في يوم الأربعاء الفائت، أجرت إيران مناورات بحرية بالصواريخ قصيرة المدى “شهدت استعراض سفينة “مكران” (Makraan) الحربية، للدعم والإسناد، وتشمل مناورات وحدات العمليات بالسواحل والبحر إطلاق صواريخ من طراز كروز بحرية سطح سطح، وإطلاق طوربيدات من الغواصات البحرية محلية الصنع، وكذلك عمليات للطائرات المسيّرة.
وأعلنت إيران عن اختبار صواريخ باليستية طويلة المدى هادفة إلى مهاجمة حاملات الطائرات والسفن الحربية، وهو ما يمثل تحديا خطيرا لدول الشرق الأوسط، وخاصة للدول الكبيرة التي كان بعضها يعلن عن تفهمه لمساع التصنيع العسكري الإيراني، مثل دول الاتحاد الأوروبي، والبعض الآخر يلوّح باستهداف مواقع عسكرية لطهران دون أن ينفذ تهديداته مثل الولايات المتحدة، واختبر الحرس الثوري الإيراني صواريخ باليستية لإصابة أهداف بحرية في المحيط الهندي، وفق ما أفاد به موقعه الإلكتروني السبت، في ختام مناورات عسكرية امتدت ليومين.
وحضر اليوم الثاني من المناورات، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري، إضافة إلى القائد العام للحرس اللواء حسين سلامي، وقائد قوته الجو-فضائية العميد أمير علي حاجي زاده.
وقال سلامي، وفق ما أفاد “سباه نيوز”، إن “أحد أبرز أهدافنا في السياسات والاستراتيجيات الدفاعية، هو التمكن من استهداف سفن العدوّ، بما فيها حاملات الطائرات والسفن الحربية، باستخدام صواريخ باليستية بعيدة المدى”.
وانتهت المرحلة الأخيرة السبت، بحضور الجنرال سلامي، وقائد القوة الجو فضائية بالحرس الثوري العميد أمير علي حاجي زاده، وأُعلن عن استخدام جيل جديد من الصواريخ الباليستية أرض-أرض وطائرات مسيرة في هجوم مشترك على قاعدة معادية افتراضية، وتدمير جميع الأهداف المحددة.
وذكرت قناة فوكس نيوز الأميركية أن صواريخ إيرانية سقطت على بعد 160 كلم من حاملة الطائرات الأميركية نيميتز في المحيط الهندي، في تنفيذ فوري للتهديدات التي أطلقها الحرس الثوري، وأفاد الحرس في بيان نشر على موقعه “سباه نيوز” أن صواريخ “من فئات مختلفة” استهدفت (نماذج من) سفن العدو ودمرتها من مسافة 1800 كلم.
وكان «الحرس» قد أعلن، الجمعة، بدء المرحلة الأولى من مناورات «الرسول الأعظم 15» التي تم خلالها استخدام طائرات مسيرة لاستهداف منظومات دفاع صاروخية، وإطلاق «جيل جديد» من صواريخ باليستية من طراز «ذو الفقار» و«زلزال» و«دزفول». وأكد «الحرس» أن الصواريخ «مزودة برؤوس حربية منفصلة، وبالإمكان توجيهها من الجو. كما أنها قادرة على اختراق دفاعات العدو المضادة للصواريخ».
والمناورات الصاروخية لـ«الحرس الثوري» هي ثالث تدريب عسكري تجريه قوات مسلحة إيرانية خلال أقل من أسبوعين. وأتت هذه المناورات في أعقاب تدريبات أجرتها بحرية الجيش الإيراني يومي الأربعاء والخميس في خليج عمان، ومناورات للجيش باستخدام صنوف متنوعة من الطائرات المسيرة في الخامس والسادس من يناير (كانون الثاني) الحالي.
ويأتي ذلك في ظل توتر متزايد مع الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة من ولاية الرئيس دونالد ترمب الذي اعتمد سياسة «ضغوط قصوى» حيال إيران. وشهدت العلاقات المقطوعة منذ عقود بين طهران وواشنطن توتراً إضافياً في عهد ترمب، ووصل البلدان إلى شفير مواجهة عسكرية مباشرة مرتين منذ صيف عام 2019، لا سيما بعد اغتيال اللواء الإيراني قاسم سليماني بضربة جوية أميركية في بغداد مطلع عام 2020.
مما لا شك فيه، أن المناورات البحرية الضخمة حدث له ما له من دلالات استراتيجية وسياسية إقليمية ودولية بعيدة المدى، وكانت قد سبقتها بأيام كشفها عن قاعدة سرية كبيرة لتخزين صواريخها الباليستية في أحد المواقع المهمة التي اختيرت بعناية على ساحل الخليج، ورأينا كبار قادة الحرس الثوري وهم يتجولون داخله في زهو كبير، وكان المغزى من هذا الإعلان واضح تماما.
التوقيت الذي تم اختياره لإجراء هذه المناورات البحرية في الخليج، حيث تحتشد بعض أقوى قطع الأسطول الأمريكي، بما فيها حاملة الطائرات العملاقة “نيمتز” وتحميها قاذفات (B52) الهجومية الثقيلة والمجهزة بأسلحة نووية، لم يكن جزافيا أو عشوائيا، وإنما جرى تحديده بدقة بالغة في الأيام الأخيرة من عمر إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي ظل يناصب إيران العداء بصورة فاقت في تطرفها وعنفها كل الإدارات الأمريكية السابقة.
أرادت إيران ان تنقل الى ترامب والى شركائه الأوروبيين انها لم تضعف بفعل عقوباته الصارمة عليها، او باغتياله لقادة حرسها الثوري او لعلمائها النوويين، وانها الآن في ذروة قوتها العسكرية، وانها تملك القدرة على الرد العنيف والموجع إذا ما تعرضت للهجوم عليها من أي مصدر كان، وهي رسالة موجهة ايضا الى الرئيس الامريكي الجديد بايدن، بأن إيران لن تفاوض مرة أخرى على برنامجها النووي ، او على برنامج اسلحتها الصاروخية باعتبار ان هذا البرنامج الاخير هو عصب أمنها القومي وركيزة الردع الاساسية التي تحتمي بها وتدافع بها عن نفسها والتي لا يمكنها التفريط فيها تحت أي ضغط أمريكي او دولي، وان ما عدا ذلك يمكن التفاوض عليه شريطة ان يكون مسبوقا برفع العقوبات الامريكية المفروضة عليها وإنهاء الحظر على ارصدتها المالية المجمدة هناك.
وتحمل المناورات الإيرانية الكبرى دلالات عدة في توقيتها وسياقها ومضامینها، إضافة إلى رسائل تسعى طهران إلى توجيهها لأطراف عدة، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، وذلك لأن هذه المناورات لا تجري في ظروف عادية، حيث إنها أولا تأتي في خضم تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة الأميركية، في جميع الملفات الساخنة بين الطرفين، لا سيما في الملفين النووي والدور الإقليمي لإيران.
فمن جهة تسعى الإدارة الأميركية في إطار سياسة “الضغوط القصوى” ضد طهران، المتبعة منذ انسحابها من الاتفاق النووي عام 2018، إلى إعادة الملف الإيراني إلى الأمم المتحدة بغية تدويله مجددا، كما كان الحال قبل التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015. ومن جهة ثانية، تشهد قواعد الاشتباك في المنطقة بين الطرفين في الآونة الأخيرة، تغييرات متسارعة، خصوصا في العراق وسورية، حيث للمرة الأولى اعترضت مقاتلات أميركية، مساء الخميس الماضي، طائرة مدنية إيرانية في أجواء سورية، في خطوة قد لا تكون بعيدة عن مساع أميركية وإسرائيلية لإخراج إيران من سورية.
وثانيا، ما يزيد من أهمية المناورات الإيرانية أنها تجرى في منطقة جيواستراتيجية حساسة، تشهد منذ العامين مناوشات واحتكاكات بين إيران والولايات المتحدة وحلفائها، وتفجيرات ضد ناقلات النفط خلال عام 2019، جاءت بعد فرض واشنطن حظرا شاملا على الصادرات النفطية الإيرانية، دخل حيز التنفيذ اعتبارا من الثاني من أيار/مايو 2019، وسط اتهامات متبادلة بين إيران والولايات المتحدة بالوقوف وراءها.
وثالثا، ما يؤكد حضور الأزمة مع واشنطن في صلب المناورات، هو إجراء القوات الإيرانية تمرينا خلال المناورات على تدمير مجسم لحاملة طائرات أميركية خلال المناورات، في إجراء عسكري، يحمل في طياته، تهديدا إيرانيا مباشرا ضد الوجود الأميركي في مياه الخليج. ودأبت طهران، خلال العامين الأخيرين، على إطلاق تهديدات بإغراق حاملات الطائرات والقطع البحرية الأميركية في الخليج في حال تعرّضها لـ”أي اعتداء وهجوم”.
كما ان في هذا الاستعراض غير العادي في حجمه وتوقيته تحذير واضح لكل من اسرائيل ودول الخليج، ومفاده ان إيران لن تكون هدفا سهلا في حرب قد يخططون لخوضها ضدها، وان ردها عليهم سيكون ساحقا ومدمرا، وان صواريخها تستطيع ان تضرب مدنهم لتحدث فيها قدرا هائلا من الدمار الشامل، وان تكلفة مثل هذه الحرب ستكون باهظة بصورة سوف يصعب عليهم احتمالها، كذلك تريد إيران ان تقول للخليجيين بشكل خاص ان تحالفهم مع امريكا لن يحمي لهم أمنهم، وان التطبيع والتعاون مع اسرائيل لن يوفر لهم الضمان الأمني الفعال او الموثوق فيه الذي يبحثون عنه، وإنما سيكون هذا الضمان رهنا بالتوصل الى اتفاق خليجي ايراني حول نظام أمن اقليمي جديد يكون قاصرا على دول المنطقة الخليجية وحدها وتكون ايران طرفا رئيسا مباشرا وفاعلا فيه، وإلى ان يتحقق ذلك فعلا، فإن ايران لن تتخلى عن حلفائها المقربين منها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، كما انها لن تنسحب من المواقع التي تحتلها حاليا وتوفر لها العمق الاستراتيجي الذي تحتاجه في التعامل مع التهديدات الامنية الامريكية والاسرائيلية التي تواجهها وتضغط عليها.. او هذا هو ما تبني موقفها عليه.
لكن أين يكمن الخطر من مناورات إيران العسكرية البحرية؟
يتضح من خلال الحوادث العسكرية الإيرانية المتكررة عدة أمور مهمة، أولها: إنّ الأخطاء تقود إلى احتمالية تكرارها مستقبلًا كما حدث سابقًا وهذا يُشكل خطرًا على الملاحة الدولية والمناطق المدنية القريبة من مناطق المناورات العسكرية، وأنّ ضعف الجوانب التقنية في العتاد العسكري الإيراني لا يُمكن أن يجعلها تتملص من المسؤولية نتائج أعمالها العدائية داخليًّا وخارجيًّا.
إنّ الخطر لا يكمُن في ضعف التقنية واعتماد طهران في جوانبها العسكرية على الجانب الكمّي أكثر من الكيفي فحسب؛ بل الأهم من ذلك أنه يكمن في العقلية التي تُدير هذه الأسلحة وتتحكم فيها، إذ يغلب عليها البُعد الأيديولوجي والطائفي. كما أنّ حقيقة قيام النظام بتسليم العتاد العسكري من صواريخ وطائرات مسيرة للميليشيات التابعة له في العراق ولبنان واليمن تقود إلى فهم أهداف النظام من التطوير العسكري والمناورات المتكررة، وفي غالبها هجوميّة، وهذا على عكس ما يُروج له النظام بأنّ برنامجه الصاروخي للأهداف الدفاعية.
في ظل هذا الواقع الذي نعيشه، وفي ظل طبيعة النظام الحاكم في طهران، كيف يتم السماح لإيران بالاستمرار في تطوير برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي، وما هي الضمانات في عدم الوقوع في أخطاء أخرى قد تكون كارثيّة على إيران والمنطقة برمتها. إنّ هذه المخاوف ينبغي أن يتمّ معالجتها من قِبَل المجتمع الدولي وعلى وجه الخصوص مجموعة 5+1 التي شرعنت لإيران تطوير برنامجها النووي سواءً من خلال منحها حقّ تخصيب اليورانيوم بنسبٍ وصلت الآن إلى 20% أو مع نهاية خطة العمل المشتركة بعد عشر سنوات في ظل عمل طهران على تطوير صواريخ باليستية قادرةٌ على حمل رؤوس نووية.
الرسالة الايرانية الحالية هي رسالة متعددة الابعاد والاهداف، كما انها تصدر في توقيت بالغ الاهمية والحساسية، وتفتح الباب أمام الكثير من الاحتمالات المهمة على كل الاصعدة الخليجية والعربية والاقليمية والدولية، وهي احتمالات تفرض علينا كأطراف عربية أن لا نتجاهلها او نستخف بها من منطلق ان الحل ليس بأيدينا وان المواجهة مع ايران تتجاوز حدودنا وتفوق قدراتنا وان حسمها يظل بأيدي غيرنا وليس بأيدينا، فهذا التصور الذي يساورنا طوال الوقت ليس صحيحا على اطلاقه ، فأوراقنا كثيرة ومؤثرة إذا أحسنا توظيفها بمهارة وذكاء، وواجبنا تجاه أنفسنا يقتضي منا ان نعيد تقييمنا لعلاقاتنا مع ايران بكل أبعادها وجوانبها وبمختلف إيجابياتها وسلبياتها ونقاط قوتها وضعفها لنعرف ما يجب علينا ان نعرفه من حقائق نرى الواقع من خلالها ، ولنمضي منه الى اختيار المسار الذي يمكننا التحرك فيه مستقبلا وصولا منه الى نتائج افضل وخسائر أقل… وتبقى السياسة دائما هي فن الممكن لا فن المستحيل.. ولا بأس من المحاولة، فقد ننجح في ترويض ايران واستئناسها وكبح جماحها إذا لم نتمكن من انتزاع مخالبها وأنيابها.
وحدة الدراسات الايرانية