها جمع الحبات التي وصلت إلى درجة النضج التام، بعد اختيار الطازجة دون غيرها، ثم وضعها في أواني الجمع، لتحملنها على ظهورهن وترصفنها في الصناديق التي يحملها الشباب بدورهم في الشاحنات.

تجربة اعتبرتها العاملة “حليمة”، التي تجاوز عمرها 75 عاما، والتي عملت منذ نعومة أظافرها في الأعمال الفلاحية الشاقة، من أصعب الأنشطة التي تنطلق منذ الشتاء بنبش الأرض بالمسحاة وزرع الشتلات والاعتناء بها بتنظيفها من الأعشاب الطفيلية ومداواتها، لكن جنيها يظل المرحلة الأشقى، وهي تتم في العراء وتحت لهيب الشمس، فلا تنفع القبعات الشمسية ولا أغطية الرأس، لكن لا مفر من أجل كسب القوت، وفق قولها مرددة “شاقي ولا محتاج”.

وتؤكد العاملة لطيفة لوكالة تونس أفريقيا للأنباء (وات)، التي باشرت منذ سن الـ12 عاشر سنة مواسم مماثلة، وتعوّد ظهرها على الانحناء تحت جلد الظروف الاجتماعية القاسية، قائلة إنه إضافة إلى عامل الطقس وارتفاع الحرارة، يتطلب الجمع الانحناء طيلة ساعات العمل لتتقوس الظهور بعد سنوات الشقاء الطويلة، وتنهك قوى العاملات قبل أوانها.

وتعتبر حكيمة الحمراني، ذات الـ54 عاما، المهن الفلاحية قدرهن الذي تصالحن معه، وهي الوسيلة الوحيدة لجني المال وتحقيق الاستقلالية المادية للنساء. وتابعت موضحة بأن السعي وتحقيق الكسب بات ضرورة حتى توفرن حاجاتهن، والعمل يظل عملا لإثبات الذات في عمل شاق يعد تحد كسبته هي والكثيرات، خاصة إذا حظين بالاحترام في وسطهن المهني وحصلن على حقوقهن المادية أو حصلنها بالإصرار وعدم الاستسلام ورفض أشكال الاستغلال والممارسات الحاطة من كرامتهن.

موسم الطماطم لا يقتصر على الجمع والفرز، فقط، بل تدعم مع انتشار وحدات التجفيف بأنشطة تشريح الطماطم وتمليحها وتجفيفها تحت أشعة الشمس وإعدادها للتصدير، إذ انتشرت العديد من “المناشر” وخاصة بمناطق الجديدة والمرناقية، ووجد فيها أبناء تلك المناطق والمناطق المجاورة ضالتهم كحل مؤقت للبطالة وتحصيل المصاريف الدراسية وخاصة لفئة التلاميذ الذين كان وجودهم ملحوظا إناثا وذكورا في تلك الوحدات والضيعات.

واعتبرت سعاد العاملة بوحدة تجفيف بالحبيبية من معتمدية الجديدة، أن هذه الأنشطة الموسمية فرصة لها وللكثيرات للعمل لساعات طويلة، إذ تقمن مساء بتشريح الطماطم على طول المناشر المقسمة إلى شباك بطول 50 مترا وبمعدل ثلاث ساعات للشبكة الواحدة، ثم يعدن في الصباح الباكر لتقليب الطماطم في عملية تتطلب العودة في مناسبتين يوميا وتنتهي بجمع الطماطم المجففة في الصناديق.

وتصنف سعاد مهمة تشريح الطماطم ضمن الأدوار النسائية بامتياز، وتكمن مهام الذكور فيها في توزيع الطماطم الطازجة على الشباك والتمليح والمساعدة في الجمع والترصيف، كما ترى أنها من أصعب المهن الموسمية بامتياز التي تتطلب انحناء الظهور والأعناق لساعات، وهو ما يتسبب في إجهاد بدني كبير سرعان ما تتعود عليه العاملات. تصنيف اعتبره الفلاح بمنوبة، عبد العزيز الحكيمي، مؤشرا سلبيا يهدد مستقبل الأنشطة الفلاحية، إذ تحتكر المسنات والكهلات أغلب الأنشطة الموسمية، مقابل تخل تام من الرجال وفئة الشباب الذين يفضلون مهاما مريحة وبأجور مرتفعة وهو ما يتطلب وسائل دفع جديدة لإنقاذ القطاع، وفق قوله.

الظروف الاجتماعية دفعت الكثيرين إلى الخروج للعمل وفي أجواء عائلية حضر فيه الأب والأم والأبناء، إذ أكدت سُمية العاملة بوحدة تجفيف بالبساتين من معتمدية المرناقية، إن قسوة التجربة وخاصة تحت لهيب الشمس لم تمنع الكثيرات من اصطحاب أبنائهن وأغلبهم تلاميذ لمساعدتهن على تحصيل أكثر من الأجور، وتوفير مصاريفهم المدرسية الضرورية التي يعجز الأولياء عن توفير كاملة. في ذات السياق، تتدخل تلميذة كانت تخفي وجهها بوشاح يقيها من أشعة الشمس الحارقة في وحدة بالحبيبية، أيضا، مؤكدة أنها قدمت لمساعدة والدتها التي أنهكت قواها الأعمال الفلاحية طيلة السنة، وذلك رغم رفضها، مشيرة إلى أن أغلب العاملين في “مناشر الطماطم” تلاميذ من الجنسين يؤمّنون مصاريفهم الدراسية ويساعدون عائلاتهم، إلى جانب شبان عاطلين عن العمل. لا تستقر الأجور وفق إجماع العاملات والعاملين بوحدات التجفيف فهي ترتفع حسب خفة الأيادي والقدرة على إنهاء مهمة واحدة ومضاعفتها وكذلك القدرة على العمل لساعات طويلة تستمر ليلا في التشريح والتقليب والجمع وغيرها.

ويوفر قطاع الطماطم الفصلية والمجففة بالجهة فرص عمل موسمية هامة مع انتشار ما يعرف بمناشر التجفيف، وإصرار منتجي الطماطم على مواصلة الإنتاج بواسطة مياه الآبار، وتحدي إشكاليات نقص مياه الري بالجهة ومنع زراعة الخضروات خلال الموسم الحالي بسبب ضعف إيرادات مياه الري المتأتية من السدود. وبلغت مساحات الطماطم الفصلية خلال الموسم الحالي 319 هكتارا وسط تقديرات إنتاج من دائرة الإنتاج النباتي بالمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بالجهة، بحوالي 16 ألف طن منها 8500 طن طماطم مجففة، 80 في المئة منها معد بالأساس للتصدير، وتعد البطان أهم معتمدية منتجة للطماطم بالجهة، وتتأتى أغلب اليد العاملة من الأحياء السكنية المجاورة للضيعات وأغلبهن نساء وفتيات.

العرب