نعيش في منطقة تعجّ بالأنظمة والقوى الإجرامية بشتى سُبل الإجرام وأصنافه. من المملكة السعودية إلى «الجمهورية الإسلامية» الإيرانية، ومن «حزب الله» إلى «الدولة الإسلامية» مروراً بالنظامين البعثيين في العراق وسوريا، دون إغفال الدولة الصهيونية وهوايتها في «الإعدام خارج نطاق القضاء» كثُرت الأنظمة والقوى التي تمارس القتل، سواء جرى تنفيذه إثر محاكمة صورية أو بصورة الاغتيال الخبيث. لكنّها أيضاً إحدى أكثر مناطق العالم تعرّضاً لاحتمال إفناء جماعي بواسطة السلاح النووي، فضلاً عن منطقة النزاع الكوري ودائرة النزاع بين الهند والصين وباكستان.
وليس سراً على أحد أن إسرائيل بدأت تتزوّد بالسلاح النووي قبيل حرب 1967 بعد تمخّض استفادت خلاله من معونة فرنسا وبريطانيا ودولة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا. وكانت حيازة هذا السلاح الفتّاك والرغبة في تعزيز ترسانتها النووية السببين اللذين جعلا الدولة الصهيونية ترفض التوقيع على «معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية» التي أبرمت في عام 1968. والحال أن الدولتين الأخريين اللتين رفضتا الانضمام إلى المعاهدة، وهما الهند وباكستان، كانتا أيضاً تسعيان وراء التزوّد بالسلاح النووي، وقد أفلحتا في تحقيق مشروعيهما (أما كوريا الشمالية فلها قصة خاصة مع المعاهدة حتى انسحابها النهائي منها في عام 2003).
من هذا المنظور، فإن أي دولة تخوض في مواجهة استراتيجية مع دولة تحوز على السلاح النووي تعتبر أن من حقها التزوّد بالسلاح ذاته تحقيقاً لتوازن استراتيجي رادع، تواجه من دونه خطر الإفناء من طرف واحد. فبعدما تزوّدت الولايات المتحدة بالسلاح النووي، بل كانت الدولة الأولى والوحيدة حتى يومنا التي استخدمته، مرتكبة في عام 1945 اثنتين من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في التاريخ الحديث، جاء دور الاتحاد السوفييتي، فما لبثت سائر أقطاب الحرب الباردة، القوى العظمى صاحبة حق النقض في مجلس الأمن الدولي، أي فرنسا وبريطانيا والصين، تتسلّح نووياً بدورها. وقد اعتبرت الهند أن تسلّح الصين، خصمها الاستراتيجي، يجيز لها التسلّح بدورها، الأمر الذي جعل باكستان، خصم الهند، تسلك الطريق ذاتها. وإن لم تتزوّد اليابان وكوريا الجنوبية بالسلاح النووي، فلأنهما تخضعان لرقابة صارمة من طرف واشنطن وتستفيدان بالمقابل من ضمانة الدرع النووي الأمريكي.
مساعي واشنطن وسائر الدول العظمى للحؤول دون تزوّد إيران بالسلاح النووي منافية للمساواة في الحقوق التي يجب أن تحكم العلاقات الدولية
كل هذا يحيلنا إلى منطقتنا حيث المواجهة الاستراتيجية أخطر مما في المناطق الأخرى بسبب طبيعة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بالذات. فإن تزوّد إسرائيل بالسلاح النووي ورفضها الانضمام إلى معاهدة الحد من انتشاره، كان ينبغي أن يُعارَضا بتهديد دول المواجهة العربية بانسحابها من المعاهدة وإعلانها حق السعي وراء التزوّد بالسلاح النووي بدورها، تحقيقاً لتوازن استراتيجي رادع مع الخصم الصهيوني. وإن لم يحصل ذلك في عام 1968 فلأن مصر الناصرية كانت مهزومة، ضعيفة، وخاضعة هي وسوريا صلاح جديد لرقابة صارمة من طرف الاتحاد السوفييتي، الوصي الاستراتيجي عليهما.
أما الدولة العربية التي اجتازت أطول شوط على درب التزوّد بالسلاح النووي، فكانت العراق في عهد صدّام حسين، وقد طوّر النظام العراقي برنامجاً نووياً بمساعدة فرنسية بدون أن ينسحب من المعاهدة لعدم تعزيز الشكوك. فاعتدت إسرائيل على مفاعل «أوزيراك» النووي العراقي ودمّرته في عام 1981، صيانة لاحتكارها السلاح النووي الذي يمنحها تفوقاً استراتيجياً حاسماً في منطقة الشرق الأوسط. هذا وقد تخلّت مصر وسوريا عن طموح المواجهة الاستراتيجية إزاء إسرائيل إثر وفاة عبد الناصر والإطاحة بحكم صلاح جديد في عام 1970، وقد سلكتا طريق مفاوضات السلم (مؤتمر جنيف) بعد حرب 1973، تلك الحرب التي كانت غايتها الأساسية خلق مناخ سياسي ملائم لسلوك الدولتين النهج المذكور.
أما الدولة التالية التي سعت ولا زالت تسعى وراء اقتناء السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط فهي بالطبع إيران. هذا وغاية النظام الإيراني الجليّة هي تحقيق توازن رادع إزاء كل من إسرائيل والولايات المتحدة، بما يتلاءم مع تحقيق طموحات القوة العظمى الإقليمية التي ورثتها «الجمهورية الإسلامية» عن حكم الشاه (قدّر تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في عام 1974 أن هذا الأخير سوف يتزوّد بالسلاح النووي في الثمانينيات، بيد أنه أسقط في عام 1979). والحقيقة أن من حق إيران المعنوي الكامل أن تتزوّد بالسلاح النووي ما دامت دولة أخرى تكنّ عداءً سافراً لها، هي إسرائيل، تحوز على ترسانة هائلة من هذا السلاح.
فإن مساعي واشنطن وسائر الدول العظمى للحؤول دون تزوّد إيران بالسلاح النووي منافية للمساواة في الحقوق التي يجب أن تحكم العلاقات الدولية، وتشكّل انحيازاً مكشوفاً للدولة الصهيونية إذ لا يجوز الضغط على إيران، وهي لم تنقض توقيعها على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، بلا ضغط على إسرائيل كي تتخلّى عن ترسانتها (مثلما فعلت أفريقيا الجنوبية بعد تحرّرها من نظام التفرقة العنصرية) وتلتحق بالمعاهدة. وهذا يشير بقوة، وكم بالأحرى، إلى رداءة موقف المملكة السعودية وحليفاتها الإقليمية في تأييد المساعي الأمريكية، بل المغالاة في شأن الضغط على إيران، عوضاً عن سلوك النهج الوحيد القادر على درء خطر الهلاك النووي عن المنطقة، ألا وهو المطالبة بتخلّي إسرائيل عن سلاحها النووي وإعلان منطقة الشرق الأوسط برمّتها، من إسرائيل إلى إيران ومن مصر إلى تركيا، منطقة منزوعة السلاح النووي.
جلبير الاشقر
القدس العربي