قبل الذهاب إلى مؤتمر “جنيف 2” بأسابيع قليلة، وقع خلاف شديد في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حول مبدأ الذهاب والمشاركة. وما أن أقرّت الهيئة العامة بأغلبية صغيرة المشاركة، حتى انسحب نيّف وأربعون عضواً تحت وابل من التصريحات المتنصّلة منه ومن قراره، المصمّمة على رفض العودة إلى صفوفه. كان ذلك العدد الكبير من الائتلافيين يخشى تقديم تنازلات للنظام بقوة ما سيُمارس عليه من ضغوط دولية، لن يستطيع مقاومتها.
أضعفت تلك الواقعة طابع الائتلاف التمثيلي الذي كان كاتب هذه الأسطر قد لفت أنظار “الهيئة السياسية” إليه، قبل نيف وشهر من جنيف، واقترح تشكيل لجنة للتواصل مع جميع الأطراف في الداخل والخارج، على أن ينتهي باجتماع يعقد في اسطنبول، يضم مندوبين منتخبين، أو منتدبين من الجيش الحر والمجالس المحلية والتنسيقيات والإغاثيين والمجتمع المدني، ينتخب وفداً وطنياً منهم يمثّل أوسع قطاع من السوريين، ليفاوض تحت مظلة الائتلاف من دون أن يكون ائتلافياً بالضرورة. وبالفعل، قبل الاقتراح، وضعت “الهيئة” قائمة بأسماء الجهات التي سيتم التواصل معها، وكلّف زملاء بإنجاز العمل خلال أسبوع، لكن ملابسات شخصية وحسابات خاطئة عطّلت هذا المسعى، فلم يمثل وفد جنيف مختلف الأطياف الوطنية السورية، وإنما اقتصر على قرابة 60% من أعضاء الائتلاف، الأمر الذي اعتبرته في حينه نقطة ضعف، ستضر بمواقفنا ومصالحنا الوطنية، وطالبت، ونحن في جنيف، بتداركه بدعوات توجّه إلى جهات وتنظيمات وشخصيات ذات حضور رمزي ووطني عام، تنضم إلى الوفد، وإن لم تشارك في المفاوضات. رفض رئيس الائتلاف الأسبق الأسماء المقترحة التي كانت بينها أسماء ضباط أمن منشقين، أسهموا في تشكيل تنظيمات إرهابية بتكليف من النظام، وفي حوزتهم ملفات تثبت صحة ما سيقولونه، سواء خلال مشاركتهم في الوفد المفاوض، حيث سيفحمون بشار الجعفري وتابعه وليد المعلم، أم في أثناء مؤتمرات صحافية يعقدونها لكشف دور النظام الموثّق في نشر الإرهاب ودعمه واستخدامه أداة حرب.
بعد جنيف، وقعت معركة صامتة في الائتلاف، عندما طالبنا بعودة من كانوا قد تركوه، سواء من كتلة المجالس المحلية أم المجلس الوطني، واستعدنا مشروع الحوار والتمثيل الوطني، لاعتقادنا أن أميركا وأوروبا سيقومان بخطوات فاعلة ضد النظام الأسدي الذي أفشل المؤتمر، وروسيا التي ساندته وشجعته على تقويضه، ومن واجبنا حيال شعبنا المسارعة إلى تطوير أوضاعنا التنظيمية والسياسية إلى درجة يقتنعان معها أننا نقوم بخطوات تجسّد رغبتنا بملاقاتهم في منتصف الطريق، وتشجيعهم على تصعيد مواقفهم إلى أبعد مدى ممكن. في نهاية أيام من النقاش، تمت الموافقة على إعادة عضوية من تركوا الائتلاف، مع أن بعضهم كان قد أعلن كتابةً رفضه العودة إليه مكاناً يضيع المرء كرامته وشرفه الوطني فيه.
لا داعي للقول إن من أحبط مشروع التفاوض مع أطياف المعارضة قبل جنيف رفض من جديد مقترح الحوار معها بعده. لذلك، ومع أن الائتلاف استعاد ما كان له من أعضاء، فقد بقي جهة تعاني من مشكلة تحتاج إلى حل، هي أن العالم يعترف بها ممثلاً شرعياً للسوريين، لكن اعترافه لا يسمن ولا يغني، لأنه سياسي وليس قانونياً من جهة، ولأن الائتلاف يمثل سوريين لا يعترفون به. وعليه، بالتالي، سد هذه الثغرة الخطيرة التي يمكن أن تتحوّل، في ظروف معينة، إلى ضعفٍ قاتل.
تخلّقت هذه “الظروف المعينة”، أخيراً، عبر سعي كل من روسيا ومصر إلى تشكيل تكتلات رديفة، ويمكن أن تنقلب إلى تشكيلات بديلة للائتلاف، بدأت حال تخلّقها تأكل من تمثيليته، تقول تصريحات لافروف وبوغدانوف إنها أبطلتها، ونجاح البلدين في عقد مؤتمرين منفصلين للمعارضة، شهدتهما موسكو والقاهرة، وتشكل في الثاني منهما جسم سياسي، له برنامج وقيادة وعلاقات عربية ودولية ودعم مالي وسياسي. غاب الائتلاف عن المؤتمرين، وعن الإعداد لهما، مثلما غاب عن القيام بواجبه بعد جنيف، في فتح حوار مع مكونات المعارضة المختلفة، وصولاً إلى تعيين أشكال من العلاقات بينه وبينها، تبقي على طابعه إطاراً عاماً يتّسع للجميع، ويفسح لهم مكاناً داخله، أو يقيم تنسيقاً منظّماً معهم، يعطيهم حق المشاركة في صنع قراراته، وفي وفوده وخططه ولقاءاته.
واليوم، ونحن أمام موقف دولي يريد تطبيق خطة مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، يبدو كأن ضعف التواصل وانعدام التوافق مع بقية تكوينات المعارضة سيعاقب، من الآن، مَن توهّم أن اعتراف الخارج به ممثلاً للسوريين يغنيه عن التعاون معهم، والتفاعل التنظيمي والسياسي الممنهج مع مختلف تكويناتهم الوطنية، وعن اعتراف الشعب به أيضاً، وها هو يكتشف، اليوم، أنه صار طرفاً بين أطراف أخرى تمثل المعارضة، وأن له حصة قليلة من الذين سيذهبون إلى طاولة التباحث مع النظام. ويزيد الطين بلّة أن الآخرين يختلفون معه في رؤيتهم للحل، ودرجة استعدادهم لقبول ما هو مطروح، ويبدو أنهم يقبلون تأجيل الحل السياسي، المتمثل في تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية والانتقال الديمقراطي إلى ما بعد مرحلة أولى، ثم ثانية، يتم فيهما بحث مسائل لن يؤدي التفاهم حولها إلى الحل السياسي المطلوب، إذا ما تم الاكتفاء بها، ألغيت وثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن حول إلزامية تطبيق الحل، بدءاً بتشكيل”الهيئة الحاكمة الانتقالية”. ونجح دي ميستورا في قلب الحل رأساً على عقب، ولغّمه بمرحلتين، لم تكونا في وثيقته، ولا يشكل التفاهم عليهما الحل السياسي المقرر دولياً، بل هو التفاف عليه وإنقاذ للأسد ونظامه، وقفز عن جنيف والتفاوض، وإن ذهبت الوفود إليها، لكي توقّع ما أقرته، تحت إشراف دولي، لا خلاف عليه. ليس مشروع دي ميستورا غير التفاف على الحل السياسي، يعتقد أنه قابل للتمرير من خلال وحدة الموقف الدولي المؤيد له، وما حدث من اختراق للمعارضة وترسخ من خلافات بين فصائلها حول الحل وآلياته وأهدافه.
ماذا سيفعل الائتلاف لإنقاذ نفسه والموقف الوطني في الدقائق الخمس الأخيرة من عمر مسارٍ افترض أنه لا يمكن لأحد بلورة مسار آخر إلى جانبه، أو ضده. لذلك، تجاهل ما قامت به موسكو والقاهرة واستخفّ به، وها هو يرد على الأحداث بغضب وتوتر، بينما يتجاهل رئيسه، خالد خوجة، المشكلة العويصة جداً، ويدّعي أن ما حدث من إنجازات عهده، وأنه تم تحت مظلته، والدليل تفاهمه مع هيئة التنسيق التي رفضت تفاهم بروكسل و”تيار بناء الدولة”. ولعلم من لا يعلم، لا يمثل هذان المكونان السياسيان واحداً بالألف من قوى المعارضة والثورة داخل بلادنا وخارجها، وسيكونان أقرب إلى حل يغطيه العالم ويرتضيه النظام منهما إلى الحل السياسي الذي يريده الشعب.
ماذا سيفعل ائتلاف سُددت إليه ثلاث ضربات في الأشهر الستة الماضية، هي: ضياع انفراده بتمثيل السوريين أولاً، ونجاح روسيا ومصر في بلورة بديل له، يرجح أن يقبل خطة دي ميستورا بحجة وقف قتل السوريين، والتفرّغ لمكافحة الإرهاب ثانياً، وتخلق وضع دولي تخلّى عن أولوية وثيقة جنيف والهيئة الحاكمة الانتقالية التي يلتف دي ميستورا عليها، ويريد ركن سلامها في ذاكرة تاريخ منسيٍ ثالثاً؟ هل يكفي أن يقول “لا”، ويمتنع عن قبولها، فيضع بيديه نهاية مأساوية لدوره، أم عليه، أخيراً، وبعد طول موت سياسي، العمل على جميع محاور الجهد الوطني، لبناء موقف يستطيع رفض الطبق المسموم المقدم له، وإرغام الآخرين على احترام حقوق الشعب السوري ومصالحه وثورته، عبر تطوير مواقف وطنية ونضالية جامعة وموحّدة حول مطلب عادل، ويتفق مع القانون الدولي ووثيقة جنيف 1، هو البدء بتشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية، والانتقال الديمقراطي، باعتبارهما وحدهما الحل السياسي، بينما يمكن تحقيق كل ما يعرضه دي ميستورا في لجانه الأربع، من دون أن يكون ذلك هو الحل المطلوب، ومن دون أن يفضي إليه، أو يوقف الصراع في بلادنا وقتل شعبنا. بموازاة العمل على مختلف محاور الجهد الوطني، بما في ذلك التواصل مع أطياف المعارضات المختلفة، باستثناء العميلة للنظام، لا بد من إرسال مذكرة إلى مجلس الأمن، ترهن الموافقة على خطة دي ميستورا بتشكيل وتفعيل الهيئة الحاكمة التي ستتولى تطبيق بنود الخطة، بالحجم والمدى الزمني الذي يقترحه المبعوث الدولي وفريقه. بغير ذلك، ستضع أخطاء الائتلاف ومناحي القصور والعيوب في عمله نهاية مأساوية للثورة، أو للذين تسلّقوا عليها من أعضائه.
ميشيل الكيلو
صحيفة العربي الجديد