النظر من داخل غرفة صناعة القرار السياسي في البيت الأبيض، يتجاوز عادة مجرد التحليل السياسي، إلى إلقاء ضوء كاشف على ما يدور بالفعل في عقل صاحب القرار، والعوامل المؤثرة عليه، والاتجاهات المنتظرة منه حاضراً ومستقبلاً.
من هؤلاء الذين عملوا داخل هذه الغرفة، الدبلوماسي وخبير السياسة الخارجية فيليب جوردون، بحكم سابق عمله في البيت الأبيض مساعداً للرئيس ومنسقاً للشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج.
جوردون، الذي يقوم الآن بدوره كعضو في مجلس العلاقات الخارجية مختص بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، قال أمام المجلس: إن الشرق الأوسط يتمزق، وهو يمر بفترة تغيير أساسي تجتاحه تحركات تدميرية.
إن تعبير جوردون جاء قاسياً، وهو، وإن طرح وجهة نظرة من زاوية رؤيته لمسار السياسة الخارجية الأمريكية، إلّا أنه يمد بصره إلى عوامل التفاعل المجتمعي التاريخي للمنطقة، وكيف أنها سبق أن واجهت تحديات، ليست فقط مماثلة لما تواجهه اليوم، بل ربما تفوقها حدة وخطورة.
والمهم تأمل وجهة نظر جوردون وهو يشرح طبيعة سياسة بلاده، ويقول: من ناحية عملي في البيت الأبيض خلال العامين الماضيين، فإنني أرى أن السياسة الأمريكية ليست المصدر الرئيس لما وصفته بتمزق الشرق الأوسط.
وأضيف، إن الولايات المتحدة لا تملك خيارات جيدة للتعامل مع هذا الوضع،
ثم إن بعض المقترحات المطروحة لعلاجه، مثل التدخل العسكري، أو إعادة تشكيل المنطقة، أو على الأقل الضغط على خصومنا، كل ذلك سيزيد الوضع سوءاً.
وأن المناقشات الدائرة حول سياسة أمريكا نحو الشرق الأوسط تعاني فكرة خاطئة تدل على أن هناك حلاً أمريكياً لكل مشكلة، في حين أن التجربة أثبتت خطأ هذا الرأي.
وإذا كان جوردون اكتفى بالقول إن الولايات المتحدة لا تتحمل وصف مسؤولية تمزق المنطقة، فإنه أضاف أنها لا تملك خيارات جيدة لعلاج هذا الوضع.
وهو وصف أضاف إلى جانبه روبرت غيتس وزير الدفاع الأسبق إيضاحاً بقوله، في مايو/أيار 2015، إن الولايات المتحدة ليست لديها استراتيجية للشرق الأوسط على الإطلاق.
وأمام هذا المعنى عن غياب للاستراتيجية الفعلية، فإن أيان بريمر أستاذ علم «الجيوبوليتكس» ومؤسس مركز أوراسيا للدراسات السياسية، والذي يوصف بأنه من أكثر المطلعين على صناعة السياسة في أمريكا والعالم، يقول إن سياسة واشنطن الخارجية أصبحت بلا اتجاه.
وصناع القرار السياسي يتعثرون من أزمة لأخرى، من أفغانستان إلى العراق، وإيران، وليبيا، وسوريا، وأوكرانيا، من دون أن يبدو أن لديهم استراتيجية واضحة.
وأن أمريكا لم تعد تستطيع تحمل أعباء هذا الوضع خاصة مع وجود انقسامات عميقة بين الحزبين حول دور أمريكا في العالم.
بريمر يقول أيضاً: بينما نقترب بسرعة من عام 2016،
فإنني أدعو كل أمريكي ليفكر بعمق شديد حول: أي أمريكا يريد؟.
وكيف نستخدم وصفها كقوة عظمى؟
وهو يرى أن أمام الأمريكيين ثلاثة اختيارات عليهم الاتفاق على أيهما، كإجابة منهم عن هذا السؤال.
أول هذه الخيارات أن تعلن أمريكا استقلالها عن تحمل مسؤوليات حل مشاكل شعوب أخرى، وبدلاً من ذلك، أن تستثمر إمكاناتها في دفع الطاقات الهائلة للبلاد.
والثاني أن تعترف أمريكا بأنها لا تستطيع مواجهة كل تحدٍ دولي، وعلى ضوء التقييم الدقيق لحدود القدرات الأمريكية، فإن عليها أن تتجاوز الجدل الفارغ، عن استثنائية أمريكا، ونشر القيم الأمريكية، وأن تركز على الدفاع عن مصالحها، في المكان الذي يظهر فيه تهديد لهذه المصالح.
أما الاختيار الثالث فهو الإبقاء على المبدأ القائل «بأمريكا التي لا غنى عنها». وأنها الوحيدة التي تستطيع الدفاع عن القيم والمبادئ التي يزداد اعتماد العالم عليها، لأن الاتجاه للعزلة سوف يقوض الأمن القومي والرخاء الأمريكيين.
هذا التشخيص للسياسة الأمريكية تجاهنا نحن في الشرق الأوسط، من شخصيات كانت ضالعة في تحديد مسار هذه السياسة، أو على الأقل قريبة منها، تقر بأمرين: عدم وجود استراتيجية حقيقية تجاه الشرق الأوسط، والثاني أن أمريكا تستهل مناقشات حول مستقبل دورها السياسي العالمي والذي يتراوح بين الانسحاب وعدم تحمل مسؤولية مواجهة الأزمات التي تتعرض لها المنطقة، إلّا في الحالات التي يكون فيها تهديد مباشر لها.
وبين الإبقاء على الدور الأمريكي القديم والنشط في العالم.
إلّا أنه في أي الحالات، وأياً كان الاتجاه الذي تستقر عليه، فإن ما تواجهه منطقتنا من أخطار تعد في حقيقتها إعلان حرب على الدول، والمجتمعات، والقيم، والتقاليد، بل وصحيح العقيدة الإسلامية ذاتها.
وهو ما يلقي على هذه المنطقة مسؤولية صياغة استراتيجية عصرية ومتكاملة، بالمعنى العلمي للاستراتيجية، لا تكتفي فقط بمواجهة العدو الذي يهددها، بل لكي تقضى عليه، وتجتثه من جذوره الشيطانية.
عاطف الغمري
صحيفة الخليج