فتح اتفاق أوسلو الموقع عام 1993 الباب لوضع جديد بين سكان البلاد الأصليين والاحتلال الإسرائيلي، بل اعتمد اتفاق أوسلو على مدد محددة للتنفيذ، تتخللها مراحل أقصاها خمس سنوات، وذلك للتوصل لحل نهائي حول إقامة دولة فلسطينية واتفاق على قضايا اللاجئين وحق العودة والقدس بصفتها عاصمة للدولة الفلسطينية، وحل نهائي لقضية الاستيطان والحدود والإقتصاد وغيرها.
لكن الحل النهائي لم يقع، وما وقع بدلا عنه هو محاولة فرض اتفاق خارج سياق أوسلو يخرج القدس وغيرها من الأراضي في الضفة الغربية من معادلة الدولة الفلسطينية.
لقد تم هذا في مؤتمر كامب ديفيد المعقود في تموز-يوليو 2000 من خلال لقاء جمع ياسر عرفات وكلينتون ونتنياهو، في ذلك اللقاء لم تبق حيلة أو تهديد مبطن وشبه مباشر وفي حالات مباشر لم يستخدمه الرئيس كلينتون لجر عرفات للقبول والتوقيع. ذلك اللقاء الأخطر تضمن نصا يفرض على عرفات الاقرار رسميا بأنه لم يعد للشعب الفلسطيني أية مطالب إضافة للتخلي عن القدس وخاصة ما يقع أسفل المسجد الأقصى واسفل القدس الشرقية. (الهدف هو الحفريات الصهيونية التي تبحث عن هيكل سليمان المزعوم). كان الرفض الفلسطيني لما طرح في كامب ديفيد عام 2000 مستحقا كما يذكر روبرت مالي عضو الوفد الأمريكي في كامب ديفيد في مقال شهير له عن لقاء كامب ديفيد.
وفي 28 أيلول- سبتمبر 2000 إقتحم ارييل شارون المسجد الأقصى ومعه مئات الجنود الإسرائيليين، مما أدى للانتفاضة الثانية. إن كل ما ارتبط بأوسلو سقط في تلك الأحداث التي توجت بمقتل ياسر عرفات وعلى الاغلب إغتيالا عام 2004. لقد استمرت تلك الانتفاضة للعام 2005.
و منذ عام 2000 في كامب ديفيد ومنذ قيام إسرائيل باعادة احتلال واجتياح الضفة الغربية في 2001، ومنذ البدء ببناء الجدار الفاصل الذي يحيط بكل الضفة الغربية يخضع الشعب الفلسطيني لمزيد من القمع والعزل ومصادرة الحقوق والأراضي. وقد توج ذلك فيما بعد بحصار أوسع وأشمل لقطاع غزة بدأ عام 2007.
إن الاوضاع منذ 2001 جعلت السلطة الفلسطينية أكثر ضعفا، وبينما انسحب الاحتلال من المناطق المكتظة بالسكان في الضفة، نجده وقد احتفظ له بحوالي 60 في المئة من أراضي الضفة الغربية تحت سلطته المباشرة. الهدف من ذلك إدامة الاحتلال عبر الحصار والجدار العازل ونشر الحواجز في مناطق عديدة، والسيطرة على الاقتصاد والأموال، والواردات والصادرات وحركة الناس، هذا نظام ابارتهايد متكامل الأركان. بهذه الطريقة يمارس الاحتلال حصارا محكما من كل الجوانب وتحكما شاملا لا يتطلب منه أن يتواجد في المدن الأساسية. هكذا وجد معادلة تترك مهمة البلدية وتنظيف الشوارع والمدارس والصحة والبوليس للسلطة الفلسطينية المحاصرة.
بالرغم من اعلان الإدارة الأمريكية منذ ايام بأنها تؤمن بحل الدولتين، وبالرغم من أن دولا كثيرة في العالم تلتزم هذا الحل، إلا أنه عند التدقيق سنجد أن الكل يجمع همسا وفي النقاشات بأن هذا الاحتمال لم يعد ممكنا بسبب الاستيطان المستمر
و منذ انتهاء الانتفاضة الثانية 2005 وسقوط أوسلو انتهت المهمة الأساسية للسلطة بصفتها تمهيدا وتأسيسا لنشوء دولة فلسطينية مستقلة، وأصبحت السلطة أسيرة الاحتلال والتحكم الإسرائيلي السياسي والاقتصادي والأمني. لكن السلطة الفلسطينية لازالت «تتأمل» بإمكانية قيام الدولة الفلسطينية. فهي تراهن لإنشاء دولة على أوروبا وكذلك والولايات المتحدة و الأمم المتحدة والإرادة الدولية. لكن بالرغم من جاذبية شعار الدولة، وبالرغم من اعلان الإدارة الأمريكية منذ ايام بأنها تؤمن بحل الدولتين، وبالرغم من أن دولا كثيرة في العالم تلتزم هذا الحل، الا أنه عند التدقيق سنجد أن الكل يجمع همسا وبين السطور وفي النقاشات بأن هذا الاحتمال لم يعد ممكنا بسبب الاستيطان المستمر، وبسبب قيام الصهيونية بتهويد الأرض في القدس والضفة الغربية لدرجة أنها أجهضت امكانية تقسيم الارض لدولتين. لقد أصبح شعار الدولة الفلسطينية كما هو مطروح الآن مفرغا من المضمون. كما وأصبح شعار الدولة مدخلا لشراء الوقت وتخدير المقاومة.
إن وهم الدولة يعنى انتظار مبادرات ووعود الغير الوهمية. فبين تخدير الفلسطينيين بأن دولة فلسطينية ستقوم بفضل الجهود الدبلوماسية، والذي يصاحبه دائما لوم الفلسطينيين على عدم مرونتهم، وبين تحقيق نتائج لصالح الحقوق الفلسطينية التاريخية توجد فجوة أثبتت السلطة الفلسطينية حتى الآن أنها لا تستطيع تعبئتها. لهذا لا بد من تجاوز «انتظار الدولة الفلسطينية» ان كان لحركة التحرر الوطني الفلسطيني بصيغتها العامة أن تستعيد مكانتها ومصداقيتها كحركة تحرر. بل لن تستطيع الحالة الفلسطينية أن تخرج من أزمتها الوطنية إن لم تحدد هدفا واضحا: مواجهة شاملة لنظام المصادرة والقمع والحصار والتحكم الذي يفرضه نظام الابارتهايد الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في كل فلسطين. فهذه هي المهمة الأهم، التي ستعني تحرير الإنسان الفلسطيني(ستة ملايين) ممن يعيشون الآن على الأرض بلا حقوق وبلا عدالة وبلا مساواة وبلا عمل وبلا أمن وتحت حكم قوانين عنصرية، كما أن مدنهم ومناطقهم تستباح بصورة دائمة من قبل القوات الإسرائيلية واجهزة المخابرات، أما اراضيهم فهي مهددة باستمرار بالمصادرة من قبل المستوطنين الـ 700 ألف الذين استوطنوا مناطق القدس الشرقية والضفة الغربية. لقد استغرق اسقاط نظام الابارتهايد في جنوب افريقيا عقودا من النضال. وهذا ما يجب الاستعداد له.
إن عودة الصراع بصفته نضالا بين شعب محتل يخضع لنظام الابارتهايد وبين دولة صهيونية ذات طابع عنصري سيجعل الاحتلال يدفع ثمن احتلاله، وهذا سيقرب من مقدرة الشعب الفلسطيني بناء أسس جديدة لتحرره. إن القضية الفلسطينية سائرة نحو هذا الطريق، بل قد تكون شرارة انتفاضة جديدة غير مسلحة تتبنى الحقوق والعدالة والمساواة وتحرير الإنسان من العبودية عنصرا أساسيا في احتمال كهذا. إن تجديد أسس الحركة الوطنية الفلسطينية أصبح أمرا رئيسيا في تقرير شكل المرحلة القادمة، وهذا سيتطلب بنفس الوقت فتح المجال لجيل جديد في طور التشكيل إن الحل السلمي والتعايش لن يقع بلا عدالة ومساواة، وبلا حقوق ثابتة أصيلة، وهذا غير ممكن بلا هزيمة نظام العزل العنصري الناتج عن الرؤية الصهيونية للأرض وسكان البلاد الأصليين وحقوقهم.
شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي