بعد فوز الرئيس الأميركي جو بايدن في الانتخابات، تجددت أمنيات ومخاوف الأطراف الإقليمية على حد سواء. الأمنيات الإيرانية بتحقيق الانفراجة ورفع العقوبات والضغط الأقصى الذي وقع عليها خلال إدارة دونالد ترمب، في مقابل تجدد القلق الإسرائيلي من احتمالات عودة التفاهمات بين طهران وواشنطن، مع تقييد حركة تل أبيب في التعامل مع ما يمثل تهديداً لأمنها. وعلى الرغم من أنني سبق وكتبت في هذه المساحة عن وجود كثير من العراقيل أمام التوصل إلى اتفاق جديد سلس بين واشنطن وطهران، إلا أن حديث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين منذ يومين أكد هذا التصور. وتدريجاً، تلاشت الأمنيات والمخاوف التي ارتبطت بسيناريوهات فوز أو خسارة بايدن، لتتجدد الآن سياقات مرتبطة بتهديدات إيرانية ومشاورات أميركية مع الأطراف الإقليمية ومنها إسرائيل.
فقد قال بلينكين إن سياسة بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي مرتبطة بامتثال إيران الكامل بالتزاماتها بموجب “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وبناء عليه ستفعل الولايات المتحدة الأمر ذاته، ثم تستخدم ذلك كمنصة للبناء مع حلفائها وشركائها، من خلال اتفاقية أطول وأقوى وللتعامل مع عدد من القضايا الأخرى التي تمثل إشكالية في العلاقة مع إيران.
لا يمكن اعتبار الموقف أميركياً فقط، إذ سبق وتحدث وزيرا الخارجية الألماني والفرنسي عن ضرورة أن يشمل الاتفاق الجديد مع إيران إطاراً أوسع للقضايا، وأن على طهران العودة أولاً إلى التزاماتها بالاتفاق والامتناع عن المزيد من الاستفزازات.
موقف إسرائيل
الأمر الجلي هنا هو توافق الأوروبيين مع موقف بايدن، الذي يعلنون عنه بشكل قوي الآن بخلاف موقفهم أثناء إدارة ترمب، ربما لأنهم لم يريدوا وقتها الكشف عن هذا الموقف بما يضعهم في ذات مربع سياسة الضغط الأقصى مع الرئيس الرئيس الأميركي السابق ضد إيران، بالتالي ينهار الاتفاق أو تزيد طهران من استفزازاتها، لكن الأمر اختلف الآن مع الرئيس الجديد.
الأمر الآخر المختلف هو أن إدارة بايدن أعلنت انها ستعمل على التشاور مع حلفائها الإقليميين قبل فتح حوار مع إيران، والمقصود هنا الأطراف الإقليمية المتضررة من سلوك طهران. وبدأ بالفعل منذ أيام قليلة التشاور بين واشنطن وتل أبيب. ومعروفة الخطوط الحمر التي لا تسمح إسرائيل بتجاوزها من قبل إيران و”حزب الله”، لا سيما داخل سوريا. لكن المؤكد أنها تريد أن تعرف موقف إدارة بايدن بشأن حرية الحركة التي سمحت بها إدارة ترمب لها من خلال الهجوم الجوي على أي اهداف أو مستودعات وتمركزات إيرانية داخل سوريا، في ما أسمته إسرائيل بـ”الحملة بين الحروب”. (Campaign Between Wars)
إيران ستنتقم لموت سليماني من إسرائيل في عام 2041
ومن ثم تريد الاطمئنان على أنه إذا لم تُتَح لها حرية الحركة عسكرياً داخل سوريا، فكيف يمكن أن يتحقق لها الحفاظ على خطوطها الحمر؟ أي أن إسرائيل ربما بدأت بوضع الخيار العسكري ضد إيران كملاذ أخير فقط، لما له من تداعيات محتملة على العلاقات بينها والولايات المتحدة. لذا، فإن رئيس الموساد يوسي كوهين سيزور واشنطن في فبراير (شباط) المقبل، لإجراء أول عرض مباشر رفيع المستوى بشأن تصور تل أبيب للخطوات التالية مع طهران. ومن جهة أخرى، قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي إن خطط الهجوم يجب أن تكون على الطاولة في ضوء انتهاكات إيران الأخيرة للاتفاق النووي، ما يعني عدم استبعاد هذا الخيار.
موقف إيران
في ظل هذا السياق الذي أكده بلينكين أن الأولوية والتروي هما ضمن نهج الإدارة الجديدة تجاه إيران وأن الأمر متروك لهذه الأخيرة. وفي الوقت ذاته، سيكون شركاء الولايات المتحدة الإقليميين جزءًا من الحوار حول طهران والقضايا الأوسع الخاصة بالأمن الإقليمي، ومع خطة العمل الشاملة المشتركة، لا نجد أن الأمنيات الإيرانية ظلت قائمة. ولا نتحدث هنا عن موقف المتشددين و”الحرس الثوري”، فهو معروف في ما يخص الاتفاق النووي والانفتاح على الغرب، إنما نتحدث هنا عن التيار الإيراني الذي يقاتل للعودة إلى الاتفاق. فمَن تابع مقالات وزير الخارجية جواد ظريف قبل إتمام الاتفاق عام 2015، يجد أنه تحدث عن أن التفاهم لن يكون سقفاً، بل منصة تنطلق منها العلاقات بين واشنطن وطهران للتعاون الإقليمي في قضايا عدة وتقديم إيران كمفتاح لحل أزمات الإقليم. واليوم في يناير (كانون الثاني) 2021، نجد أن سفير إيران لدى الأمم المتحدة ماجد تخت رافنشي الذي كان نائباً لظريف، كتب بالأمس مقالاً في صحيفة “نيويورك تايمز” يوضح لإدارة بايدن من أين يمكن البدء مع بلاده، فقال إن “أي وفاء فاتر أو جزئي لالتزامات الولايات المتحدة، سيقوّض ما وعد به بايدن. وسيفسَّر ذلك أيضاً على أنه عدم صدق من جانب الإدارة الجديدة، الأمر الذي سيوفّر ذخيرة لمعارضي الاتفاق النووي لتخريب الدبلوماسية”. واستكمل مقاله، “قد تسير سياسة السيد بايدن حيال إيران في اتجاهين متعارضين: قد يحافظ على العقوبات المفروضة على إيران، التي تنتهك الاتفاقية النووية والتي رفضها المجتمع الدولي – وهي خطوة من شأنها أن تكون بمثابة استمرار للسيد ترمب المشؤوم -سياسة الضغط الأقصى- أو قد يختار التنفيذ الفوري للالتزامات الأميركية بموجب الاتفاق النووي، وهو الوعد الذي قطعه بالفعل. الاتفاق صُمم خصيصاً للتعامل مع القضية النووية، ولا شيء غير ذلك. عناصر أخرى في العلاقات الأميركية – الإيرانية لا علاقة لها بالاتفاقية ولا يمكن أن تتشابك معها. ومع ذلك، إذا تم تنفيذه بالكامل، يمكن أن يكون أساساً للاحترام المتبادل الذي سيعود بالفائدة على كل الأطراف. لكن على السيد بايدن وإدارته أن يعرفوا أن أي تأخير في رفع العقوبات سيفسَّر على أنه علامة على العداء المستمر تجاه الشعب الإيراني. الإيرانيون يعانون من هذا الحصار الجائر على اقتصادنا، والمسؤولية عن هذه المعاناة تقع على عاتق الولايات المتحدة. لن يكون الشعب الإيراني غير مبالٍ بالعقاب الجماعي المستمر. في الواقع النافذة تغلق. إذا لم تفِ الإدارة الجديدة بالتزاماتها وألغت العقوبات في وقت قصير، فإنها ستقضي على إمكانية الانخراط في الاتفاق النووي. لكن الرفع الكامل والصادق للعقوبات، سيخلق مناخاً جديداً يساعد في تخفيف التوترات في المنطقة وخارجها”.
المعضلة الإيرانية
إن الفقرة التي سبقت كانت ترجمة لمقال ماجد رافنشي، ويمكن من خلالها تبيان التهديدات الإيرانية وأن المزيد من المماطلة أو التروي الأميركي مع تضمين أطر أوسع، يعني لإيران استمرار سياسة ترمب ذاتها تجاهها، ويعني مزيداً من التوترات في المنطقة. فهو هنا لا يتحدث على غرار مقالات ظريف عام 2015 عن ازدهار المنطقة والتعاون، بل يتحدث عن توترات داخل المنطقة وخارجها، ولا يمكن أن نستبعد صواريخ الحوثيين التي أُطلقت منذ يومين على العاصمة السعودية الرياض.
المعضلة هنا في ما يخص الطرفين الأميركي والإيراني، هي كون طهران تقف الآن في موقف لا يشاركها فيه حتى الأوروبيون وهو ضرورة عدم تضمين الاتفاق منظومة الصواريخ الباليستية التي تعتبرها أهم أهدافها وأدواتها وتتباهى بتطويرها من حين لآخر. فمنظومة الصواريخ الباليستية تعوّض تقادم الأسلحة التقليدية لديها، كما أنها تمثل أهم أدوات الردع التي يمكنها من خلالها تهديد جيرانها أو خصومها، بالتالي نقل المعارك بعيداً من أراضيها. في الوقت ذاته، تمثل تلك الصواريخ تهديداً لدول الخليج، وهي تنتقل من إيران إلى بعض وكلائها وتهدد الآخرين، كما أن إسرائيل تخشى انتقال تلك الأسلحة إلى تنظيمات قد تستخدمها ضدها، لذلك تشنّ دائماً هجمات حيث تنقل طهران بنية الصواريخ، مثلما فعلت في العراق وتفعل الآن في سوريا.
إذاً في مقابل رفع العقوبات وتخفيف الوضع الاقتصادي البائس، ما هي التنازلات التي تقدّمها إيران في حال إصرارها على عدم تضمين الصواريخ الباليستية في الاتفاق؟ الملاحَظ أن طهران تحاول أن تمارس أسلوبها التقليدي في المفاوضات، إذ أعلنت منذ فترة تحلّلها من التزاماتها بالاتفاق حتى مع فوز بايدن، ففي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، استأنفت تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة في منشأة فوردو تحت الأرض. وفي وقت سابق من الشهر الحالي، قالت إنها بدأت تطوير معدن اليورانيوم. إذاً فهي تريد أن تكون عودتها إلى التزاماتها بالاتفاق، ورقة التنازلات التي تقدمها للمجتمع الدولي وبايدن، لتُستخدم كبديل عن ملف الصواريخ الباليستية.
من جهة أخرى، تريد طهران تسريع دفع الولايات المتحدة إلى التفاوض معها، إذ كرر ظريف موقف حكومته بأن بلاده ستعود إلى الامتثال للاتفاق وستسمح للمفتشين الدوليين بالوصول إلى المواقع النووية، إذا رفعت إدارة بايدن العقوبات أولاً. كما لوّح المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيع، بالرهان على ورقة أخرى، قائلاً إن طهران ستقيّد عمليات التفتيش الدولية في 19 فبراير المقبل إذا لم تسحب العقوبات الأميركية، أي أن إيران تستخدم ورقة التنازلات لدفع الولايات المتحدة إلى التفاوض في أقرب وقت، مع التلويح بأنها أقصى ما يمكن تقديمه من تنازلات بعيداً من الملفات الأخرى الحقيقية التي تهم كل الأطراف الإقليمية والتي تزعزع استقرار المنطقة.
إن حل هذه المعضلة الخاصة بالاتفاق الموسَّع الذي يجب أن يشمل قضايا الصواريخ الباليستية وتدخّل إيران في كثير من دول المنطقة ومخاوف الأطراف الأخرى، هو أساس ما ينبغي أن تعمل عليه إدارة بايدن تجاه طهران حتى لا تكون استنساخاً لمقاربة إدارة أوباما التي لم تحدّ من طموحات الهيمنة الإيرانية المقيَّدة بالعراقيل التي صنعها ترمب قبل رحيله وزادت من توترات المنطقة.
هدى رؤوف
اندبندت عربي