على النقيض من إجماع علماء الفيروسات وأخصائي المناعة والأطباء في مشفى والتر ريد العسكري، بادر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى مغادرة المشفى والعودة إلى البيت الأبيض وهو ما يزال مصاباً بفيروس كوفيد ـ 19، ويخضع لعلاج يتضمن عقاقير معقدة بينها الستيرويد المعروف بتأثيراته الجانبية على الجهاز العصبي والإدراك وسلامة التقدير وحسن التبصر، لرجل يترأس القوة الكونية العسكرية والنووية الأعظم على الأرض.
وبهذا فإن مغادرة المشفى بقرار فردي خطوة إضافية تتوج سلسلة من أخطاء ترامب المتعاقبة بصدد التعامل مع الفيروس، وكانت قد بدأت من إصراره على إنكار خطورة الجائحة، ومرّت بنصائحه الحمقاء حول إمكانية حقن المرضى بالمطهرات والمنظفات، واستهتاره باستخدام الكمامة واعتبارها مظهر ضعف لا يليق بالأمريكي القوي، وصولاً أخيراً إلى مطالبة مواطنيه بعدم التخوف من الفيروس وخلعه الكمامة على الملأ بعد دقائق من عودته إلى البيت الأبيض رغم استمرار معاناته من الإصابة.
وقبل أن يضطر إلى إعلان إصابته بنفسه عبر تغريدة على صفحته الشخصية في «تويتر» كان ترامب قد التقط العدوى من مساعدته الأقرب إليه لأنها اقتدت برئيسها المباشر فلم تلتزم بتعليمات وضع الكمامة أثناء ممارسة مهامها معه، وخاصة خلال أنشطته الرئاسية وحملات التبرع والجولات الانتخابية. ولهذا كان طبيعياً بعد إصابته أن ينقل العدوى إلى عدد كبير من المحيطين به عادة، وليس السيدة الأولى وحدها بل السكرتيرة الصحافية ورئيسة اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري ومدير حملته وثلاثة من كبار مستشاريه وعدد من أعضاء مجاس الشيوخ.
الأصل في سلوك ترامب غير السوي هذا، بصدد فيروس بالغ الخطورة فتك ويفتك بعشرات الآلاف من الأمريكيين ومئات الآلاف على نطاق العالم بأسره، هو سيطرة النزعة الشعبوية على عقله، وحاجته المرضية إلى الظهور بمظهر الرجل الأقوى، وارتيابه في أن بعض أنصاره يمكن أن ينفضوا عنه إذا لمسوا عنده بارقة ضعف، حتى في حالة المرض الذي يعتبر ظاهرة طبيعية في حياة الإنسان أياً كانت قدراته وسلطاته.
ذلك يفسر جولته الاستعراضية أمام المشفى داخل السيارة المصفحة لطمأنة حفنة محدودة من مناصريه والإيحاء بأنه في أحسن حال، رغم التناقض الكبير الموازي الذي عكسته حالة مرافقيه الأمنيين داخل السيارة لجهة ارتدائهم الكمامة وحاجز الوجه والقفازات والرداء الواقي. وإلى جانب ما انطوى عليه المشهد من سمات مسرحية مكشوفة وفاضحة، كان ترامب يعرّض صحة حراسه للخطر المباشر من جهة أولى، ويعطي من جهة ثانية إشارات بالغة الخطورة تحث على عدم الالتزام بقواعد التباعد والحجر، كما يوجه الإهانة إلى جميع مواطنيه الذين تعاطفوا مع رئيسهم في مرضه بصرف النظر عن اختلافهم أو اتفاقهم معه.
وإذا صح أن النزعة الشعبوية ليست جديدة على سلوك ترامب، بل يجوز الافتراض بأنها كانت إحدى ركائز صعوده لدى الشرائح التي تتقاسم معه هذه النزعة، فإن الأصح اليوم هو مقدار المجازفة التي تتضمنها نظرته إلى جائحة كوفيد ـ 19 بمنظار شعبوي يمكن بالفعل أن يسفر عن عواقب وخيمة لا تمس أمريكا وحدها بل العالم والبشرية جمعاء. وكما أن الحماقة أعيت من يداويها، فإن الشعبوية مرض عضال في ذاتها، فكيف إذا ترافقت مع الفيروس القاتل.
القدس العربي