مع حسم المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن سباق انتخابات الرئاسة الأميركية، رغم رفض المرشح الجمهوري الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالهزيمة حتى الآن وتشكيكه في نتائجها، فإن “الرئيس المنتخب” سيجد نفسه يوم تنصيبه في العشرين من كانون الثاني/ يناير 2021 أمام مهمة صعبة تتطلب إعادة بناء مكانة الولايات المتحدة واستعادة مصداقيتها ونفوذها العالمي. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: كيف سيؤثر بايدن على الشرق الأوسط؟
تعد قضايا دول الشرق الأوسط إحدى أعقد قضايا السياسة الخارجية التي علي ادارة الرئيس الامريكي القادم جو بايدن ان يتعامل معها باهتمام خاص ، حتي وإن لم تكن هذه الادارة الديموقراطية الجديدة بعيدة عنها بحكم تجربتها الطويله معها في عهد ادارة الرئيس الاسبق باراك اوباما.
ويرجع تعقيد هذه القضايا إلى كونها تتعلق بواحدة من اكثر البيئات العالمية تأزمًا في صراعاتها وازماتها وتوتراتها، ولأنها كذلك اكثر بيئات الجماعة الدولية التي يستهدفها الارهاب ولا يزال يهدد العديد من دولها بخطر التفكيك والتمزيق واغراقها في بحر من الفوضي وبما يمكن ان تفضي اليه هذه الفوضي من نزاعات اهلية وحروب داخلية مسلحة وانهيارات شاملة علي جميع الصعد، والنماذج حاضرة وتنطق بهول ما جري ولا يزال يجري ولا تبدو له نهاية.
وقبل ان نحاول التعرف علي ما يمكن ان تكون عليه السياسة الامريكية الجديدة التي يحتمل أن ينتهجها الرئيس بايدن في تعامله مع قضايا دول الشرق الأوسط ، فإنه يجب التعرف أولا علي ملامح وسمات المسرح الشرق اوسطي الراهن كي نعرف إلى أين يمكن ان تتجه مسارات التحرك القادم لهذه الإدارة وبأية آليات وعلي أية قاعدة من الحسابات والتقديرات والتوقعات سوف تبني سياساتها وقراراتها.
يمكن القول أن التركيبة الحالية لبيئة دول الشرق الأوسط تنحو لان تكون كالآتي :
المناخ الاقليمي العام : هو مناخ تغلب عليه الفوضى والاضطراب والتوتر وعدم الاستقرار والسلوكيات العدائية ومشاعر الجفاء والقطيعة بين العديد من القوى الاقليمية الرئيسة ، مع تدخلات خارجية نشطة مسلحة وغير مسلحة ، مباشرة وغير مباشرة ، ابرزها التدخلان الامريكي والروسي، وهو مناخ لا مثيل له في تأزمه وتوتره في اية منطقة اخري في العالم.
وأما عن دول الشرق الاوسط فيمكن تصنيفها كالآتي : خمس قوى اقليمية رئيسة تضطلع باكثر الادوار الاقليمية تاثيرا وتتحرك كل منها في اطار منظومة خاصة بها من المصالح والحسابات والضغوط الداخلية والخارجية، وهي بالتحديد ايران وتركيا ومصر واسرائيل والسعودية ، ولكل واحدة منها استراتيجيتها التي تحاول من خلالها الدفاع عن أمنها القومي ومصالحها أيا ما كان تعريفها لتلك المصالح، وهذه هي الدول التي أسمها دول المركز.
أما عن الدول الأطراف التي تأتي في مرتبة تالية علي دول المركز فهي تتوزع كالآتي : أطراف مؤثرة بدرجة ما على بعض ما يجري علي المسرح الشرق اوسطي من أحداث وإن كان بصورة أقل نسبيا من سابقتها، وهي الإمارات وقطر والاردن والجزائر والمغرب… ثم هناك مجموعة الأقطار العربية المعوقة بسبب أوضاعها الصعبة الراهنة ، وبسبب الازمات الداخلية والتدخلات الخارجية المعرقلة لقدرتها علي اداء ادوار اقليمية ملموسة ومؤثرة ، وهي أوضاع قد تمتد الي أمد غير معلوم ، وهي تحديدًا العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان بالاضافة الي دولة فلسطين الواقعة تحت الاحتلال الاسرائيلي الكامل لأراضيها ، وأخيرًا تبقى دول كالكويت وتونس والسودان وموريتانيا وسلطنة عمان والبحرين، وهي دول منكفئة علي نفسها وتعزل نفسها وراء حدودها الضيقة وتبحث عن الأمن والاستقرار الداخلي والنأي بنفسها عن مناطق التوتر والصراع والخطر.
هذه هي خريطة دول بيئة الشرق الأوسط بأوضاعها الراهنة ، في غياب شبكة من التحالفات الإستراتيجية والأمنية الرسمية التي تربط بعض هذه الدول ببعضها، مما يجعل كل دولة تتصرف بإستقلالية شبه تامة عن غيرها ، وهو ما يؤدي بدوره إلى تبدل المواقف والسياسات والقرارات، وإلى تغيير المسارات بشكل يكاد يكون عفو اللحظة، وذلك لان هذه التقديرات تنبثق في كل حالة من منظور فردي ضيق ومن حسابات محدودة الافق والمدى ، وليس من رؤية استراتيجية بعيدة ومحسوبة وشاملة.
هذا هو واقع دول الشرق الأوسط الذي على إدارة بايدن أن تدخل إليه وتتحرك فوقه دفاعًا عن مصالح الولايات المتحدة الأمركية العليا والحيوية من واقع كونها القوة العظمى الاولي في عالم تقف على راسه وتحاول إنتزاع زعامته من جديد بعد كل ما أحدثه الرئيس الراحل ترامب من خراب وتدمير.
هذا هو الشرق الاوسط الذي تواجه فيه الادارة الجديدة من التحديات وتعارض المسارات وتقاطع الادوار وكارثية الأوضاع ما سوف يضعها أمام إختبارات صعبة وخيارات مؤلمة قد تنتهي بها الى نهايات صادمة ومؤسفة.
والسؤال الذي يطرح بناء على كل ما تقدم من معطيات، ما هي السياسة الأمريكية المرتقبة حيال الشرق الأوسط بعد انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة؟
كان الشرق الأوسط وجهة أول زيارة خارجية لدونالد ترامب بعد توليه منصبه رئيسا للولايات المتحدة، عندما زار المملكة العربية السعودية والتقى فيها مع ستة من قادة دول منطقة الخليج في مايو/أيار 2017.
ومنذ ذلك الحين بدت سياسات دونالد ترامب في الشرق الأوسط “اندفاعية”، وولّدت إستراتيجيته سلسلة من الأحداث المتسارعة، من إنجازات دبلوماسية إلى تحركات محفوفة بالمخاطر ومبادرات فاشلة، غيرت موازين القوى في المنطقة الغنية بموارد الطاقة.
ويرى محللون أنه بعد انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة من المتوقع أن تعتمد الإدارة الأمريكية الجديدة إستراتيجية أكثر تقليدية وأن تعمل على إعادة إيران إلى طاولة المفاوضات، لإعادة رسم المشهد الإقليمي مرة جديدة.
فكيف ستبدو ملامح هذه السياسة؟
أثار ترامب غضب السلطة الفلسطينية بعد قيامه بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس واعترافه بها عاصمة لإسرائيل، إلى جانب دعمه خطة ضم أراض فلسطينية في الضفة الغربية إلى الدولة العبرية، ورعايته لاتفاقات تطبيع بين إسرائيل ودول عربية.
من المرتقب أن يسعى بايدن لإعادة التواصل مع الفلسطينيين، رغم أنه من المرجح ألا يكون هناك اختلاف كبير في سياسته حيال هذا الملف، إذ أن بايدن أعلن صراحة أنه لن يتراجع عن نقل السفارة إلى القدس.
فحسب معهد المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية “من غير المحتمل أن تكون هناك عودة كاملة إلى الوضع السابق” في هذا الملف، ولكن “هناك أمل في أن يصلح (بايدن) على الأقل أكثر ما أفسدته حقبة ترامب، مثل تجديد المساعدة الأمريكية للفلسطينيين وإعادة فتح البعثة الفلسطينية في واشنطن، والعودة إلى مسألة حل الدولتين التقليدي”.
ومن جهة أخرى أشار المعهد إلى أنه “عندما يتعلق الأمر بإسرائيل والفلسطينيين، فإن معظم الحكومات الأوروبية ستستقبل إدارة بايدن بارتياح شديد”.
ورأى رئيس التحرير في إذاعة مونت كارلو الدولية مصطفى الطوسة أن “هناك مؤشرات على أن إدارة بايدن ستحاول أن تعطي بعض الحقوق للفلسطينيين، إذ أنه يعارض مشروع ضم أراضي الضفة الغربية لإسرائيل، وأعلن في ظهور إعلامي له أنه سيعمل على إنشاء قنصلية أمريكية في القدس الشرقية”.
وتابع الطوسة “هل هذا يعني أن الدولة الفلسطينية سترى النور في عهد بايدن؟ هذا مشكوك فيه. لأنه معروف عن بايدن أنه صديق لإسرائيل، وسيسعى غالبا ما أمكن الى الحفاظ على مصالح الدولة العبرية. ولكن بايدن قال في أكثر من مرة إنه لا يزال يعتقد بأن الحل الأمثل لهذا النزاع هو حل الدولتين، الفلسطينية المستقلة والإسرائيلية، وهو نفس الموقف الأوروبي”.
وفيما يتعلق بمسار التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل أكد الطوسة أن “بايدن والديمقراطيين صفقوا وهللوا وباركوا لاتفاقات تطبيع العلاقات بين الدولة العبرية وكل من الإمارات والبحرين والسودان، وانطلاقا من صداقته الحميمة لإسرائيل سيسعى بايدن للاستمرار في هذا المسار، وسيشجع العواصم العربية على إقامة علاقات طبيعية مع الدولة العبرية، لأن هذا بنظر الرئيس المنتخب وإدارته الديمقراطية يصب في مصلحة عملية السلام ويشجع إسرائيل على تقديم تنازلات للفلسطينيين”.
توترت العلاقات بين طهران وواشنطن بشكل كبير خلال ولاية ترامب الرئاسية إثر انسحابه من الاتفاق النووي المبرم عام 2015، وازداد التصعيد بعد أمره باغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس”، إلى جانب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل وبضم الدولة العبرية لمرتفعات الجولان السورية المحتلة عام 1967، وقد أدى التوتر مع إيران لتعزيز علاقات الولايات المتحدة بحلفائها في المنطقة، وبخاصة المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة.
على الجانب الآخر أقام صهره جاريد كوشنر، بعد توليه ملف عملية السلام، صداقات مع قادة خليجيين أبرزهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ما أجج التوتر مع طهران.
وقد وافقت إدارة ترامب قبل أيام قليلة من الانتخابات الأمريكية على بيع الإمارات العربية المتحدة طائرات مقاتلة متطورة من طراز إف-35 بقيمة تزيد على عشرة مليارات دولار.
وعلى الرغم من أن ترامب لم يقم بخطوات قوية وواضحة لدعم دول الخليج في نزاعها مع إيران، وبشكل خاص مع تعرض المنشآت النفطية السعودية لقصف تبناه الحوثيون في اليمن المدعومون من إيران، وحملت الرياض طهران المسؤولية عنه، إلا أن سياساته أثارت ارتياح المملكة وحلفائها المقربين في أبوظبي والمنامة والقاهرة.
من المنتظر أن تشهد السياسة الأمريكية مع بايدن تحولا جذريا في هذه المنطقة على مستويين، العلاقة مع طهران وملف حقوق الإنسان.
فرأى معهد المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في تقرير أن “هذه منطقة يتوقع (…) أن تعيد إدارة بايدن تركيز السياسة الأمريكية فيها على قضايا مثل إيران وأن تدفع باتجاه احترام الحقوق في أنحاء المنطقة”.
وأضاف أن “بايدن أوضح أنه ينوي العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق مع طهران) إذا عادت إيران أيضا إلى الامتثال الكامل، وأنه ينوي كذلك الانخراط دبلوماسيا مع طهران بشأن قضايا أخرى”.
وكان بايدن قد نشر مقال رأي في سبتمبر/أيلول 2020 قال فيه “نحتاج إلى تغيير المسار بشكل عاجل”، معتبرا أن سياسة ترامب انتهت بـ”فشل خطير”، ورأى أنها جعلت إيران “أقرب” لامتلاك سلاح نووي.
لكن الرئيس المنتخب أصر على أن العودة المحتملة للاتفاق النووي مشروطة بعودة طهران لكامل التزاماتها التي تخلت عنها بعد انسحاب ترامب منه، وأكد أنه سيكون “صارما” مع إيران.
وقال مصطفى الطوسة إن بايدن “وضع شروطا للعودة الى الاتفاق النووي، أولها وضع المشروع البالستي الإيراني تحت المجهر الدولي، ما يعني إضافة بنود جديدة للاتفاق، والاتفاق مع طهران على ضبط ’أنشطتها العدوانية‘ في المنطقة، بمعنى وقف تدخلاتها في سوريا واليمن ولبنان، وهذا أيضا هو الموقف الأوروبي”.
لكن مساعي بايدن في هذا المجال ستصطدم بالعقوبات التي فرضها سلفه على الجمهورية الإسلامية، ونتائجها، إذ تصر طهران على الحصول على تعويض من واشنطن عما لحق باقتصادها من أذى بسبب العقوبات. وحول هذا يقول الطوسة “ستتركز المفاوضات القادمة بين إيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على ما إذا كانت طهران ستوافق على المقاربة الغربية للاتفاق التي تقوم على إعادة إحيائه مع وجوب توسيعه وإضافة بعض البنود”.
وقالت إلهام فخرو كبيرة محللي معهد مجموعة الأزمات الدولية لدول الخليج إن “المسؤولين السعوديين فضلوا ولاية ثانية لترامب”.
وتابعت “أنهم ينظرون إلى ترامب على أنه عمل لحماية أهم مصالحهم الإقليمية من خلال فرض حملة ضغوط قصوى من العقوبات على إيران، والضغط لإتمام صفقات مبيعات الأسلحة إلى المملكة”.
لكن الرياض الآن قلقة “من أن إدارة بايدن ستتخلى عن هذه الأمور التي تصب في مصلحتها الكبرى، من خلال التراجع عن العقوبات ضد إيران والعودة إلى الاتفاق النووي والحد من مبيعات الأسلحة”.
إلى جانب هذا عارضت إدارة ترامب القرارات التي اتخذها الكونغرس ضد الرياض حيال حربها في اليمن واغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في 2018.
وقال مصطفى الطوسة “هناك تغيير منتظر في الصراع اليمني لأن بايدن أعلن أنه سيعيد النظر في عمليات بيع الأسلحة للسعودية كيلا تستعمل في اليمن” وتوقع أن “تضغط الإدارة الأمريكية على اللاعبين الإقليميين في الأزمة اليمنية، السعودية وإيران، للتوصل إلى وقف لإطلاق النار ووقف للحرب، لأنها تحولت إلى كارثة إنسانية وكارثة أخلاقية، والديمقراطيون سيعملون بكل الطرق على وقفها لكي يتميزوا عن إدارة ترامب”.
ولكن الصحافي اليمني إبراهيم مطرز كان أقل تفاؤلا حيال هذا الملف، مؤكدا أنه “يجب ألا ننسى أن جو بايدن كان نائبا للرئيس في إدارة باراك أوباما عند بداية الحرب”.
الولايات المتحدة الأمريكية تغيرت والشرق الأوسط تغير. كيف سيتعامل بايدن مع الشرق الأوسط وسياسات زعزعة الاستقرار والأحلام النووية ونزهات المرتزقة بين الحرائق القريبة والبعيدة؟ الشرق الأوسط تغير أيضاً. الاختراقات الإيرانية لا تحمل وصفة استقرار بل مشاريع مواجهة. والدور التركي أكبر من قدرة المنطقة وجوارها على الاحتمال. والمشهد العربي – الإسرائيلي شهد تغيرات أساسية في الفترة الأخيرة. ودول مجلس التعاون الخليجي استخلصت العبر من تجاربها السابقة مع السياسات والإدارات.
وحدة الدراسات الدولية