الحساسية تجاه الدين في فرنسا خطأ فكري وخطيئة سياسية

الحساسية تجاه الدين في فرنسا خطأ فكري وخطيئة سياسية

قال البروفيسور وليام ماركس إن الإغراء ببدء حرب رمزية على الإسلام يتزايد في مواجهة الهجمات التي تضرب فرنسا، ومع تفهمه أن المقاومة المطلقة للترهيب هي رد الفعل الأوليّ الطبيعي على كل هجوم، تساءل هل من المناسب التعبير عن ذلك بعرض صور ورسوم تسخر من الأديان في الفضاء العام كما حدث في تولوز ومونبلييه؟!

وأوضح ماركس -الأستاذ في “كوليج دو فرانس” (Collège de France) في مقال له بصحيفة لوموند Le Monde الفرنسية- أن هذا هو الفخ الذي نصبه الإرهابيون لفرنسا، يساعدهم في ذلك ضعف فرنسي متأصل يتعلق بما تجده الجمهورية من صعوبة في إعطاء مكان للظاهرة الدينية، وكأن الأديان في حد ذاتها تشكل تهديدا للسلم المدني.

ورد الكاتب هذه الصعوبة إلى أسباب تاريخية تعود إلى ما قبل الثورة، أيام المشاجرات مع الكنيسة الغاليكانية، خاصة أن الكنيسة لدى الفرنسيين أقل قداسة من المدرسة، إلا أن جيران فرنسا الأوروبيين ليست لديهم مثل هذه الأحكام المسبقة.

حساسية تربوية
وهكذا -يقول ماركس- عرضت الفنادق الإقليمية في تولوز ومونبلييه على واجهاتها يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي رسوم شارلي إيبدو الكاركاتيرية التي تستهدف الإسلام، ردا على اغتيال المعلم صمويل باتي، بل إن البعض يود عرضها في جميع المدارس.

وجاء الرد -بحسب الكاتب- عبر البحر الأبيض المتوسط ​​ومضيق البوسفور، بدوس المتظاهرين العَلَم الفرنسي والدعوة لمقاطعة منتجات فرنسا باعتبارها دولة معادية للمسلمين بشكل رسمي، وإن كان بعض ذلك يعود إلى التلاعب من قبل بعض القادة بالكلمات التي أدلى بها رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون.

وفي هذه القضية برمتها -يقول الكاتب- يجب أن نحافظ على العقل، مع أنه من المفهوم، عندما يُقتل معلم بوحشية أثناء تأدية واجبه، أن تثور العاطفة العامة ويكون رد الفعل الأول هو تأكيد المقاومة المطلقة ضد كل أنواع التخويف ومحاولات تقييد حرية التعبير، إلا أنه قد لا يكون من المناسب العرض في الفضاء العام، وبالأحرى في المباني الرسمية لصور تسخر من الأديان ومن المحتمل أن تصدم المؤمنين.

والمفارقة –حسب ماركس- هي أن المعلم صموئيل باتي نفسه، على عكس ما حدث، اتخذ احتياطات قبل عرض مثل هذه الصور على تلاميذه، ودعاهم إلى عدم النظر إليها إن شاؤوا، ولكن كيف تلفت نظرك عن الرسوم الكاركاتيرية عندما يتم عرضها في مبنى رسمي؟ يتساءل الكاتب.

في باكستان محتجون على الرسوم المسيئة يتهمون فرنسا بأنها بلد إرهابي (الأوروبية)
هجومية وعدوانية
وبعد أن مجّد الكاتب المعلم واعتبره مربيا مثاليا، قال إن الإخلاص الذي ندين به لذكراه يتطلب فهما أفضل لطبيعة ووظيفة الرسوم الكاركاتيرية، إذ إنها ليست صورا محايدة، بل هي أسلحة هزلية ومثيرة للجدل، وفن الكاركاتير مثل الكوميديا ​​والسخرية، لا يمكن فهمه إلا في سياق مجتمع يتقاسم رمزيته ومحتواه الأيديولوجي، أما فيما عدا ذلك، فسيبدو بالضرورة غير مناسب، بل سيعد هجوميا وعدوانيا.

لذلك من الضروري -وفق الكاتب- الحفاظ على الأماكن التي يمكن للرسوم الكاركاتيرية أن تطلق فيها دون المخاطرة بأن يساء فهمها، كالصحف والكتب التي لا يقرؤها سوى من يريدون قراءتها، وكالمتاحف والمعارض والمكتبات، وسيكون من غير المناسب عرضها في ساحة مفتوحة لجميع العيون وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، إذ لا يمكن أن يكون الكاركاتير راية حشد وطني.

اعلان
وتساءل الكاتب هل من الممكن أن تظل فرنسا التي تمثل بوتقة التحرر في مواجهة كل القوى والكنائس، مخلصة للتقاليد الوطنية للكوميديا ​​المتحررة، تقاليد رابليه وفولتير، إذا رفضت نشر هذه الرسوم الكاركاتيرية دون قيود؟

وقد رأى الكاتب أن هذا الفهم خاطئ، لأن فولتير لم يوافق على الاستخدام العام والرسمي للرسوم الكاركاتيرية المناهضة للدين، بل كان هدفه المثالي هو التعايش السلمي بين جميع الأديان، وبين المؤمنين وغير المؤمنين مع احترام بعضهم بعضا في الأماكن العامة، كما قال في الرسائل الفلسفية عندما وصف إنجلترا بأنها مدينة فاضلة فيها اليهود و”المحمديون” (المسلمون) والمسيحيون يعاملون بعضهم بعضا كما لو كانوا من الدين نفسه.

ونبه الكاتب إلى أن الإخلاص لروح فولتير وروح صموئيل باتي، يعني تنفيذ روح الوفاق بين الأديان، وتقبل الظاهرة الدينية كجزء لا يتجزأ من الثقافة بشكل عام، مشيرا إلى أن مدرسا فرنسيا عوقب عام 2017 لتقديمه مقاطع من الكتاب المقدس لطلابه للعمل عليها من منظور ثقافي بحت.

وأكد أن هذه الحساسية القومية تجاه الدين تمثل خطأ فكريا وخطيئة سياسية، لأنها تنظر إلى أي علامة للانتماء الديني على أنها أعمال مناهضة للجمهورية، خاصة أن حجب البعد الثقافي والعاطفي للأديان يعرضنا للتجاوزات وسوء الفهم مما يستفيد من الإرهابيون.

وخلص الكاتب إلى أن الأديان تظل حقيقة تأسيسية للماضي والحاضر، ولا يمكن بناء مستقبل إلا على الاعتراف بمثل هذه الحقيقة، وفتح مساحة عامة غير هجومية ومسالمة ومرحبة بالجميع، لأن هذه هي العلمانية الحقيقة.

الجزيرة