لم يتمّ بعد الكشف عن معظم التفاصيل المحيطة بآخر حادثتيْ اختراق طائرات بدون طيار للمجال الجوي السعودي. ويشير ذلك إلى وجود ثغرات في تغطية الاستخبارات الأمريكية وإلى تكتيكات خداع معقدة بشكل متزايد من قبل شبكات الميليشيات الإيرانية الموحدة في العراق واليمن.
لم يتمّ بعد الكشف عن معظم التفاصيل المحيطة بآخر حادثتيْ اختراق طائرات بدون طيار للمجال الجوي السعودي، وهو أمر محير وغير اعتيادي على السواء. ومع ذلك، هناك جانب واحد من الحادثتين لا لبس فيه، وهو ردود الفعل المنسقة لشبكات الحملات الدعائية المدعومة من إيران التي جاءت في أعقابهما مباشرة. وتشير ردود الفعل هذه وعوامل أخرى إلى تنامي تركيز إيران والميليشيات على دول الخليج، والرغبة في اختبار التضامن الأمريكي السعودي بعناية، والطبيعة متعددة الاتجاهات بشكل متزايد لتهديد الطائرات المسيّرة والصواريخ ضد المنشآت الأمريكية وشركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
الاعتراضات المُبلغ عنها فوق العاصمة
في 23 و 26 كانون الثاني/يناير، تمّ اختراق المجال الجوي للرياض، وجرى إطلاق صواريخ اعتراضية على أهداف جوية. ونظراً لاكتشافها المتأخر وغياب أي بصمة لها على الرادار أو إشارات مرئية، فربما كانت الأجسام المتطفلة طائرات بدون طيار شبه شبحية. وحدثت عمليتا الاعتراض في وضح النهار، وهو أمر نادر جداً في تاريخ الهجمات على الرياض وقد يشير إلى وجود طائرة مسيّرة بعيدة المدى وبطيئة نسبياً تم إطلاقها تحت جنح الظلام واستغرقت ساعات للوصول فوق العاصمة. ولا يزال نوع الهدف، والارتفاع، ونوع الاعتراض ونتيجته، والأضرار الأرضية (إن وقعت) غير واضحة، على الرغم من أن صحيفة “وول ستريت جورنال” ذكرت أن “الديوان الملكي” في قصر اليمامة قد تعرض للقصف.
كما أن نقاط انطلاق كل عملية اختراق غامضة على نحو مماثل. فإيران تملك مجموعة من أنظمة الطائرات بدون طيار بعيدة المدى القادرة على استهداف الرياض بمتفجرات خفيفة الوزن أو حمولة أجهزة الاستشعار، سواء تم إطلاقها من أراضيها أو من اليمن أو العراق. وقد ساعدت الميليشيات المدعومة من إيران مرتين «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني في إطلاق طائرات مسيّرة صغيرة محملة بالمتفجرات ذات أجنحة دلتا من العراق إلى السعودية لمدى 600-700 كيلومتر – أولاً في أيار/مايو 2019 ضد خط أنابيب النفط بين الشرق والغرب، ومرة أخرى في أيلول/سبتمبر ضد معمل معالجة النفط في بقيق. كما تم استخدام الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن لإطلاق طائرات بدون طيار بعيدة المدى من طراز “صمد -2” و “صمد -3” محملة بالمتفجرات ضد الرياض وأهداف أكثر بُعداً (على سبيل المثال، الغارة في تموز/يوليو 2018 ضد مطار أبو ظبي الدولي في الإمارات(.
إن الافتقار إلى حطام الأسلحة المعلنة أو غيرها من المعلومات يجعل من المستحيل تحديد مكان وقوع حادثتي 23 و 26 كانون الثاني/يناير، لكن المؤشرات تَظهر بصورة غير علنية على أن هجوم واحد على الأقل جاء من العراق. ويتمثل السيناريو الأكثر ترجيحاً بأن يكون الفاعلون قد أطلقوا طائرة مسيّرة شبه شبحية من موقع قريب من بغداد – ربما من قاعدة “جرف الصخر” التي تستخدمها ميليشيا «كتائب حزب الله» المدرجة على لائحة الإرهاب الأمريكية، والتي شنت أيضاً هجمات أيار/مايو وأيلول/سبتمبر 2019 من هذا الموقع.
دعاية مُنسقة
بالنظر إلى عدم وقوع أي ضرر كبير على ما يبدو، فقد يكون الهدف المحتمل الآخر لعمليات الاختراق هو تعزيز أهداف الحملة الدعائية التي تشنها إيران ووكلاؤها. فقد ركزت هجمات الحوثيين على الرياض سواء عبر الطائرات بدون طيار أو الصواريخ منذ عام 2017 على احتلال العناوين الرئيسية، وعدم التسبب في أضرار مادية، وهو أمر قد يكون صعباً على أي حال بسبب الحمولة الصغيرة والدقة المحدودة لأنظمة الحوثيين القادرة على الوصول إلى مدينة تبعد 1000 كيلومتر عن مواقع هذه الأنظمة. وفي الحالة الراهنة، ثمة أدلة أكثر من أي وقت مضى تشير إلى وجود دافع رمزي في المقام الأول.
وفي 23 كانون الثاني/يناير، أعلنت جماعة غير معروفة من قبل تطلق على نفسها اسم «ألوية الوعد الحق» مسؤوليتها عن الحادثتين بعد اختراق المجال الجوي للرياض مباشرة. وكشفت الجماعة بعد ذلك عن شعار ذو مظهر احترافي، وسرعان ما قوبل ظهورها بدعم من القنوات الدعائية الخمس الرئيسية لـ “المقاومة” المدعومة من إيران في العراق. ويعتبر هذا المستوى من التلاحم غير معتاد ويشير إلى أن الجماعة تلقت أوامر للقيام بذلك من «الحرس الثوري»، الشريك الأكبر الوحيد الذي يتمتع بالصلات والتأثير لتوجيهها جميعاً في وقت واحد.
ويتزامن تبني «ألوية الوعد الحق» الهجوم أيضاً مع تصاعد دعاية شبكة التهديد الإيرانية المناهضة للخليج. وألقت قنوات الميليشيات العراقية باللوم على السعودية في التفجير الذي نفذه تنظيم «الدولة الإسلامية» في بغداد في 21 كانون الثاني/يناير، في حين تضمن بيان «الوعد الحق» الصادر في 23 كانون الثاني/يناير تهديداً لدبي. وفي 27 كانون الثاني/يناير، أرسلت الجماعة صورة لـ “برج خليفة” في الإمارة وهو يتعرض لهجوم من طائرات مسيّرة من النوع الإيراني – في منشور أُعيد بثّه على الفور من قبل جميع شبكات “المقاومة” الرئيسية الخمس. ويشير رد الفعل المصقل والمنسق هذا إلى أربع حقائق حول طريقة تفكير طهران ووكلائها في الوقت الحالي:
قد تكون الميليشيات المدعومة من إيران بصدد تحويل تركيزها نحو السعودية والإمارات، وربما تستغل مخاوف دول الخليج بأن القيادة الأمريكية الجديدة في الفرعين التنفيذي والتشريعي لن تهرع إلى الدفاع عن هذه الدول، لا سيما في حال تعرضها لهجمات غير فتاكة.
ربما تختبر إيران قدرتها على شن هجمات متعددة الاتجاهات على السعودية من أراضٍ مختلفة، وتعمل على تقييم رد فعل الولايات المتحدة على مثل هذه الضربات. ففي 26 كانون الثاني/يناير، على سبيل المثال، عرضت قناة “الكوثر” الفضائية التابعة لـ «كتائب حزب الله» خريطة تظهر صور للهجمات على السعودية وهي قادمة من صعدة (في اليمن التي يسيطر عليها الحوثيون)، ومن البوكمال (منطقة سورية تسيطر عليها الميليشيات المدعومة من إيران)، و “جرف الصخر” (قاعدة «كتائب حزب الله» المذكورة أعلاه)، ولبنان، وإيران.
يبدو أن طهران تختبر قدرتها على إرباك المجتمع الدولي برسائل منسقة من الميليشيات. على سبيل المثال، بدا وكأن الجماعات العراقية تدعم الاختراقات في الرياض وتربطها بشكاوى الميليشيات، في حين سرعان ما نفى الحوثيون أي مسؤولية لهم. وقد ينبع نفي الحوثيين من الرغبة في تقليل التوترات مع الولايات المتحدة وتأمين التخفيف من العقوبات الأخيرة. ومهما كان الأمر، يبدو أن إيران ووكلائها هم الآن أكثر مهارة في السيطرة على السردية حول مصدر ضرباتهم، ويبدو أنهم تعلّموا من جهودهم الأقل فاعلية بعد الهجوم على خط الأنابيب السعودي في أيار/مايو 2019 (عندما تظاهر الحوثيون بأنهم أطلقوا طائرات بدون طيار جاءت أساساً من العراق) وهجوم أيلول/سبتمبر 2019 على بقيق (عندما أطلق الحوثيون طائرات مسيّرة قصيرة المدى في الوقت نفسه الذي دخلت فيه صواريخ إلى السعودية من إيران والعراق).
قد تردّ طهران مباشرة أو أعضاء آخرون على إجراءات تستهدف أحد أعضاء شبكة التهديد الإيرانية – سواء كانت تلك الإجراءات حقيقية أو متصورة أو متعمدة. وتتعارض طريقة التفكير هذه مع نهج واشنطن تحت قيادة وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، حيث يمكن شن انتقام أمريكي ضد أي ذراع لشبكة التهديد بغض النظر عن الجهة التي تهاجم المصالح الأمريكية. وفي الحالة الراهنة، استغلت فصائل الميليشيات العراقية التفجير الذي نفّذه تنظيم «الدولة الإسلامية» في 21 كانون الثاني/يناير في بغداد كذريعة للرد على “المؤامرة الصهيونية-الأمريكية-السعودية” ضد “المقاومة”. وهذا ليس جديداً تماماً: ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2013، على سبيل المثال، أطلقت الميليشيا الشيعية العراقية «جيش المختار» صواريخ على السعودية في انتقام واضح لتفجير السفارة الإيرانية في بيروت. ومع ذلك، قد تكون هذه الاستراتيجية المتمثلة بـ “الجميع نحو هدف واحد” في مرحلة النضج والتصعيد.
التداعيات على السياسة الأمريكية
إن المسؤولين الأمريكيين محقون في عدم المبالغة في رد فعلهم على ما قد يكون اختباراً للمجال الجوي للرياض، وقد يكون للسعوديين أسبابهم الخاصة لحفظ ماء الوجه والتقليل من شأن هذه الاختراقات. ومع ذلك، إذا تُرِكت هذه الاختبارات دون مراقبة وبلا رادع، فقد تزداد جرأة، ولا سيما إذا كان دافع طهران هو بث الانشقاق في العلاقات الأمريكية-السعودية والأمريكية-الإماراتية وإرغام واشنطن على تخفيف العقوبات بسرعة أكبر. لذلك على إدارة بايدن اتخاذ خطوات مناسبة ومدروسة رداً على ذلك:
مراقبة الجماعات التابعة لإيران عن كثب. يجب أن يكلّف البيت الأبيض مجتمع الاستخبارات بمهمة تفكيك شبكة الجماعات “الواجهة” مثل «ألوية الوعد الحق». ويشمل ذلك توضيح روابطها مع «الحرس الثوري الإسلامي» والجماعات الإرهابية المصنفة مثل «كتائب حزب الله» و«أنصار الله» التابعة للحوثيين. ويتمّ استخدام هذه الشبكات في جهد منسق على نحو متزايد لطمس المسؤولية الإيرانية عن الهجمات على المنشآت الأمريكية في الشرق الأوسط وأهداف في البحرين وإسرائيل والسعودية والإمارات.
كشف المزيد من المعلومات بشأن الهجمات بطائرات بدون طيار، والصواريخ، والهجمات البحرية. على الولايات المتحدة تعزيز قدرتها على المراقبة من أجل تحديد نقاط إطلاق الطائرات المسيّرة التي تصعب رؤيتها والهجمات بالصواريخ الجوالة على وجه السرعة، لا سيما على طول الحدود العراقية السعودية. كما يجب أن تستمر في السعي للحصول على معلومات استخباراتية عن أسلحة الطائرات بدون طيار، والصواريخ، وشظايا الألغام المتعلقة بالعمليات التي يتم شنها من إيران والعراق واليمن. وتثمّن طهران القدرة على تصوير نفسها كأحد أفراد المجتمع الدولي الملتزمين بالقانون، لذلك على الولايات المتحدة نشر مثل هذه البيانات بشفافية لضمان ألا يقع الكونغرس والأمم المتحدة وعامة الجماهير ضحية الأوهام بشأن الوجه الحقيقي للنظام. وإذا كانت حوادث الطائرات بدون طيار في الرياض قد تم بالفعل شنها من العراق، فعلى واشنطن أن تشجع بغداد بصورة غير علنية على اكتساب وجود بري في قواعد الميليشيات مثل “جرف الصخر” من أجل منع المزيد من عمليات الإطلاق.
تشجيع التعاون السريع في مجال الدفاع الصاروخي بين إسرائيل والسعودية والإمارات. هذه هي الدول الأكثر تهديداً بالصواريخ والطائرات بدون طيار التي مصدرها إيران، ولا يمكنها أن تأمل في تطوير دفاعات فعالة ما لم تتعاون بشكل وثيق مع بعضها البعض ومع الولايات المتحدة. على واشنطن العمل وراء أبواب مغلقة من أجل إنشاء اتحاد لتسريع تطوير الدفاعات الجوية من الجيل التالي، بما في ذلك الأسحلة العاملة بأجهزة الليزر العالية الطاقة، والفائقة السرعة، وذات الموجات الدقيقة بقوة عالية.
مايكل نايتس
معهد واشنطن