ما دلالات زيارة أسبر لدول المغرب الثلاث؟

ما دلالات زيارة أسبر لدول المغرب الثلاث؟

ربما كان الاهتمام بما يحدث في ليبيا ومالي نقطة اشتراك بين الدول المغاربية الثلاث وأمريكا. غير أن اختيار أرفع مسؤول في البنتاغون تونس والجزائر والمغرب وجهة له، في أول رحلة يقوم بها إلى القارة السمراء، لا يخلو من نقاط الاستفهام. فما الذي يمكن أن يضطر مارك إسبر أو يدفعه لذلك، في الوقت الذي لم تمض فيه سوى أيام قليلة على جولة قائد الافريكوم في المنطقة؟
وما الذي جعله يطير إلى هناك في هذا الظرف بالذات، أي قبل أسابيع معدودة من انتخابات قد تعجل برحيل الإدارة الأمريكية الحالية، أو قد تمنحها فرصة البقاء؟ سيكون صعبا على كثيرين أن يصدقوا أن الدافع وراء ذلك كان الحرص على محاربة التنظيمات الإرهابية، أو تعزيز الاستقرار الإقليمي، والتعاون الثنائي وتبادل الخبرات والمعلومات الاستخباراتية، مثلما أكدته البيانات الرسمية، إذ لن يكون معقولا أن ينتبه الأمريكيون الآن فقط إلى وجود تهديدات إرهابية في الشمال الافريقي، قد تمس بالاستقرار الإقليمي، وربما تؤثر في مصالحهم، ما يدفعهم للتحرك لوقفها، بالتنسيق مع تلك الدول، وعلى أعلى مستوى.
فهل اشتعلت اليوم فقط حرب الإرادات الخارجية في ليبيا؟ وهل بدأت اليوم فقط أيضا مشكلة شمال مالي وأزمة السلطة فيه؟ وهل أن ظهور تنظيمات «القاعدة» و»داعش» وغيرهما كان أمرا طارئا على المنطقة؟ ثم هل إن كل ذلك جرى من وراء ظهر الأمريكيين؟ قد لا يكون مهما أن تكون الدولة الأضعف، كما وصفها أحد المعلقين في إذاعة محلية تونسية، أو الدولة الأهم على اعتبار قربها من ليبيا، كما نبه آخر هي التي كانت المحطة الأولى في جولة أسبر المغاربية. فالترتيب ورغم رمزيته لا يعكس بالضرورة وزن أي دولة مغاربية، أو حجم روابطها بأمريكا. لكن انتظار الدول الثلاث التي زارها وزير الدفاع الامريكي، على مدى ثلاثة أيام لم تكن على درجة واحدة. ففي تونس مثلا لم يحظ قدوم المسؤول الأمريكي الرفيع، ولقاؤه الرئيس قيس سعيد، ثم حديثه مع نظيره التونسي وامضاؤهما اتفاقا عسكريا يمتد على عشر سنوات، بقدر واسع وكبير من الاهتمام. ويبدو واضحا أن حالة الانقسام والصراع بين أجنحة السلطة، والمصاعب الاقتصادية والاجتماعية الجمة، التي تواجهها تونس، جعلت أنظار التونسيين تتجه إلى قضايا أخرى، رغم أن بلدهم لم يستقبل ومنذ فترة مسؤولا أجنبيا على ذلك المستوى. ولم تنشغل الطبقة السياسية والإعلام المحلي كثيرا بالبحث في تفاصيل الاتفاق العسكري الجديد، الذي أمضاه أسبر مع نظيره التونسي في مقر وزارة الدفاع، ولا اهتمت الكتل البرلمانية في مجلس نواب الشعب، حتى تلك التي عرف عنها حرصها على الدفاع المستميت عن السيادة، واستقلال القرار بمساءلة الحكومة عن المضمون الحقيقي لاتفاق قال عنه الوزير الأمريكي، إنه «وثيقة خريطة طريق لدعم آفاق التعاون العسكري بين البلدين، في مجال الدفاع، هدفه الرفع من جاهزية القوات المسلحة التونسية، وتطوير قدراتها لمواجهة التهديدات» فضلا عن أن إعادة طرح المسألة التي نفتها السلطات مرارا، وهي وجود قاعدة عسكرية أمريكية على التراب التونسي لم يكن واردا بنظرها بالمرة.

ليس معروفا بعد ما اذا كان أسبر قد جس نبض العواصم التي زارها، واختبر مدى استجابتها لعرض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي

وربما اختلف الأمر قليلا في الجزائر، ليس فقط لأن الزيارة تعتبر الأولى لوزير دفاع أمريكي منذ خمسة عشر عاما، بل لأنها قد تمثل ايضا وبالنسبة للنظام نوعا من الدعم الرمزي المهم، في وقت يقدم فيه على بناء ما يقول عنها إنها جزائر جديدة، من خلال عرض مشروع الدستور الجديد على الاستفتاء الشعبي، مطلع الشهر المقبل. ولم تكن في هذا السياق إشادة المسؤول الامريكي بالجزائر، ووصفها بأنها «شريك ملتزم في محاربة الإرهاب» ودعوته إلى تعزيز العلاقات الأمريكية الجزائرية، واعتبارها «مهمة للغاية» بالنسبة لأمريكا، مجرد مجاملة دبلوماسية، بقدر ما كانت محاولة لاستمالة أكبر حلفاء روسيا والصين في الشمال الافريقي، ودفعه لمراجعة تحالفاته وشراكاته التقليدية، مقابل بعض الضمانات بالحفاظ على دوره الإقليمي، وربما حتى دعمه، خصوصا مع اتجاه الجزائر لإقرار السماح لجيشها بالقيام بعمليات خارج الحدود، ولكن معرفة الأمريكيين بالخلافات الجزائرية المغربية، وحساسية البلدين، لأي تقارب أمريكي مع أحدهما على حساب الآخر، قد تكون هي ما جعلت أسبر لا يتردد في الرباط، وفي أعقاب توقيعه اتفاقا عسكريا مع المغرب، يمتد ايضا على عشر سنوات، عن أن يؤكد على « أن امتينا تعملان اليوم أكثر من أي وقت مضى بشكل وثيق لمواجهة تحديات سياق أمني معقد، يشمل مكافحة الإرهاب، وكل التهديدات الأخرى العابرة للحدود، فضلا عن عدم الاستقرار في المنطقة، ومواضيع استراتيجية أوسع».
وبالفعل فقد اعتبرت الزيارة في المغرب ترسيخا لما تراه الرباط نجاحا في كسب دولة عظمى في صفها، وفي أكثر من ملف. غير أن السؤال الذي طرح نفسه هو مغزى المحاولة الأمريكية لإرسال إشارات إيجابية للعواصم الثلاث في وقت واحد، مقابل استبعاد ليبيا واستثناء موريتانيا. ولا شك في أن نظرة البنتاغون لدول الشمال الافريقي والصحراء، على اعتبارها ومن منظور جيو سياسي، كتلة واحدة تتعارض تماما مع ذلك. لكن اعتبارات أخرى قد تفسر التركيز على الثلاثي المغاربي. فبغض النظر عن أهمية تجديد التحالفات العسكرية، وتطويق النفوذ الروسي والصيني المتعاظم، خصوصا مع انحسار الدور الفرنسي وتراجعه بشكل ملحوظ، هو ما عبر عنه أسبر بوضوح في خطابه في المقبرة الأمريكية في قرطاج حين قال «إن الصين وروسيا منافستينا الاستراتيجيتين، تواصلان اليوم ترهيب جيرانهما وإكراههما، وتوسعان نفوذهما الاستبدادي في مختلف انحاء العالم، بما في ذلك في هذه القارة، أي الافريقية.. وإن شراكة الولايات المتحدة الثابتة مع البلدان التي تشاطرها رؤياها، بما في ذلك بلدان شمال افريقيا هي المفتاح لمواجهة هذه التحديات» فإن الدافع الأكبر لذلك قد يكون استراتيجيا وسياسيا أكثر منه ظرفيا وعسكريا. والموازنة الحقيقية هنا تبدو بين أمرين وهما اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، التي لا يعرف أي إدارة، وأي سياسة خارجية ستفرز، والرغبة في أن يترجم التحالف والتعاون الأمريكي مع الدول الثلاث وفي وقت قريب إلى انخراطها في رؤية البيت الأبيض، لا للمنطقة المغاربية فحسب، بل إلى مجمل ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير، وفي مقدمته مستقبل القضية الفلسطينية.
وليس معروفا بعد ما إذا كان أسبر قد جس نبض العواصم التي زارها، واختبر مدى استجابتها لعرض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، أو ما إذا كان قد قدم لها بالفعل طلبات محددة بذلك. غير أنه سيكون من المستبعد جدا أن لا يكون قد سعى بشكل من الأشكال لأن يلوح لمضيفيه بمزايا تلك الخطوة وأهميتها، في دفع العلاقات الثنائية مع أمريكا، ودورها في خدمة استقرار أنظمتهم، في وقت تواجه فيه الدول الثلاث تحديات، وأزمات اقتصادية واجتماعية متفاوتة الحدة، لكن إلى أي مدى قد يوفق في ذلك، وأي رد يمكن أن يعود به إلى واشنطن؟ ربما تتكفل الأيام المقبلة بالجواب.

نزار بولحية

القدس العربي