لا طرف خلال حرب لبنان الطويلة أقدم على ما حدث في طرابلس وسط حرب عصابات سياسية: إحراق مبنى البلدية التاريخي، والهجوم على السراي بقنابل حربية إلى جانب زجاجات “مولوتوف”. وليس هذا طبعاً من صنع الذين نزلوا إلى الشارع مطالبين بالخبز والعمل، ومنددين بالمنظومة السياسية التي سطت على المال العام والخاص، ودفعت الشعب إلى هاوية أزمات عميقة، وامتنعت حتى عن تأليف حكومة. ولا طرابلس التي سميت مدينة “العلم والعلماء” وصارت المدينة الأفقر في لبنان هي قندهار. ولا النخبة الوطنية ضمن المجتمع المدني فيها فقدت جرأة التصدي للعنف ومثيري الشغب. لكن ما رافق ولا يزال يرافق الانتفاضات الشعبية السلمية، من تظاهرات المجتمع المدني للمطالبة بحل علمي لمشكلة النفايات وطمر “النفايات السياسية”، إلى انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ضد التركيبة السياسية كلها، وصولاً إلى تظاهرات طرابلس وعدد من المناطق، هو نوعان من الألعاب الخبيثة: الأول هو لجوء قوى “الثورة المضادة” الخائفة من أي إصلاح على مصالحها وامتيازاتها إلى إرسال “بلطجية” للاعتداء على المتظاهرين وإحراق الخيام التي يقيمون فيها الندوات، بقصد الإجهاز على الانتفاضة وصوتها وإكمال ما عجز عنه القمع السلطوي. والثاني هو دخول أجهزة وتنظيمات ولاعبين في الداخل ومن الخارج على الخط، واستخدام “مندسّين” للعنف من أجل حرف الانتفاضة عن أهدافها وتشويه سمعتها، وتصفية حسابات سياسية بين أطراف متصارعة على الحصص في السلطة.
وحتى الآن، بدت الألعاب الخبيثة “ناجحة”: عوامل الثورة تكبر، والثوار ينكفئون. شعب فقير زعماؤه أغنياء. بلد خاسر حكامه والمتحكمون به رابحون. نظام طائفي يخدم أمراء الطوائف حين يستخدمون سلاح العصبيات الطائفية والمذهبية عند الحاجة إلى رص صفوف طوائفهم وراءهم ودفع كل طائفة إلى الخوف من طائفة أخرى. أما عندما يتكلم رؤساء الطوائف الإسلامية والمسيحية بلغة وطنية جامعة، ويدعون إلى “تشكيل حكومة مهمة وطنية مترفعة عن الحسابات الشخصية والفئوية”، فإن المافيا الحاكمة والمتحكمة لا ترد عليهم، وتتصرف كأنها لم تسمع ولم تقرأ. ومتى؟ بعد ستة أشهر من كارثة الانفجار الرهيب الذي دمر ميناء بيروت وأحياء في المدينة، وتراكم الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واستقالة حكومة فاشلة ومنع تأليف حكومة تجري إصلاحات وتتفق مع صندوق النقد على التعافي الاقتصادي. أية حكومة؟ تلك التي اقترحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على أمراء الطوائف الذين جمعهم في “قصر الصنوبر” وحصل على التزامهم، ثم انقلبوا على ما وافقوا عليه.
ولا مهرب في النهاية من الخيار مع ازدياد الوضع خطورة وصعوبة كلما هربنا الى الأمام. لا الخيار الحكومي فقط بل أيضاً وقبله الخيار الوطني. هل نختار “حكومة مهمة إنقاذية” من اختصاصيين مستقلين تستعيد ثقة الناس وثقة العرب والغرب، أم حكومة أو لا حكومة ترضي “محور الممانعة” وتكمل عزلة لبنان العربية والدولية من دون أن نكون قادرين على دفع ثمنها وأن تكون طهران قادرة على تحمل كلفتها؟ وإلى أي حد يمكن دفع لبنان المنقسم على طريق الانتقال الجيوسياسي من”دولة- حاجز” إلى “جبهة أمامية في المواجهة” مع إسرائيل وكل من يعتبرهم “محور الممانعة” أعداء أو خصوماً؟
لبنان صار، عملياً، بالتحالف بين العهد و”حزب الله”، جزءاً من المحور الإيراني. لكن من الصعب أن يصبح كذلك رسمياً. فلا العهد ولا “حزب الله” يستطيعان تحمل الأثمان والمخاطر. ولا اللعبة الكبيرة التي تديرها القوى الدولية في المنطقة تسمح بذلك، بعدما اكتفت بأن تطلب منا الحفاظ على سياسة “النأي بالنفس” عن صراعات المحاور الإقليمية. واللعبة تتطوّر، بصرف النظر عن الرأي في حديث رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي عن المواجهة بين محورين: “محور ممتد من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان، ومحور إقليمي من اليونان وقبرص ومصر والأردن ودول الخليج وإسرائيل”. فما فعلته أميركا أيام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب هو دفع خمسة بلدان عربية إلى اتفاقات سلام مع إسرائيل من دون تسوية لقضية فلسطين. وما تفعله في أيام جو بايدن هو العودة إلى “حل الدولتين” وإكمال طريق الاتفاقات العربية- الإسرائيلية، وسط إعطاء الأولوية لمعالجة الملف النووي الإيراني وتوابعه الصاروخية والتوسعية. وما يطلبه العرب لمساعدة لبنان هو الذي عبّر عنه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بالقول: “لبنان يملك مقومات للنجاح، لكنه لن يزدهر بلا إصلاح سياسي ونبذ حزب الله”.
كان هنري أدامز يقول: “السياسة هي التنظيم المنهجي للحقد”. ومن المفارقات في أزمات لبنان أن سياسة الحقد محلية، وسياسة الإنقاذ خارجية.
رفيق خوري
اندبندت عربي