قيل وكتب الكثير بخصوص فشل تجارب أحزاب وتيارات سياسية نشأت بعد اندلاع الثورة في العام 2011، ليضاف إلى فشل سابق لأحزاب معارضة سورية موجودة منذ الاستقلال أو بعده بسنوات قليلة، فشلها في تكوين أكثريات اجتماعية قادرة على إحداث تغيير. ولم يقتصر الأمر على أحزاب وتيارات منفردة، بل شمل أيضاً محاولات ائتلافية أو تحالفات ضمت عدداً من الأحزاب والتيارات، كالتجمع الوطني الديمقراطي في ثمانينيات القرن الماضي، وإعلان دمشق الذي ظهر في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، أو المجلس الوطني السوري أو وريثه الائتلاف الوطني أو خلاصة هذا وذاك في «الهيئة العليا للمفاوضات» التي انخرطت في مفاوضات عبثية مع «لا أحد» تحت المظلة الروسية. من نافل القول إنها جميعاً في الطرف المعارض للنظام الكيماوي، أما بالنسبة للطرف الموالي، فتحليله يختلف تماماً، ولا يمكن تطبيق الأدوات نفسها في الحالتين، فهو إذن خارج اهتمامات هذا المقال.
أول ملاحظة يمكن التوقف عندها هي أن القوى الفاعلة، بدرجات وأشكال متفاوتة، تقع خارج اللوحة السياسية المعارضة برمتها. وإذا استثنينا الدول المنخرطة في الصراع السوري، سيبقى لدينا تياران كبيران فاعلان في الحقل السياسي السوري هما الإسلاميون والقوى الكردية، يملك كل منهما سلطة مسلحة على قسم من الأرض، ويدور صراع متناوب الاحتدام بينهما من جهة، وبين كل منهما و»عدوه الخاص» من جهة أخرى. فعدو التيار الإسلامي هو النظام وحلفاؤه، إضافة إلى القوى الكردية؛ في حين أن عدو هذه الأخيرة هو تركيا والتيار الإسلامي.
ما أسميته بـ»اللوحة المعارضة» هي واجهة سياسية بلا قوة فاعلة على الأرض، ويمكن اعتبار حركة الإخوان المسلمين بتفرعاتها المتعددة وشخصياتها «المستقلة» حالة بين بين، فلا هي موجودة كقوة مسلحة على الأرض، ولا هي غائبة عنها تماماً بسبب صلاتها الوثيقة بتشكيلات مسلحة إسلامية، كما بوجودها الرمزي كإيديولوجيا إخوانية. لكن الالتحاق التام للتيار الإخواني بالأجندة التركية قد يدخلها في تصنيف آخر يوحدها سياسياً مع الفصائل المسلحة الملحقة بالاحتلال التركي في مناطق الشمال، وهو ما يخرجها عملياً من «اللوحة المعارضة».
ولكن ما الذي يبقى من اللوحة المذكورة إذا نحن أخرجنا التيار الإسلامي منها؟
إن هناك تفكيراً لدى مختلف الأطراف باليوم التالي على نهاية الصراع، وربما تسرعت الهيئة بفكرة إنشاء هيئة الانتخابات من هذا المنطلق، فالصراع واللا-حل قد طالا أكثر مما يجب
تبقى «شخصيات» وتيارات صغيرة لا وزن لها يمكن جمعها تحت مظلة «الإيديولوجيا الوطنية السورية» وهي إيديولوجيا لأنها تفتقر إلى أي أساس متين بخلاف ادعاءاتها الكبيرة.
كأننا عدنا إلى المنطلق نفسه، أي ما اصطلح على تسميته بـ»أزمة الهوية الوطنية السورية» تلك الهوية غير القائمة على أي أسس موضوعية، ومكملها الموضوعي المسمى «تدويل المشكلة السورية» أي كف يد السوريين عن تقرير مصير سوريا. وهذا ينطبق ليس على المشهد المعارض وحده، بل كذلك على مقابله لدى النظام وبيئته الاجتماعية.
من المحتمل أن قليلين هم من يمكن أن يختلفوا مع هذا التشخيص، مهما بدا عالياً أصوات المنادين بسوريا ديمقراطية لكل السوريين، ومن باب أولى المنادين بسوريا الأسدية الأبدية.
هناك عامل إضافي دخل على المشهد السياسي السوري في السنوات الماضية بضجيج أقل ولكن بثبات، هو «المجتمع المدني» بمنظماته وشخصياته ومصادر تمويله. هو عامل مثير للجدل إن لم نقل إنه مرذول عموماً، سواء لدى بيئة الثورة أو بيئة النظام، يشبه في ذلك «العامل الكردي» الذي يشترك معه في نقطة أخرى هي أنهما مدعومان من «المجتمع الدولي» وبالذات من الولايات المتحدة. ولكن لا يمكن القول إن كلاً من منظمات المجتمع المدني و»قوات سوريا الديمقراطية» أو مجلسها السياسي، هما ممثلان لأجندة أمريكية أو غربية، على غرار القوى الملتحقة بالأجندة التركية، لا بسبب تعففهما عن ذلك، بل ببساطة لأن الغرب أو الولايات المتحدة ليست لديهما أجندة، بل حتى سياسة متسقة بشأن سوريا، إلى الآن على الأقل. في فترة سابقة، أيام الحرب على داعش لعبت قوات سوريا الديمقراطية دور مخلب القط المحلي لقوات التحالف، لكنها مرحلة انتهت، لذلك بات مصير «الإدارة الذاتية» في مهب الريح، وبخاصة بعد سماح إدارة ترامب لتركيا بغزو منطقة «نبع السلام» في الشمال الشرقي.
المبعوث الأممي السابق ستافان دي مستورا أدخل «ممثلي المجتمع المدني» إلى مسار المفاوضات العبثية، وبات هذا أمراً واقعاً يصعب التراجع عنه، في حين أن روسيا فشلت في إقناع تركيا برفع الفيتو الخاص بها على أي تمثيل كردي في مسارات التفاوض، على عبثيتها. نلاحظ، هنا أيضاً، ما يؤكد من جديد على انتزاع القضية السورية من أيدي السوريين وإمساك الدول المنخرطة بمصير سوريا بها.
أعلنت الهيئة العامة للمفاوضات الشهر الماضي عن تأسيس ما أسمته بـ»الهيئة العليا للانتخابات». كانت خطوة مفاجئة أثارت ردود فعل سلبية واسعة لدى الرأي العام المعارض الذي اتهم «الهيئة العامة» بأنها تستعد، بتلك الخطوة، للمشاركة في الانتخابات الرئاسية التي سيجريها النظام لانتخاب بشار الأسد لولاية جديدة من سبع سنوات. لا نعرف بصورة يقينية ما إذا تم سحب هذا المشروع تحت ضغط الرأي العام كما يقال، أم أنه تم بإشارة خفية من الراعي التركي أو لسبب آخر. ذلك لأن الجسم المعارض المذكور قلما أبدى اهتماماً بالانتقادات الموجهة إليه من قبل جمهوره المفترض. ما يتصل من هذه الحادثة بموضوع هذا المقال هو أن هناك تفكيراً لدى مختلف الأطراف باليوم التالي على نهاية الصراع، وربما تسرعت الهيئة بفكرة إنشاء هيئة الانتخابات من هذا المنطلق، فالصراع واللا-حل قد طالا أكثر مما يجب، وهناك مستجد عالمي لا بد من حسبان حساب انعكاساته المحتملة على الصراع السوري وآفاق نهايته، ألا وهو التغيير السياسي الذي حدث في واشنطن، وما تثيره التوقعات المختلفة من آمال أو مخاوف لدى مختلف الأطراف.
بصرف النظر عن نوع ومدى التأثير المحتمل للإدارة الأمريكية الجديدة بشأن سوريا، يمكننا القول إن حدود تأثير الإسلاميين على مصير سوريا تكاد تتطابق مع تأثير العامل التركي، في حين يبقى العامل الأكثر تأثيراً هو روسيا المتمسكة ببقاء النظام، وتتحدد «الحصة الأمريكية» إن كانت واشنطن مهتمة، في «ثلث المجتمع المدني» المقوى بقوات سوريا الديمقراطية. وهذا ما لا يترك شيئاً تقريباً للتيارات السياسية الممثلة للأيديولوجيا الوطنية السورية.
بكر صدقي
القدس العربي