يقدم وزير الخارجية الأميركي الجديد، أنتوني بلينكين، نفسه عبر حسابه في “تويتر”، على أنه عازف غيتار “هاوٍ جداً”، ومن ثم وزير خارجية. وإن كان ما يعنينا هو الشق الثاني، إلا أن العزف على أوتار الدبلوماسية الدولية لا يتحمل الهواة، خصوصاً إذا كانت أوتاراً تربط العالم بأسره بمن يسمّى بـ “شرطي العالم”.
فالوزير الـ 71 الذي يتولى قيادة العمل الخارجي في الولايات المتحدة، من خطابه الأول وظهور سابق متعدد، لا يبدو في شخصيته كمايك بومبيو أو ريكس تيلرسون أو حتى جون كيري الذي سبقهم في إدارة أوباما، فالرجل الذي لا ينظر إلى الصحافيين مباشرة أثناء حديثه، لا يبدو ممن سيشبع نهمهم خلال المؤتمرات الصحافية، فضلاً عن نظرائه في الدول الأخرى، إلا أنه يظل وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية.
بين المنصة والهاتف
على منصة غرفة الإفادة الصحافية، سجل بلينكين الظهور الأول قبل أسبوع من الآن، معلناً بين عباراته الخطوط العريضة للعقيدة الدبلوماسية التي ستعتمدها الإدارة الجديدة.
وسارت بالتوازي مع ظهوره المرئي، بيانات صحافية نشرتها وزارته عن مكالمات أولية أجراها مع نظرائه في عدد من مناطق العالم، ساعدت في رسم ملامح المرحلة التي تثقلها مهمة التخلص من تركة الرئيس السابق دونالد ترمب على الصعد كلها، من ضمنها السياسة الخارجية.
فوسط مطالب التحول وإصلاح وزارة الخارجية بعد 40 عاماً من الاستقرار، ستلقى على عاتق بلينكين مسؤولية إعادة تشكيل دور الولايات المتحدة في العالم، وربما العودة إلى العمل الكلاسيكي الذي يدعو إليه دبلوماسيون سابقون، ويتمثل في “إقناع كبار القادة الوطنيين بسد الانقسامات وخلق أنظمة سياسية شمولية، والدفاع عن حقوق الإنسان”.
ويرى نائب وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وليام بيرنز، ومرشحة الرئيس جو بايدن لشغل منصب سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، أن الإصلاح الدبلوماسي لن يتحقق من دون الاستثمار الذكي والمستدام في الموارد البشرية، وكبح العسكرة المفرطة للسياسة الخارجية، إضافة إلى تقليل البيروقراطية والالتفات إلى رأس المال البشري، وهي مستهدفات طموحة قد تصطدم بموازنة غير كافية، وأنظمة إدارية وتقنية قديمة، بسبب التهميش التاريخي الذي عانته الخارجية.
ومن المشكلات التاريخية المتراكمة إلى هجرة الكفاءات والتأخر في إحلال التنوع في مفاصل الخارجية الأميركية، سيواجه الوزير الجديد إحصاءات مزعجة، تفيد بمغادرة قرابة ربع كبار السلك الدبلوماسي مع 60 في المئة من السفراء المهنيين وظائفهم منذ العام 2017، إضافة إلى وجود عدد قليل من السفراء الذين ينحدرون من أصول أفريقية، إذ يبلغ عددهم أربعة فقط من إجمالي 189 سفيراً في الخارج.
وفي ظل ازدياد الهجمات الإلكترونية التي تتعرض لها الولايات المتحدة، تكثر الدعوات إلى تأهيل العاملين في السلك الدبلوماسي وتوعيتهم بالأمن السيبراني، ومنحهم حق الوصول إلى الأنظمة والتكنولوجيا السرية، ليصبحوا أقل عرضة للاختراق من الاستخبارات الأجنبية، وأقدر على مواكبة وكالات الأمن القومي الأخرى.
مراجعة وتصحيح مسار
على صعيد السياسة الخارجية، يواجه عازف الغيتار أولاً، والوزير ثانياً، اختباراً صعباً لوزن أوتار العالم المهترئة بفعل جائحة كورونا المستجد، وانقسامات إقليمية ودولية تبدأ في الشرق ولا تنتهي عند الغرب.
ولحجم التغيير الذي أحدثه الرئيس السابق، يولي بلينكين مراجعة السياسات التي أقرتها الإدارة الجمهورية أهمية بالغة، بداية بالهوّة مع أوروبا، والانسحاب من منظمة الصحة العالمية، وإدارة الظهر لاتفاق باريس للمناخ، إذ جاءت الإدارة الديمقراطية بأجندة مختلفة ترفع شعار “التضامن وإنقاذ الكوكب”.
اقرأ المزيد
أميركا لن تعود إلى الاتفاق النووي وستركز على الحوثيين
بلينكين مندداً: إيران توشك على امتلاك تقنيات القنبلة
بلينكين وأوستن يحذران من التهديد الإيراني في المنطقة
إلا أن أول خطوات الإصلاح كانت جلية خلال حديثه مع وسائل الإعلام، وهو الذي وعدهم باستئناف الإحاطة الإخبارية اليومية للوزارة اعتباراً من الأسبوع المقبل، بعد توقفها في عهد ترمب بسبب خشية المتحدثين الوقوع في حرج التناقض مع مواقف الرئيس السابق المتغيرة، بحسب مراقبين.
وبدأ بلينكين يوم عمله الأول بإعادة ضبط علاقة الحكومة بالصحافيين، واصفاً الصحافة المستقلة بأنها “ضرورية لصورة البلاد العالمية” و”حجر الزاوية للديمقراطية”، في محاولة لإنهاء العلاقة المتوترة بين مسؤولي الخارجية ووسائل الإعلام، وتنفيذاً لوعود الرئيس بايدن بالتزام الوضوح والشفافية.
“نعم” و”لكن”
كان اللافت في خطاب الإدارة الجديدة ومواقفها تبني بعض السياسات المشروطة التي زادت الغموض وعدم الوضوح، ومنها الحديث عن إيران، فعلى الرغم من انفتاح بايدن على العودة إلى الاتفاق النووي، فإن وزير خارجيته وضع شرط التزامها بمتطلباتها حياله. وأكد في المؤتمر نفسه أن الطريق لا يزال طويلاً للوصول إلى اتفاق مع طهران، كما أنه من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة عازمة على التراجع عن العقوبات التي فرضتها على النظام الإيراني.
وأضاف، “الانسحاب من الاتفاق هو التحدي الذي نواجهه حالياً، في ظل اتخاذ إيران خطوات للتراجع عن القيود المختلفة التي فُرضت عليها، وزيادة مخزونها من اليورانيوم المنخفض التخصيب، والتخصيب على مستوى أعلى، إضافة إلى استخدام أجهزة طرد مركزي حظرها الاتفاق”.
وحذّر من أن فترة تجاوز العتبة النووية، أي الوقت الذي تستغرقه إيران لإنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لسلاح واحد، انخفضت منذ أكثر من عام، وهو ما دعمه في تصريح لشبكة تلفزيونية أميركية، قال فيه إن إيران توشك على أن تحصل على تقنيات إنتاج القنابل النووية، ربما خلال أسابيع.
وعلى صعيد الأزمة اليمنية، كان هناك شرط مشابه أعلنه الوزير حين قال، “تعلمون جميعاً أن الحوثيين ارتكبوا عملاً عدوانياً كبيراً عند السيطرة على صنعاء منذ بضع سنوات، وتنقلوا في مختلف أنحاء البلاد، وارتكبوا أعمالاً عدوانية ضد شريكتنا السعودية، وانتهاكات لحقوق الإنسان وغيرها من الفظائع، وخلقوا بيئة رأينا فيها جماعات متطرفة تملأ بعض الفراغات التي نشأت”، مؤكداً عزم بلاده على العمل مع الشركاء لمواجهتهم.
لكن اللهجة الحادة التي استخدمها بلينكين تجاه الحوثيين، اصطدمت بـ “لكن” تنطوي على مراجعات وزارته قرار إدراج الجماعة المدعومة من إيران على لائحة الإرهاب، في خطوة قال إنها للتأكد من أن التصنيف لن يصعّب “مهمة تقديم المساعدات الإنسانية للشعب اليمني”.
تناقض مشابه كان بين “المنصة والهاتف”، فعلى الرغم من تشديد الوزير في حديثه مع نظيره الإسرائيلي على حرص واشنطن على دعم مشروع “أبراهام” والسلام في المنطقة، إلا أن الخطاب حمل أولى الضربات إلى موثوقية الانخراط في اتفاق مشابه، إذ أعلن تجميد الإدارة صفقة الـ “إف- 35” التي أجازتها الإدارة الماضية لأبوظبي، ضمن صفقة قبول الأخيرة بإقامة علاقة كاملة مع تل أبيب، لأسباب تتعلق بحرب اليمن، الأمر الذي عُد تعطيلاً لإمكان أن تُقدم دول أخرى على الحذو حذو الدولة الخليجية، في ظل عدم موثوقية الصفقات مع تعاقب الإدارات.
“نعم” المشروطة، وعدم قطعية الوعود التي تبدو على اللهجة الأميركية اليوم، قد لا تكون جديدة في اللغة الدبلوماسية، سوى أن العالم اعتاد خلال الفترة الماضية على “الترامبية السياسية” التي كسّرت الأعراف بالمباشرة، واستبدلت الاحتمالات بالصفقات الكاملة.
الدبلوماسية التوافقية
لم يُبد الوزير الأميركي أية مواقف قطعية تجاه أي طرف تعاطى معه حتى الآن، حتى في تلك التي تعتبر مبدأ من مبادئ الإدارة، كملف حقوق الإنسان أو المناخ.
فعن المكالمة الأولى بين الرئيسين الأميركي بايدن والروسي فلاديمير بوتين، كان لافتاً في حديثه رغبته في فصل ملفات التأزم مع الضرورات السياسية، بالسعي نحو استئناف معاهدة “نيو ستارت” بين البلدين، والحديث عن الانفتاح على تطبيع العلاقات مع موسكو، بشرط أن تلتزم باشتراطات عدة على رأسها استحقاقات حقوق الإنسان في ملف المعارض أليكسي نافالني.
ووصف في الوقت ذاته العلاقة بين واشنطن وبكين بأنها “قد تعتبر من أهم العلاقات في العالم خلال الفترة المقبلة”، مستدركاً أن “هناك أموراً يجب مناقشتها مع الصين، من بينها موضوع المناخ الضروري من أجل مستقبل كوكبنا”، مما يعطي بعداً توافقياً بين الضرورات والمشتركات، تسعى الإدارة الجديدة إلى ترسيخها بعيداً من قطعيات الإدارة السابقة.
حوض الصين العظيم
لا تبدو المعركة الآسيوية هامشية بالنسبة إلى الحكومة الجديدة في البيت الأبيض، كيف لا وقد استهل رأس الجهاز الدبلوماسي عمله بعدد من المكالمات المحدودة، من ضمنها مهاتفة مع وزير الخارجية الفيليبيني.
وتطرقت المكالمة إلى ضرورة حماية أمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتأكيد على أهمية معاهدة الدفاع المتبادل بين البلدين، وفعاليتها في مواجهة “الهجمات غير القانونية ضد القوات الفيليبينية أو السفن العامة أو الطائرات في المحيط الهادئ، التي تشمل بحر الصين الجنوبي”.
وشدد بلينكين خلال المكالمة على رفض الولايات المتحدة مطالبات الصين في بحر الصين الجنوبي، وتجاوزها الحد المسموح في المناطق البحرية بموجب القانون الدولي، وفقاً لاتفاق قانون البحار لعام 1982.
وكان لافتاً تأكيده على ضرورة الوقوف إلى جانب دول جنوب شرق آسيا، التي تحتاج إلى المساعدة في مواجهة ضغوط الصين، مما يعطي مؤشراً حول السياسة الأميركية في المعركة الآسيوية، وكيف تنظر واشنطن إلى أصدقائها في المنطقة الآسيوية حول البحر المتنازع عليه كجزء من الصراع الآسيوي المقبل، فأزمة بحر الصين الجنوبي التي بلغت أشدها أيام الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، عندما بدأت حاملات الطائرات استعراضات عسكرية مع “الحلفاء الآسيويين”، رداً على استعراضات بحرية ضخمة قام به الجيش الصيني في المساحة المائية المتنازع عليها،
إذ تُتهم الصين من قبل أطراف دولية بالاعتداء على المياه في المحيطين الهندي والهادئ، نتيجة مطالبتها بجزر “باراسيل” المتنازع عليها مع فيتنام، إضافة إلى مساحات مائية أخرى جنوب البرّ الصيني الذي يشمل تايوان وجزر غرب الفيليبين، وشرق شبه الجزيرة الماليزية وصولاً إلى مضيق ملقا، لتدخل في نطاقها دول أخرى مثل بروناي وإندونيسيا، التي تشكل قائمة من حلفاء واشنطن في القارة الصفراء.
ويحوي بحر الصين الجنوبي حوالى 7 مليارات برميل نفط كاحتياطي مؤكد، إضافة إلى حوالى 900 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، إذ يساوي النفط الآتي من المحيط الهندي عبر مضيق ملقا في اتجاه شرق آسيا مروراً بالبحر الجنوبي، أضعاف الكمية التي تعبر من مضيق باب المندب أو قناة السويس، إضافة إلى إمدادات الطاقة المتجهة لكوريا الجنوبية واليابان وتايوان.
هذا الميل المبكر نحو دول حوض بحر الصين الجنوبي، وأحد أبرز أطرافه الفيليبين الفقيرة التي يحاول تخفيف حدة التوتر مع الجارة الكبيرة بمرونة، ترافق مع حزمة من الوعود الاقتصادية التي قدمتها بكين لمانيلا، مما يعيد التأزم إلى الواجهة، وهو ما عبّر عنه سفير مانيلا لدى واشنطن في أعقاب المكالمة قائلاً، “إن ذلك يوحي بأن على بلاده العمل بصعوبة على الموازنة بين علاقة نامية مع الصين، وعلاقة تتجدد مع واشنطن”، في صراع لا يمكن أن تحلّه التنازلات، إذ إن مستوى التنازلات التي في إمكان الدول تقديمها لن تكون كافية، مع صراع بين دول هذا الحوض المتوتر حيث “الحرب على السيادة”.
زياد الفيفي
اندبندت عربي