حديث المتغيرات والحسابات الجديدة لموازين القوى هو الطاغي في هذه الأيام على المشهد في فلسطين والمنطقة. وهناك بالطبع وقت للشعور بالانتصار، ووقت لمعاينة الدمار والتضحيات الإنسانية، ووقت لمراجعة ما حدث من أجل قراءة ثانية أعمق في الأداء. لكن ما بعد حرب غزة ليس مساراً بسيطاً وسريعاً يختصر المسافات إلى مرحلة مختلفة، بصرف النظر عن الانطباعات السائدة، لا إلى تسوية شاملة للصراع، ولا إلى حرب تحرير، حتى الأصوات التي عادت إلى الارتفاع في الدعوة إلى حل السلطة الفلسطينية وما يسمى “تسليم المفاتيح” إلى إسرائيل والعودة إلى ما قبل اتفاق أوسلو، فإنها تبدو خارج اللعبة، فلا السلطة مستعدة بالفعل لتسليم المفاتيح والعودة إلى الوراء، ولا إسرائيل مستعدة لتسلم المفاتيح وتحمل مسؤوليات المحتل تجاه القضايا العادية للفلسطينيين.
والمؤكد أن الكلام على “حل الدولتين” عاد إلى التداول بقوة في عواصم المنطقة والعالم بما فيها واشنطن، وهي سحبت الفكرة من قاموسها أيام الرئيس دونالد ترمب وعملت خلال أربع سنوات على مشروع وُلد ميتاً سمته “صفقة القرن” التي حملت توقيع جاريد كوشنر صهر ترمب، لكن الواضح أن حل الدولتين ليس أولوية لدى إدارة الرئيس جو بايدن التي أعادت الاعتبار إليه، فوزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي أوفده بايدن إلى المنطقة سمع في رام الله والقاهرة وعمان المطالبة بتسوية، أو أقله بفتح “أفق سياسي”، وتحدث هو عن “إعادة بناء العلاقات مع الشعب الفلسطيني وقادته بعد سنوات من الإهمال”، كما عن ضرورة “أن يتمتع الفلسطينيون بالأمن والعيش الكريم والكرامة”. لم ينس حل الدولتين، ولا الحاجة إلى “طريقة لكسر الحلقة لأن عدم القيام بذلك ستكون له كلفة كبيرة”، غير أنه صارح الجميع بأن حل الدولتين ليس وراء الباب، وقال “الوقت ليس مناسباً لاستئناف فوري للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا لدعوتهما إلى واشنطن”.
اقرأ المزيد
دومينيك راب يدعو إسرائيل والفلسطينيين للعودة إلى حل الدولتين وإنهاء دوامة العنف
بلينكن يؤكد أن “حل الدولتين” هو “السبيل الوحيد” بين إسرائيل والفلسطينيين
وزراء الخارجية العرب يتمسكون بحل الدولتين في القضية الفلسطينية
ذلك أن التسوية السياسية التي كانت بعيدة أصلاً صارت أبعد بعد حرب غزة، من حيث تبدو كأنها صارت أقرب. فلا بنيامين نتنياهو الرافض لحل الدولتين مارس الاستفزاز في القدس وأمام المسجد الأقصى ودمّر ما دمّره في غزة من أجل الوصول إلى التسوية السياسية، ولا “حماس” قامت بعملية “سيف القدس” وقصفت إسرائيل بآلاف الصواريخ من أجل التسوية، ولا هما معاً يريدان أو يستطيعان الذهاب إلى النهاية في الحرب، مصلحة نتنياهو في بقاء الانقسام بين غزة والضفة لأنه يضمن توقف أو تخفيف الضغوط العربية والدولية عليه من أجل التسوية، ومصلحة “حماس” في ألا تأتي حكومة إسرائيلية تقدم تسوية يصعب على السلطة في رام الله رفضها وإنهاء المطالب التاريخية.
ولا نهاية للمفارقات، المشهد الحالي بعد حرب غزة هو: ربط عسكري مع القدس، وانفصال سياسي عن السلطة في الضفة، والحرب، لعبت بتخطيط أو بقوة الأشياء، دور البديل من الانتخابات النيابية والرئاسية التي أمر الرئيس محمود عباس بتأجيلها بحجة أن نتنياهو رفض السماح لأهل القدس بالمشاركة ترشحاً واقتراعاً. كانت “حماس” واثقة من أنها ستربح الانتخابات، وتمسك عملياً بقيادة الشعب الفلسطيني كبديل من حركة “فتح” المنقسمة مع نفسها، وحرب غزة دفعتها إلى مركز القيادة والإمساك بالورقة، كما خطفت إيران من يد العرب ورقة القضية. لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، فالسلطة الفلسطينية التي ظهرت ضعيفة أمسكت بيدها واشنطن وعواصم أوروبا والعالم والعواصم العربية، وقدمت لها ورقة قوة. كيف؟ أولاً باشتراط أن تصل المساعدات لغزة من خلال السلطة من دون أن تمر بـ “حماس” التي هي على لائحة الإرهاب في عواصم، وعلى لائحة الإخوان المسلمين في عواصم، بالتالي لا حوار معها. وثانياً بإثارة موضوع أهم، وهو عامل الصواريخ، بالحديث عن خطورة أن تتسلم قيادة القضية الفلسطينية حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” المتهمتان بالإرهاب والرافضتان للتسوية والمستعدتان لاستخدام آلاف الصواريخ.
والحد الأقصى الممكن في هذه الحال هو هدنة طويلة نسبياً، فهي الضمان لإعادة الإعمار من دون تكرار التدمير، وهي تسمح لكل طرف بالقول إنه رابح ولم يتنازل عن شيء من الثوابت، والباقي قضية شعب تحتاج إلى حل قابل للحياة، أما الخلاف بين من يرى القضية صراع وجود ومن قادته الواقعية إلى التسليم بأنها صارت صراع حدود، فلا حل له في المستقبل المنظور. وقديماً قال الشاعر: وتقدرون فتضحك الأقدار.
رفيق خوري
اندبندت عربي