مستقبل النظام الدولي وإحداث نظام دولي متعدد الأقطاب، متوقف على ما سيُسفر عنه التنافس الأميركي الصيني في ظل الحرب التجارية بينهما، إلا أن النظام الدولي متعدد الأقطاب يستوجب إعادة صياغة منظومة القيم الدولية.
واشنطن – تتعرض المعايير العالمية – بما في ذلك تلك التي روجت لها الدول الغربية والتي شكلت النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية – لضغوط شديدة. لكن هجومين منفصلين في مطلع أبريل ضد منشآت دبلوماسية أبرزا هذا الاتجاه.
في الحالة الأولى، انتهك قصف إسرائيل لمبنى قنصلي إيراني في دمشق القواعد الراسخة منذ فترة طويلة بعدم مهاجمة المواقع الدبلوماسية، حتى لو ادعت إسرائيل قانونيا أن المبنى كان هدفا عسكريا مشروعا.
وفي الحالة الثانية، يبدو أن مداهمة إكوادور للسفارة المكسيكية في كيتو كانت انتهاكا واضحا للمعاهدات المتعددة التي تحمي الدبلوماسيين.
ويقول الباحث سام ليختنشتاين في تقرير نشره موقع ستراتفور إن الحادثين لقيا اهتماما إعلاميا واسع النطاق، إلا أن الكثير من التغطية غفلت عن الصورة الأكبر، حيث وقع الهجومان على خلفية أوسع من المعايير العالمية التي تواجه ضغطا شديدا.
وثلاثة أمثلة منها هي الغزو الروسي لأوكرانيا الذي غرق في محرمات ضد الغزو الإقليمي، ومحاولة الصين إعادة تعريف حقوق الإنسان بعيدا عن الحقوق المدنية والسياسية للأفراد لصالح الحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للمجموعات، وابتعاد العديد من الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة عن معايير التجارة الحرة لصالح سياسات الحماية، ظاهريا باسم دعم الأمن القومي، ومكافحة تغير المناخ، وإنقاذ الوظائف.
وبغض النظر عن المعيار المحدد المطروح، ستتسارع عملية اختبار المعايير وتآكلها وإعادة تعريفها خلال السنوات القادمة حين يصبح النظام الدولي متعدد الأقطاب.
وسيضاف ذلك إلى الغموض والتقلب العالمييْن، مما يشكل تحديا شديدا لصانعي القرار في الشركات المكلفين بالتخطيط للمستقبل.
صناعة المعايير وكسرها
منظومة القيم تهدف إلى إنفاذ مدونة سلوك مشتركة للتقليل من خطر الإجراءات الانفرادية المزعزعة للاستقرار
تختلف المعايير العالمية في مدة اعتمادها ونطاقها وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، ولكنها تشير إلى التوقعات المشتركة حول كيفية عمل الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية والسلوكيات التي يجب أن تتبعها وتتجنبها.
وتبقى هذه المعايير قائمة لقرون في بعض الأحيان، وتكون أحدث في أحيان أخرى ولا تزال تتطور.
وتنبع أحيانا من اتفاقات مقننة رسميا، كما قد تنشأ من تفاهمات غير رسمية وممارسة متكررة.
ويمكن أن تتغير المعايير بمرور الوقت، ويمكن أن يصبح ما كان مسموحا به في السابق غير مقبول اليوم (أو حتى غير قانوني) والعكس صحيح. وتهدف المعايير مجتمعة إلى إعادة النظام إلى النظام الدولي وإنفاذ مدونة سلوك مشتركة للتقليل من خطر الإجراءات الانفرادية المزعزعة للاستقرار.
وتكون المعايير بحكم تعريفها أقوى عندما تحظى إما بقبول شبه عالمي لأن جميع اللاعبين الرئيسيين (أو جلهم) في النظام الدولي يتفقون عليها، أو عندما تكون دولة واحدة أو مجموعة من الدول قوية بما يكفي لفرضها على الآخرين.
وخرج النظام الليبرالي والديمقراطي والرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية الذي روجت له الدول الغربية منتصرا من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. ومكّن هذا الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، من الترويج بقوة لسلوكيات محددة مصممة لفرض هذه الرؤية على بقية العالم لبقية التسعينات ومطلع القرن الحادي والعشرين.
وإدراكا لبعض الاستثناءات، عندما انتهكت الدول تلك المعايير بشكل صارخ (مثل الغزو العراقي للكويت في 1990)، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها أقوياء ومتبنين لدوافع تكفي لمعاقبة تلك الأفعال.
لكن هذه الفترة مثّلت انحرافا. فبالمقارنة مع جل مراحل التاريخ، كانت قطبية الحرب الباردة الثنائية، ثم الأحادية التي تلتها بقيادة الولايات المتحدة، استثناءات.
العالم يتحرك مرة أخرى نحو المشهد متعدد الأقطاب منذ 2010، وهو اتجاه برز أكثر بعد 2020
واتسم التاريخ بالتعددية القطبية حيث تتعدد مراكز قوة مختلفة، ولا يتمتع أي منها بالقوة الكافية لتأكيد رؤيته على الآخرين.
وتمتد المنافسة بين اللاعبين في عالم متعدد الأقطاب إلى وضع المعايير، حيث يحاول كل طرف تنظيم سلوكيات الآخرين.
ويتحرك العالم مرة أخرى نحو المشهد متعدد الأقطاب منذ 2010، وهو اتجاه برز أكثر بعد 2020.
ويشمل هذا مراكز نفوذ متعددة، لا تقتصر قيادتها على القوى العالمية الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين (ومؤخرا روسيا)، ولكن أيضا مجموعة من القوى المتوسطة مثل الهند واليابان وتركيا التي تشكل الأحداث خارج حدودها، والقوى الأصغر الصاعدة التي تُوجّه القوى الكبرى والمتوسطة ضد بعضها البعض لمصلحتها الخاصة.
وتزيد الجهات الفاعلة القوية غير الحكومية مثل الشركات الخاصة ذات النفوذ العالمي الضخم (كشركات التكنولوجيا الكبرى أو شركات النفط والغاز الكبيرة) أو مجموعات الناشطين الرئيسية (كمنظمات المجتمع المدني الرئيسية أو الحركات عبر الوطنية الأكثر انتشارا التي تنشط في مجال البيئة أو حقوق الإنسان) من تعقيد النضال من أجل الاتفاق على المعايير الدولية وإنفاذها.
وبالنظر إلى تنوع المصالح في عالم متعدد الأقطاب، ليس من المستغرب أن يسعى العديد من المنافسين للنظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة إلى إضعاف معايير معينة أو إعادة تشكيلها أو محوها.
وتبدو الصين الأكثر نشاطا في هذا الصدد، حيث تروج مباشرة للمعايير البديلة التي تتعارض مع النموذج الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي الغربي التقليدي.
ويتردد صدى هذه الرسالة في العديد من البلدان النامية التي تشعر أن النظام الغربي لم يفدها كما يجب، أو تراه مصمما لتقييدها عمدا.
وتعدّ تأكيدات الغرب على وجود قيم عالمية مفترضة وطرق “صحيحة” لتنفيذ الأمور، جوفاء في أحسن الأحوال وإمبريالية غامضة في أسوئها بالنسبة للجنوب العالمي. ويمنح هذا للصين مساحة كبرى للترويج لمعايير بديلة لا تعطي الأولوية لقدسية الحريات الشخصية أو المشاريع الحرة.
ليست الدول الغربية نفسها بريئة من اللوم في تآكل بعض المعايير التي دافعت عنها تاريخيا
وبينما تعتبر الصين المنافس الأقوى، إلا أنها ليست اللاعب الوحيد. وحوّلت روسيا سياستها الخارجية لتتعارض مع كل شيء غربي.
وكان غزوها لأوكرانيا المثال الأبرز على نهجها. ولكن تعاون موسكو المتزايد مع الصين وإيران وكوريا الشمالية والدول الأخرى الغاضبة من النظام القائم يوضح الأسس الأولية لحركة معادية للغرب.
وحتى لو فصلت العديد من التناقضات هذه البلدان ووُجدت حدود واضحة لحجم تعاونها، فإن رغبتها المشتركة في الحد من هيمنة الغرب وتشكيل معايير جديدة للسلوك العالمي تشهد على التحدي الذي يواجه الغرب.
ويتضاعف هذا التحدي من حقيقة أن للعديد من القوى المتوسطة والأصغر مثل البرازيل ومصر والهند وإندونيسيا ونيجيريا وتركيا والمملكة العربية السعودية وجنوب أفريقيا والإمارات العربية المتحدة، بعض المجالات التي تختلف فيها عن الغرب فيما يتعلق بالمعايير البيئية أو الحوكمة أو حقوق الإنسان، حتى عندما تعتبرها الدول الغربية من الشركاء الاقتصاديين أو الأمنيين الرئيسيين.
ولا يتفق حتى القطبان الرئيسيان الغربيان (الولايات المتحدة وأوروبا) دائما. ولنتأمل هنا الانقسام عبر الأطلسي في معايير خصوصية البيانات مثلا. وستتوسع هذه النقطة والعديد من نقاط الاختلاف الأخرى أكثر إذا عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وأخيرا، ليست الدول الغربية نفسها بريئة من اللوم في تآكل بعض المعايير التي دافعت عنها تاريخيا. ونطرح هنا نقطة التجارة الحرة التي كانت من قبل مبدأ أساسيا للنظام الغربي بعد الحرب العالمية الثانية حيث صاغت الولايات المتحدة وأوروبا وشركاؤهما معايير لتعزيز التفاعلات الاقتصادية المفتوحة. لكن ما كان إجماعا من قبل أصبح الآن تحت ضغط عميق وحتى في تراجع في العديد من المناطق حيث يتفاعل المشرعون في واشنطن وبروكسل وعواصم غربية أخرى مع الضغوط السياسية المحلية لإعادة صياغة المعايير حول التجارة العالمية واللجوء إلى عدد متزايد من السياسات الحمائية. وعندما يقل التزام الرواد السابقين لقاعدة ما، فسيوفرون غطاء سهلا للمنافسين لفعل الشيء نفسه.
نضال المعايير الجديدة
العالم متعدد الأقطاب سيجلب المزيد من القومية إلى أجنحة الشركات متعددة الجنسيات، مما يعيد تشكيل عملية العولمة التي شهدتها في العقود الأخيرة
إذا كانت المعايير تواجه بالفعل تحديات خطيرة، فإن المعركة لتشكيل المعايير المستقبلية لا تزال في بدايتها. وفي عالم متعدد الأقطاب حيث لا توجد دولة أحادية القطب، ستكون المنافسة على إنشاء معايير جديدة وإنفاذها واحدة من السمات المميزة للمنافسة الجيوسياسية في السنوات القادمة.
وبالفعل، يسهل تحديد العديد من المعايير التي ستكون موضع نزاع ساخن، بما في ذلك السلوكيات في الفضاء الإلكتروني، وتطوير الذكاء الاصطناعي ونشره، واستخدام الأسلحة المستقلة، وأفكار هندسة المناخ، واستكشاف الفضاء.
وعلى الرغم من أن المصالح المشتركة في مجالات معينة قد تُمكّن في درجة معينة من التعاون بين اللاعبين العالميين الأكثر نفوذا على الأقل، إلا أن السيناريو الأكثر احتمالا هو الذي تحاول فيه القوى المختلفة تشكيل المعايير حول هذه النقاط وغيرها بطرق متنوعة.
ويزداد هذا احتمالا بالنظر إلى أن النظام الدولي يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب، وهذا يعني مجموعة متنوعة من القوى الأصغر والمتوسطة (والجهات الفاعلة غير الحكومية) القادرة على ممارسة النفوذ ومقاومة هيمنة قوة مهيمنة مثل الولايات المتحدة أو الصين.
وبينما تسعى القوى غير الغربية في بعض الحالات إلى وضع معايير مختلفة تماما، إلا أنها قد تتبع في حالات أخرى نهجا سلبيا في معارضة كل ما هو غربي.
ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تعدد مجالات النفوذ المتنافسة (والمتغيرة في الكثير من الأحيان) وتراجع الاتفاق العالمي بشأن المعايير الحاسمة.
ومن المرجح أن تتآكل المعايير القائمة على نحو أكثر تواترا، وألا تظهر معايير جديدة إلا على المستوى الإقليمي وليس العالمي.
وقد يوفر هذا بعض الفرص للتعاون بين الشركاء ذوي التفكير المماثل (وخاصة في المناطق التي توجد فيها دولة قوية بما يكفي لفرض المعايير في مجال اهتمامها)، لكن التشرذم سيصعب توليد عمل جماعي حول التحديات العابرة للحدود الوطنية، كما سيزيد من احتمالية الصراع مع اختلاف القوى المتنافسة حول معايير السلوك الأساسية.
لكن هذه التوقعات قاتمة لصانعي القرار في الشركات المكلفين بالتخطيط للمستقبل، لأنها تصعب وظائفهم أكثر، حيث أن العالم الذي تتراجع فيه القدرة على التنبؤ بسلوك الدول والجهات الفاعلة من غير الدول، سيخلق مصاعب للشركات.
وحتى عندما يبرز بعض اليقين حول المعايير المتوقعة في منطقة واحدة من العالم، فمن المرجح أن يتعارض هذا مع تلك الموجودة في أماكن أخرى (كالاختلاف بين الكتلة التي تقودها الولايات المتحدة والكتلة التي تقودها الصين).
ويعني هذا أن على الشركات أن تكون مرنة في تكييف عملياتها لتتناسب وفقا لذلك. ولكن من الصعب على الشركات أن تظل محايدة في عالم متعدد الأقطاب، وأن تلتزم بالقواعد المتنافسة، حيث تضطر إلى اختيار جانب (أو على الأقل منح الأولوية للعمليات لصالح جانب على حساب الآخر).
وسيجلب العالم متعدد الأقطاب بالتالي المزيد من القومية إلى أجنحة الشركات متعددة الجنسيات، مما يعيد تشكيل عملية العولمة التي شهدتها في العقود الأخيرة.
العرب