التعذيب والترحيل و”إعادة التثقيف” والسخرة وفصل الأطفال عن والديهم والعنف الجنسي والتعقيم والإجهاض الجماعي بالإكراه، ما يعد أحد معايير جريمة الإبادة الجماعية، والمنع من ممارسة شعائر الإسلام وتدمير المساجد والمقابر، ممارسات كشفت مدى تعقيد السياسات القمعية في إقليم “شينجيانغ” (تركستان الشرقية)، الذي يتمتع بحكم ذاتي.
ويلخص موقع “ميديا بارت” (Mediapart) الفرنسي بهذه المقدمة تحقيقا طويلا بقلم رشيدة العزوزي، تنقل في بدايته ما وفرته لها الناشطة الإيغورية غولبهار جليلوفا، التي عاشت مع المعذبين عاما و3 أشهر و10 أيام في جحيم معسكر اعتقال صيني في شينجيانغ.
كانت غولبهار واحدة من الضحايا الأوائل والنادرين، الذين خرجوا بعد أن شاهدوا جحيم معسكر الاعتقال، الذي تتعرض له الأقليات المسلمة في الصين، وبالتحديد أقلية الإيغور، وهي مجموعة عرقية ناطقة بالتركية تعيش منذ قرون في شينجيانغ عند بوابة آسيا الوسطى، وهناك 4 أقاليم أخرى هي قوانغشي ومنغوليا الداخلية ونينغشيا والتبت تعيش فيها أقليات عرقية.
سجنت غولبهار في زنزانة مساحتها 25 مترا مربعا مع حوالي 40 سجينة أخرى، وربطت بقدميها سلسلة ثقيلة حزت كثيرا في لحمها؛ إلا أنها خرجت بعد 15 شهرا من التلقين القسري في معسكر “إعادة تعليم” للنساء بعد تعذيبها واغتصابها وإجبارها على منع الحمل.
خرجت غولبهار؛ لأنها إيغورية من كازاخستان المجاورة لا مواطنة صينية -كما تقول الكاتبة- وجاءت تطلب اللجوء إلى فرنسا، وهي تحمل معها “كابوس حياتها”، كما تسميه، وهو عبارة عن كومة من الوثائق والصور ودفتر صغير تحمله على صدرها، قامت بتلوينه بدقة ونقشت عليه 67 اسما ووجها في حالة رعب لـ67 امرأة من الإيغور تتراوح أعمارهن بين 14 و80 عاما، عاشت معهن “في الجحيم”.
تقول غولبهار “كل هؤلاء النساء جعلنني أقسم أنني إذا خرجت من هذا الجحيم على قيد الحياة، يجب أن أتحدث وأناضل من أجلهن”، وذلك رغم أن الصين اشترطت عليها الصمت، وهددتها بالقتل إذا تكلمت عما شاهدت.
سياسة استيعاب شرسة
وأشارت الكاتبة إلى أن المجتمع الدولي كان منذ وقت طويل يغض الطرف عن اضطهاد هذه الأقلية، التي تمارس الإسلام السني، غير أن ذلك لم يعد ممكنا اليوم بفضل ما وثقته المنظمات غير الحكومية والباحثون من القمع في شينجيانغ، حيث يوجد أكبر معتقل جماعي في القرن 21، يضم ما بين مليون و3 ملايين من الإيغور خارج أي إطار قانوني، بحجة مكافحة التطرف والإرهاب والانفصالية.
وقد تعرضت منطقة “تركستان الشرقية” كما يطلق عليها الإيغور -بحسب التحقيق- لسياسة استيعاب شرسة منذ منتصف القرن 20، إلى جانب استعمار داخلي هائل من قبل قومية الهان ذات الأغلبية في الصين، أكثر من 92% من السكان، حيث تشهد الأرقام بأن عدد الهان الذي لم يكن يتجاوز 6% من سكان الإقليم عام 1949 أصبح اليوم تقريبا يتجاوز عدد الإيغور البالغ نحو 11 مليونا، وقد أوضحت أرقام صينية رسمية مسربة انخفاض عدد الإيغور بنسبة 84% بين عامي 2015 و2018، حسب “بي بي سي” (BBC).
اعلان
ويقع إقليم شينجيانغ، الذي شهد منذ ضمه للصين ثورات وتمردات انفصالية متكررة، على مفترق طرق تجارة الحرير القديمة، وفي قلب المشروع الفرعوني الجيوسياسي والاقتصادي للرئيس الصيني شي جين بينغ لربط الصين ببقية العالم وربط بقية العالم بالصين.
يقول ديلنور ريحان، الذي يرأس معهد الإيغور بأوروبا، إن “شي جين بينغ طور مفهوم الحلم الصيني منذ وصوله إلى السلطة عام 2012، وهو مفهوم يعتمد على المشروع الضخم لطريق الحرير الجديد، الذي يمر عبر منطقة الإيغور، مما استدعى خشية بكين أن يكون السكان المختلفون ثقافيا عقبة في نجاح مشروعها، وبالتالي انتهجت سياسة إبادة الإيغور”.
ولتوضيح بعض معالم هذه الإبادة، سردت الكاتبة قصة هذه الكازاخستانية، التي انتهى بها المطاف في سجن سابق للرجال تم تحويله إلى مركز “لإعادة التثقيف السياسي” للنساء، حيث شاهدت التعذيب وغسل الدماغ وحظر التحدث بالإيغورية ومنع الصلاة والترويج بمكبرات الصوت للاحتفال بالقوة الصينية العظمى والرئيس شي جين بينغ والحزب الشيوعي.
وصفت غولبهار عقوبات الإكراه على الاعتراف والتوبة والتقييد بالسلاسل والمراقبة المستمرة والشك واختبارات القياسات الحيوية المتعددة والروائح الكريهة؛ بسبب كون المراحيض داخل الزنازين وبلا أبواب.
وعلقت الكاتبة بأن الكشف عن عمليات تعقيم النساء القسرية الهائلة داخل المخيمات وخارجها، ووسائل منع الحمل القسرية، فرضت على المنظمات غير الحكومية والباحثين والناشطين الاعتراف بجريمة إبادة جماعية، على أساس اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948، التي تُعرِّف الإبادة الجماعية على أنها جريمة تُرتكب “بقصد تدمير مجموعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية كليا أو جزئيا”.
طرق قمع أخرى
وفي دراسة نشرت في يونيو/حزيران 2020 من قبل “مؤسسة جيمستاون” (The Jamestown Foundation) حول التعقيم القسري لنساء الإيغور، كشف عالم الأنثروبولوجيا الألماني أدريان زينز، بالاعتماد على وثائق الحكومة الصينية الداخلية وشهادات النساء، عن هذا السلاح الديموغرافي، وكيف تُجبر نساء الإيغور على التعقيم، مما يفسر الانخفاض في النمو الديموغرافي بنسبة 84 % في 3 سنوات بهذه المنطقة.
ومع أن الصين تصف ما يقال بأنه “مزاعم لا أساس لها”، وتبشر بشينجيانغ “المستقرة والمتناغمة معها”، وتظهر الإيغور على وسائل التواصل الاجتماعي، وهم يرقصون لإظهار مدى سعادتهم تحت حكم دولة الحزب، فإن شهادة المعلمة قلبينور صديق بك المنفية في أوروبا جاءت مروعة في صحيفة “ليبراسيون” (Libération) الفرنسية عن فظائع في معسكرات العمل الصينية كالتعذيب بالكهرباء والكرسي والقفاز والخوذة والاغتصاب.
وتضم شينجيانغ -وفقا للعديد من الدراسات المتعمقة- نحو 380 مكان احتجاز؛ بل وتصل حسب تقديرات أخرى إلى ما بين 500 وألف معتقل، بعضها يستخدم كمعسكرات “إعادة تثقيف”، خاصة من خلال العمل القسري، والبعض الآخر بمثابة معسكرات اعتقال وسجن.
إضافة إلى ذلك، يتم وضع جميع الوسائل التكنولوجية في الصين في خدمة مراقبة الإيغور، حيث أنشأت الدولة قواعد بيانات ضخمة وعملاقة تقوم بفهرسة بيانات الحمض النووي والوجوه والملفات الشخصية لكل شخص، كما تقول الصحفية سيلفي لاسير، التي نشرت مؤخرا كتاب “رحلة إلى بلاد الإيغور”.
وفي هذا السياق، يقال إن الآلاف من أطفال الإيغور قد فصلوا عن آبائهم عندما تم ترحيلهم إلى معسكرات العمل القسري، وفقا لدراسة للباحث الألماني أدريان زينز، استنادا إلى وثائق صينية رسمية نشرت قبل عام، يتم وضع هؤلاء الأطفال في دور للأيتام ومدارس داخلية شديدة الأمان؛ ليتم غسل أدمغتهم بلغة الماندرين من أجل التوافق مع أيديولوجية الحزب الشيوعي.
ويوثق تحقيق أجرته صحيفة “لوموند” (Le Monde) نُشر في سبتمبر/أيلول، جنونا آخر يسمى “اتحاد الجماعات العرقية في عائلة واحدة”، أطلقته الدولة عام 2016، ترسل عشرات الآلاف من مسؤولي الهان للنوم أسبوعا واحد في الشهر في منازل الإيغور لتعقب خصوصيتهم، والتأكد من أنهم ليسوا “متطرفين”.
تشغيل الفيديو
لا تظهر أي رحمة
وفي تحقيقها تقول الكاتبة إن الصين التي طالما نددت بالافتراءات و”الأخبار الزائفة”، ونفت وجود معسكرات اعتقال في شينجيانغ، تحولت في عام 2018 بمقدار 180 درجة، بعد أن لم تعد قادرة على تجاهل الأدلة، لتدعي الآن أنها “مراكز تعليم وتدريب مهني”، تهدف إلى مساعدة سكان شينجيانغ في العثور على عمل، وإبعادهم عن الإرهاب والتطرف الديني والإسلاموية، التي تسميها “فيروس الإسلام”.
وفي سياق الهجمات التي شهدتها الصين بين عامي 2013 و2014، ومناخ التوتر الذي ساد منذ أعمال الشغب في عاصمة شينجيانغ عام 2009، التي تم قمعها بعنف من الشرطة، قرر شي جين بينغ، بمجرد وصوله للسلطة تشديد سياسته القمعية ضد ما يسميه الإرهاب والإسلاموية في شينجيانغ، واحتجز عدة آلاف من الإيغور في معسكرات “للتخلص من التطرف” منذ عام 2014 وبدأت سياسة التخطيط المنهجي لاعتقال الإيغور.
ودعا شي جين بينغ -حسب التحقيق- في خطاباته السرية إلى “عدم إظهار أي رحمة على الإطلاق” بالنسبة “للإرهاب والتسلل والانفصال”، وتشجيع كوادر الحزب “على أن يكونوا أكثر صرامة” “لتجميع كل من يجب القبض عليهم”.
وقد كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) الأميركية عن هذه الأوامر القادمة من رأس الدولة في خريف 2019، بعد أن هربتها “شخصية من المؤسسة الصينية”، تريد منع القادة الشيوعيين من “الهروب من مسؤولياتهم”.
وأشارت الصحيفة، التي قامت بتشريح مئات الصفحات من الخطابات غير المنشورة لشي جين بينغ ومسؤولي الحزب، والتوجيهات والتقارير المتعلقة بمراقبة المواطنين والتحقيقات الداخلية، إلى وجود “أكبر حملة اعتقال في البلاد منذ عصر الرئيس ماو تسي تونغ”.
المصدر : ميديابارت