تُقدم الولايات المتحدة الأمريكية لمصر مساعدات اقتصادية وعسكرية سنوية اتسمت بالاستمرارية منذ ثمانينيات القرن المنصرم، بعد توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل في عام 1979، ومقدارها 1,3 مليار دولار كمساعدات عسكرية، يُضاف إليها حزمة مساعدات اقتصادية لم تزد قيمتها على 250 مليون دولار منذ عام 2009 لأهمية الشراكة الاستراتيجية مع مصر، التي تقوم على المصالح المشتركة المتمثلة في: تعزيز الاستقرار والازدهار في مصر، واستتباب السلام في المنطقة، والمحافظة على السلام مع إسرائيل، ومكافحة التطرف والإرهاب في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تعود منذ تدشينها بفوائد جمة على الولايات المتحدة الأمريكية.
بيد أن الأحداث التي شهدتها مصر منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 قد ألقت بظلالها على المساعدات الأمريكية (الاقتصادية والعسكرية) إلى مصر لتصبح محل نقاش حاد داخل أروقة الكونجرس الأمريكي بمجلسيه (النواب والشيوخ)، والإدارة الأمريكية. فقد أثارت التطورات المصرية بعد الخامس والعشرين من يناير 2011 والثالث من يوليو 2013 نقاشا داخل الولايات المتحدة حول المساعدات الأمريكية لمصر، مثل فاعلية فرض شروط على المساعدات العسكرية للقاهرة لإرغام السلطات على اتخاذ إجراءات من شأنها إحداث تحول ديمقراطي، وبناء دولة القانون والمؤسسات تقدم ضمانات للحريات وتحترم حقوق الإنسان.
بعد الثالث من يوليو 2013، وتدخل المؤسسة العسكرية لعزل الرئيس محمد مرسي تلبية لمطالب الجماهير التي نزلت في الثلاثين من يونيو، واجهت الإدارة الأمريكية ضغوطًا شديدة من أعضاء الكونجرس الأمريكي لقطع أو تجميد المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر، في ظل وجود توجه داخل الولايات المتحدة الأمريكية يرى أن ما حدث في الثالث من يوليو “انقلاب عسكري”، وليس “ثورة”، وأن على الإدارة التعامل معه وفقًا للقوانين الأمريكية التي تفرض قطع وتجميد المساعدات العسكرية. وفي محاولة لوقف المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر، أو إعادة هيكلتها، قدم عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي مشاريع قوانين تخص المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر
المساعدات الأمريكية .. كأداة ضغط
تمزج سياسة المساعدات الأمريكية لمصر بين هدفين، أولهما كأداة ضغط على النظام المصري لتبني سياسات ترغب الولايات المتحدة فى أن ينتهجها النظام المصري، وآخرهما لتحقيق المصلحة الأمريكية، حيث تمنح المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر مزايا عسكرية ولوجيستية، مثل استخدام الأجواء المصرية، أو تسهيلات عبور قناة السويس للسفن والبوارج الحربية الأمريكية، حتى تلك التي تحمل أسلحة نووية، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب.
استخدمت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما المساعدات الأمريكية كورقة للضغط على النظام المصري، خلال فترة حكم المجلس العسكري، وحكم جماعة الإخوان المسلمين، والحكومة الانتقالية بعد الثالث من يوليو، لتتقدم في الانتقال السلمي للسلطة، وبناء نظام ديمقراطي، قوامه دولة المؤسسات والقانون، واحترام حقوق الإنسان. فقد لوحت الإدارة الأمريكية بتلك الورقة، بعد أن قامت السلطات المصرية في أواخر ديسمبر 2011 بالتحقيق مع 43 شخصًا، منهم 19 أمريكيًّا من منظمات عدة، منها أربع منظمات أمريكية هي: “المعهد الجمهوري الدولي”، و”المعهد الديمقراطي الوطني”، ومنظمة “بيت الحرية”، و”المركز الدولي الأمريكي للصحفيين”، بتهمة اختراق القوانين المصرية، وممارسة أعمال سياسية وليست حقوقية، ودفع أموال طائلة لشخصيات وجهات مصرية.
وعلى أثر تلك الأزمة، هددت وزيرة الخارجية الأمريكية- في ذلك الوقت- هيلاري كلينتون، أثناء حضورها مؤتمر “الأمن الدولي” بمدينة ميونيخ الألمانية، بقطع المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية للقاهرة، والتي تقدر بـ 1.3 مليار دولار، فضلاً عن 250 مليون دولار كانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت تخصيصها لمصر في عام 2012.
وخلال فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين، ارتفعت الأصوات التي تنادي بوقف المساعدات الأمريكية بشقيها الاقتصادي والعسكري لمصر. وخلال تلك الفترة، قدم عديد من أعضاء مجلسي الكونجرس الأمريكي تعديلات على المساعدات الأمريكية لمصر في الميزانية الفيدرالية الأمريكية، خلال فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين، لاسيما بعد أن أخفق النظام المصري في حماية السفارة الأمريكية إبان أزمة الفيلم المسئ إلى الرسول (صلي الله عليه وسلم). وقد ربطت بعض مشاريع القوانين في تلك الفترة المساعدات الأمريكية لمصر بجملة من الشروط الواجب على مصر اتباعها وتنفيذها قبل الحصول على المعونات.
وعقب الثالث من يوليو 2013 ، وتحت ضغوط أعضاء بالكونجرس الأمريكي بمجلسيه، وافتتاحيات كبريات الصحف الأمريكية، ومراكز الفكر والرأي الأمريكية، ومنظمات حقوقية نادت بوقف المساعدات الأمريكية، لاسيما العسكرية منها، وفي محاولة للموازنة بين تلك الضغوط والرغبة الأمريكية في الحفاظ على علاقات بنّاءة مع حليف عربي محوري كمصر، اتخذت إدارة الرئيس أوباما حلًّا وسطًا بين هذا وذاك للخروج من تلك المعضلة بتعليق جزئي للمساعدات الأمريكية لمصر.
ويُعد القرار الأمريكي بالتعليق الجزئي للمساعدات العسكرية الأمريكية لمصر السابقة الأولي من نوعها منذ بدء تلقي مصر مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة بعد توقيع معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979، حيث تركزت قرارات التعليق السابقة للولايات المتحدة على المساعدات الاقتصادية فقط، حيث سبق أن تم تعليق جزء من المساعدات الاقتصادية، أو تحويل جزء منها لمنظمات معنية.
المصلحة الأمريكية.. وراء استمرار المساعدات
لم يستمر قرار تعليق المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر كثيرا تحت ضغوط قوى داخلية أمريكية راغبة في استمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر، خاصة اللوبي الإسرائيلي، وفي القلب منه اللجنة العامة للشئون العامة الأمريكية- الإسرائيلية (إيباك) في وقت تواجه فيه مصر في شبه جزيرة سيناء القريبة من إسرائيل جماعات إرهابية تنامي دورها، في ظل حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي اتسمت بها المنطقة، خلال السنوات الخمس الماضية بصورة كبيرة، ورغبة الإدارة الأمريكية في الحفاظ على مساعدتها للنظام المصري في مواجهة الإرهاب، وتأمين الحدود، ومنع تدفق الأسلحة إلى غزة التي تهدد أمن إسرائيل، وتحقيق أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط التي هي بالأساس مصالح أمريكية.
ففي أواخر شهر أبريل 2014 ، أعلنت الإدارة الأمريكية عن رفعها لحظر المساعدات العسكرية الأمريكية للقاهرة، وتم الإعلان عن تقديم 10 طائرات أباتشي لمساعدة مصر في مكافحة الخلايا المتطرفة في شبه جزيرة سيناء، اعتمادًا على موافقة من الكونجرس في مسعى لاستعادة الأمن في تلك الجزيرة، بعد زيادة نشاط خلايا المتطرفين الإسلاميين ومواجهاتها مع قوات الأمن، وشنها هجمات ضد إسرائيل.
وفي 31 مارس الماضي، أبلغ الرئيس الأمريكي باراك أوباما نظيره المصري بقراره بإنهاء التعليق الذي فرضته إدارته على المساعدات العسكرية لمصر منذ أكتوبر 2013، وأنه سيستمر في طلب المساعدات العسكرية السنوية لمصر، والتي تقدر بـ 1,3 مليار دولار. وقبل زيارة وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، إلى القاهرة لبدء جلسة الحوار الاستراتيجي الأمريكي– المصري بعد توقف لمدة ست سنوات، أعلنت السفارة الأمريكية على تويتر عن وصول طائرات إف 16 وصور لها وهي تحلق في سماء القاهرة. وفي 31 يوليو الماضي، قامت الولايات المتحدة بتسليم خمسة أبراج لدبابات “إبرامز إم1 ايه1”. وقد ذكر موقع السفارة الأمريكية الإلكتروني بالقاهرة التزام الولايات المتحدة هذا العام بتقديم الدعم العسكري في إطار مساندة الولايات المتحدة لجهود مصر الأمنية والعسكرية لمواجهة الإرهاب على عدة جبهات، وهو الأمر الذي أكده كيري، خلال جلسة الحوار الاستراتيجي المنعقدة في الثاني من أغسطس الجاري.
تغييران في طبيعة المساعدات العسكرية الأمريكية
دفع إخفاق الولايات المتحدة الأمريكية، خلال السنوات التالية لثورة الخامس والعشرين، فى استخدام المساعدات العسكرية الأمريكية كأداة ضغط فاعلة على النظام المصري لتنفيذ سياسات تحقق رضا أمريكيا رسميا وشعبيا لأسباب لا تتعلق بالجانب المصري فقط، ولكن بالداخل الأمريكي الذي تأثر من تعليق المساعدات العسكرية، عقب الثالث من يوليو 2013 – إلى اتخاذ الإدارة الأمريكية أخيرا قرارا يُحدث تغييرين في طبيعة المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية لمصر ابتداء من العام المالي 2018، هما:-
أولا- إنهاء آلية التدفق المالي الأمريكي Cash Flow Financing، وهو آلية مكنت الحكومة المصرية من طلب معدات عسكرية أمريكية الصنع بقيمة تصل إلى ملايين الدولارات لسنوات مقدما. وسيسمح إنهاء ذلك الامتياز بتسهيل الأمر على الحكومة الأمريكية مستقبلا، إن أرادت تعليق، أو خفض، أو صياغة شروط لتقديم المعونة العسكرية الأمريكية لمصر بدون أن يكون لها تأثير فى شركات السلاح الأمريكية، كما حدث عندما علقت الإدارة الأمريكية المساعدات العسكرية لمصر بعد الثالث من يوليو، والتي أضرت بكبرى الشركات الأمريكية الملتزمة بتوريد معدات عسكرية لمصر، وفقا لعقود تم إبرامها قبل قرار التعليق.
ثانيا- التحكم في نوعية السلاح الذي تحصل عليه مصر، حيث حدد الرئيس الأمريكي أربعة أنواع للمساعدات العسكرية المستقبلية لمصر، وهي: مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، وأمن سيناء، والأمن البحري، وهو ما يتعارض مع الرغبة المصرية التي تفضل الحصول على المعونة العسكرية الأمريكية في صورة دبابات وطائرات حربية، لتكون قوة عسكرية تقليدية قوية في المنطقة.
ختاما، على الرغم من إعلان الإدارة الأمريكية عن استمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر، وإنهاء التعليق الذي كان مفروضا على المساعدات العسكرية، عقب الثالث من يونيو، لمساعدة مصر في حربها على الإرهاب، لاسيما مع إشادة عدد من أعضاء الحزب الجمهوري الذي له الأغلبية بمجلسي الكونجرس الأمريكي بالجهود المصرية تحت حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي في حربها ضد الإرهاب والإسلام المتشدد، فإنه ستكون هناك دعوات لمشروطية المساعدات العسكرية لمصر، وربطها باتخاذ النظام المصري خطوات لحماية حرية التعبير، وإطلاق سراح “جميع السجناء السياسيين” قبل تسليم المساعدات العسكرية.
فخلال حديثه بجلسة الحوار الاستراتيجي، أكد وزير الخارجية الأمريكي أنه لن تكون هناك قدرة على محاربة الإرهاب بدون احترام حقوق الإنسان، وأن محاربة الإرهاب تعتمد على بناء الثقة بين السلطات السياسية والشعب. لكن تلك الدعوات بمشروطية المساعدات العسكرية ستختفي دوما أمام المصلحة والتعاون بين البلدين، لاسيما في قضايا مكافحة الإرهاب، واستقرار النظام المصري، واستمرار تعهد مصر بمعاهدة السلام التي تعد مصالح مصرية وأمريكية على حد سواء.
عمرو عبدالعاطي
مجلة السياسة الدولية