المحكمة الاتحادية في العراق: من التأويل إلى التشريع مرة أخرى

المحكمة الاتحادية في العراق: من التأويل إلى التشريع مرة أخرى

بعد الفشل المزمن في تمرير قانون للمحكمة الاتحادية العليا في العراق، وبقاء المعضلة الدستورية في استمرار العمل بالقانون رقم 30 لسنة 2005 والذي تشكلت بموجبه المحكمة الاتحادية القائمة، رغم أن الدستور العراقي قد تحدث عن محكمة دستورية تختلف في بنيتها وصلاحياتها عن تلك المحكمة، تواطأ الجميع، كالعادة، للذهاب إلى قانون تعديل قانون المحكمة الاتحادية، رغم مخالفة هذا التعديل لقرار بات وملزم للسلطات كافة، كانت قد اتخذته المحكمة الاتحادية نفسها!
فقد قررت المحكمة الاتحادية في قراراها المرقم (38/ اتحادية/ 2019) الصادر 2019، أن الدستور العراقي لم يعط لمجلس القضاء الأعلى صلاحية ترشيح أعضاء المحكمة الاتحادية، وقد استندت في قرارها هذا إلى نص المادة 91/ ثانيا من الدستور التي قصرت صلاحيات هذا المجلس على ترشيح عناوين قضائية محددة على سبيل الحصر، ومن ثم رأت المحكمة الاتحادية أن «ترشيح أعضاء المحكمة الاتحادية العليا أصبح خارج اختصاصات مجلس القضاء الأعلى». ولكن بالرغم من وضوح هذا النص وعدم قابليته للتأويل، فقد ضرب مجلس النواب هذا القرار عرض الحائط، في مخالفة دستورية وقانونية تستوجب العقوبة (تنص المادة 329 من قانون العقوبات العراقي على عقوبة الحبس أو الغرامة على من أي مكلف بخدمة عامة امتنع او أوقف تنفيذ الاحكام القضائية!) وأصدر قانون التعديل الأول لقانون المحكمة الاتحادية بتاريخ 18 آذار/ مارس 2021، والذي نصت المادة 1/ ثانيا منه على أن «يتولى رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس المحكمة الاتحادية العليا ورئيس جهاز الادعاء العام ورئيس جهاز الإشراف القضائي اختيار رئيس المحكمة ونائبه والأعضاء»!!! وبعيدا عن فضيحة أن يشارك رئيس المحكمة الاتحادية السابق مدحت المحمود في لجنة تنتهك الدستور، وتنتهك قرار باتا وملزما للسلطات كافة، أصدرته المحكمة الاتحادية برئاسته لا يعطي لمجلس القضاء الأعلى صلاحية اختيار أعضاء المحكمة الاتحادية! فإن تشكيل المحكمة الاتحادية القائمة حاليا، بالطريقة التي تم بها، يعد غير دستوري من الأصل!
ولكن الامر الواقع الذي فرضه التواطؤ الجماعي لسلطات الدولة لتمرير هذا الانتهاك الدستوري، أتاح للمحكمة الاتحادية القيام الجديدة القيام بمهامها بعد توقيع رئيس الجمهورية على المرسوم الجمهوري رقم 17 لسنة 2021 بتعيين أعضاء المحكمة الاتحادية الجدد، دون الالتفات إلى مهزلة أن تكون هناك محكمة اتحادية قامت على أساس انتهاك قرار بات وملزم للسلطات كافة، تُصدِر هي نفسها قرارات باتة وملزمة للسلطات كافة!
لم يعط القانون رقم 30 لسنة 2005 أي صلاحية للمحكمة الاتحادية العليا بتفسير الدستور أو النظر في الطعون الدستورية، ولكن المحكمة المشكلة بموجب ذلك القانون قررت بنفسها، في تعارض مصالح بيِّن، أنها هي المحكمة الموصوفة في المادة 92 و 93 من الدستور، على الرغم من الاختلاف الكبير بين بنية وصلاحيات هذه المحكمة، عن المحكمة المشكلة بموجب القانون رقم 30! ومرة أخرى تواطأت سلطات الدولة كافة مع هذا الأمر، وأصبحت لدينا محكمة اتحادية تمارس على مدى سنوات اختصاصات مزدوجة؛ الاختصاصات الموصوفة في القانون رقم 30، والاختصاصات الموصوفة في الدستور! هكذا على سبيل المثال ظلت المحكمة الاتحادية تمارس اختصاص «النظر في الطعون المقدمة على الأحكام والقرارات الصادرة عن محكمة القضاء الإداري» إلى أن تخلت هي بنفسها عن هذا الاختصاص في العام 2019 (كان يفترض أن تتخلى عن هذا الاختصاص مع صدور قانون المحكمة الإدارية العليا رقم 17 لسنة 2013 ولكنها لم تفعل ذلك!).
لهذا قامت المحكمة الاتحادية العليا بداية من العام 2006 بممارسة اختصاصات المحكمة الموصوفة في الدستور، والتي من بينها: الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة، وتفسير نصوص الدستور. لكن مراجعة أداء المحكمة الاتحادية العليا السابقة، تكشف عدم التزام المحكمة بهذه الصلاحيات أصلا، وتجاوزها أحيانا لتتحول من مفسر للنص الدستوري، إلى مشرع دستوري، من خلال تأويل النصوص الدستورية تأويلا مفرطا يخرج به عن مقصد المشرع، وعن مبادئ التأويل والتفسير الثابتة، وعن المنطق أحيانا! ولم يكن الأمر مرتبطا بالتسييس فقط، وخضوع المحكمة الاتحادية لإرادة الفاعلين السياسيين، بل كان مرتبطا أيضا بمشكلة قدرة قضاة المحكمة الاتحادية على فهم معنى كلية النص الدستوري، وأنه يشكل بنية متكاملة لا يجوز معها الركون إلى التفسير اللغوي لمادة خارج سياق هذه البنية المتكاملة!
ومن الواضح أن المحكمة الاتحادية الجديدة، تستمر في المنهج ذاته! ففي قرارها المرقم 155/ اتحادية/ 2019 الصادر في 2 حزيران/ يونيو 2021، سنجد أن المحكمة الاتحادية لا تلتزم باختصاصاتها المفترضة الواردة في الدستور، بل تتجاوز ذلك لتتحول إلى «مشرع دستوري» ينقض مواد دستورية صريحة!

مجالس المحافظات سلطات منتخبة، لا سلطان للحكومة عليها بموجب النص الدستوري الصريح، والدستور أعطى لمجالس المحافظات صلاحية إصدار تشريعات

فبعد مقدمة انشائية طويلة، تعمد المحكمة إلى التمييز بين اللامركزية السياسية، واللامركزية الإدارية، لتقرر أن «النظام الاتحادي في العراق يقوم على أساس الإدارة اللامركزية، فالنظام الفيدرالي يعتمد اللامركزية السياسية التي تعني توزيع السلطات بين المركز والحكومات المحلية، أما بالنسبة للمحافظات التي لم تنتظم في إقليم فان إدارتها تكون على أساس مبدأ اللامركزية الإدارية وليس على أساس اللامركزية السياسية»! وهي تتعكز في ذلك على المادة 122/ ثانيا من الدستور التي نصت على «منح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية الواسعة بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق اللامركزية الإدارية وينظم ذلك بقانون» من دو أن تلتفت إلى المواد الأخرى! لتعرف المحكمة اللامركزية الإدارية بأنها «تعني توزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة المركزية في العاصمة وبين هيئات محلية او مصلحية مستقلة، بحيث تكون هذه الهيئات في ممارستها لوظفتها الإدارية «تحت إشراف ورقابة الحكومة المركزية وتتمتع باستقلال مالي وإداري»! وأن مجالس المحافظات هي «هيئة إدارية محلية يعهد اليها تنفيذ الصلاحيات الإدارية والمالية فقط ضمن مبدأ اللامركزية الإدارية ولم يعهد الدستور اليها ممارسة الصلاحيات التشريعية»!
وتستمر المحكمة الاتحادية العليا لتقرر أن الرقابة المنصوص عليها في المادة 61 من الدستور «تمثل الركن الأساسي لقيام نظام اللامركزية الإدارية وتكون أهميتها في الحفاظ على الوحدة السياسية والقانونية للدولة» وان «الاستقلال المطلق للهيئات المحلية يهدد كيان الدولة ويؤدي إلى عدم التجانس بين السلطات الاتحادية والهيئات المحلية» لتميز المحكمة بين نوعين من الرقابة؛ الرقابة البرلمانية، والرقابة الإدارية وان المحكمة تجد «أن المحافظ ونائبيه يخضعون لنوعين من الرقابة؛ الدستورية وفقا لصلاحيات مجلس النواب، ورقابة إدارية من قبل السلطة التنفيذية»!
وكل ما تقدم هو «تشريع دستوري» لا علاقة له بالنص الدستوري، بل هو ينقضه تماما! فالدستور تحدث في المادة 110 عن صلاحيات حصرية للحكومة للسلطات الاتحادية، وتحدث في المادة 112/ ثانيا عن «قيام الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز» وهو ما يكشف بجلاء ان لا سلطة مباشرة للحكومة الاتحادية على حكومات المحافظات بدليل الحديث عن الشراكة برسم السياسيات! وتحدث في المادة 115 عن أن «كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة والأقاليم تكون فيها الأولوية لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة الخلاف بينهما» وهذا يعني أن لا سلطة مباشرة للحكومة الاتحادية على حكومات المحافظات غير المنتظمة في إقليم في غير صلاحياتها الحصرية أولا، وأن من صلاحيتها تشريع قوانين في غير الاختصاصات الحصرية للحكومة الاتحادية ولهذه القوانين العلية على القوانين الاتحادية!، ونصت المادة 122/ ثالثا من الدستور على أن المحافظ هو «الرئيس التنفيذي الأعلى في المحافظة، لممارسة صلاحياته المخول بها من المجلس [مجلس المحافظة]» وبالتالي هو مسؤول مباشرة أما مجلس المحافظة وليس أمام الحكومة او رئيسها! ونصت المادة 122/ رابعا على أنه «لا يخضع مجلس المحافظة لسيرة أو إشراف أي وزارة او أية جهة غير مرتبطة بوزارة» وهذا النص ينقض كل ما قالته المحكمة الاتحادية! ونصت المادة 123 على أنه «يجوز تفويض سلطات الحكومة الاتحادية للمحافظات وبالعكس، وبموافقة الطرفين وينظم ذلك بقانون» والنص هنا يتحدث عن تفويض صلاحيات متبادل، فكيف يمكن الحديث عن موافقة سلطات المحافظات غير المنتظمة في إقليم على تفويض صلاحياتها للحكومة الاتحادية إذا كان هي أصلا خاضعة لها، فثمة تعارض منطقي هنا! وكل هذه المواد تجعل محاولة التمييز بين لا مركزية سياسية ولا مركزية إدارية، لا سند له في الدستور؛ فمجالس المحافظات سلطات منتخبة، لا سلطان للحكومة عليها بموجب النص الدستوري الصريح، والدستور أعطى لمجالس المحافظات صلاحية إصدار تشريعات لا تتعارض مع الاختصاصات الحصرية للحكومة المركزية، ولهذه القوانين علوية على القوانين الاتحادية، وبالتالي القول إن الدستور لم يعهد لهذه المجالس ممارسة صلاحيات تشريعية يتناقض مع النص الدستوري الصريح والواضح!
وتقرر المادة 61/ أولا من الدستور أن مجلس النواب يختص بالرقابة على السلطة التنفيذية حصرا، ولم يعطه النص الدستوري أي صلاحية في الرقابة على سلطة أخرى منتخبة من الشعب نفسه! ففكرة رقابة سلطة منتخبة على سلطة منتخبة اخرى فكرة عبثية لا معنى لها!
قلنا في مقال سابق إن الخطابات عن اللامركزية في العراق مجرد بروباغاندا، وإن ثمة غلبة للتوجهات المركزية لدى صانع القرار، ولكن من الواضح هذه المرة أن العدوى قد انتقلت للمحكمة الاتحادية، التي تريد بقرارها المليء بالعوار هذا، والمناقض للنص الدستوري، أن تقضي على اللامركزية تماما وتحوّل مجالس المحافظات المنتخبة والمحافظين المنتخبين إلى مجرد موظفين تابعين للسلطات المركزية التشريعية والتنفيذية!

يحيى الكبيسي

القدس العربي