وأخيرا اعترفت ألمانيا بجريمة التطهير العرقي، التي مارستها ضد شعب ناميبيا بين عامي 1884 و1915، كما اعترفت فرنسا بدورها ومسؤوليتها عن حرب الإبادة التي جرت في رواندا عام 1994. هذه بداية جيدة، ونتمنى ألا يقف مسلسل الاعترافات بالجرائم الكبرى عند هاتين الدولتين، بل يمتد ليصل كل الدول الاستعمارية ليشمل بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال، وصولا إلى الإمبريالية الحديثة بزعامة الولايات المتحدة. هذا الاعتراف المتأخر على قدر من الأهمية كي تعطى الأجيال المعاصرة في تلك الدول، فرصة الاعتراف بجرائم آبائهم وأجدادهم ضد الشعوب الأصلية في الدول الواقعة تحت الاستعمار، ثم تحمل المسؤولية التاريخية والمعنوية والأخلاقية والمادية عن تلك الجرائم. فالاعتراف بالجريمة تعقبه مساءلة ومحاسبة ومحاكمة، فإدانة، ثم تعويض مركب يأخذ بعين الاعتبار الزمن والقيمة والقيمة المضافة.
جريمتا الرق وإبادة السكان الأصليين
إن أعظم جريمتين ارتكبهما الغرب الاستعماري هما إبادة السكان الأصليين واسترقاق الأفارقة، الذين أحضروا إلى العالم الجديد خطفا من موائلهم الأصلية. وكل اعتذارات الدنيا، وكل خزائن الدول الغربية مجتمعة لا تسدد جزءا من تينك الجريمتين الأبشع في التاريخ، اللتين لا تموتان بالتقادم.
لقد تجسد التطهير العرقي في العالم الجديد في أبشع صورة في تاريخ الإنسانية، عندما شن المهاجرون الأوروبيون حروبا لا هوادة فيها في العالم الجديد، زادت عن 1500 معركة أطاحت بالملايين، حيث لا أحد يستطيع أن يحصي أرقامها الحقيقية. فقد تراوحت تقديرات المؤرخين بين الحد الأدنى وهو 15 مليونا، وصولا إلى 70 مليونا حسب روايات أخرى. فمثلا لم يبق في الولايات المتحدة مع نهاية الحروب تلك في نهاية القرن التاسع عشر، إلا 283 ألفا وضعوا في معازل. وقد قدر المؤرخان إرن ماكينا وسكوت برات، أن عدد السكان الأصليين في الأمريكتين عام 1491 نحو 145 مليونا وانخفض العدد عام 1691 بنسبة 90% ـ 95% وهذه بلا شك، أكبر جريمة تطهير عرقي في تاريخ البشرية. أما جريمة الرق فلا تقل عنفا وفظاعة عن جريمة الإبادة. فقد بدأت خيوط الجريمة في بداية القرن السابع عشر، خلال خطف أو شراء أبناء القارة الافريقية عبيدا لخدمة المزارعين الأمريكيين. فقد وصلت أول سفينة محملة بعشرين افريقيا عام 1619 إلى مدينة جيمستاون بفرجينيا، لبيعهم للفلاحين المتعطشين للأيدي العاملة الرخيصة. واستمرت العبودية بشكل أو بآخر أكثر من ثلاثة قرون، شملت أكثر من عشرين مليون إنسان من القارة السوداء، إلى أن وقع الرئيس جونسون عام 1968 القانون الذي أقره الكونغرس عام 1964 «صوت واحد لكل فرد». وشاركوا رسميا في العام نفسه في أول انتخابات بدون قيود. هذه جريمة فظيعة فمن سيقدم الاعتذار عنها؟ وكيف سيتم تعويض القارة الافريقية؟ كنوز الغرب كلها، المنهوبة أصلا، لا تفي بغرض التعويض. نعود الآن لمسألة الاعترافات المتأخرة:
المجازر في حق العرب ما زالت بانتظار قيادات وطنية ترغم الدول الاستعمارية على تقديم الاعتذار لحكومات تمثل شعوبها حقيقة لا تزويرا
الاعتراف الفرنسي
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة رسمية لرواندا يومي 27-28 مايو الماضي، وألقى كلمة رئيسية، اعترف فيها بأن فرنسا تتحمل مسؤولية كبيرة عن الإبادة الجماعية التي وقعت في البلاد عام 1994. وشرح ماكرون رسميا كيف أن فرنسا خذلت 800 ألف ضحية للإبادة الجماعية. صحيح أن فرنسا لم تشارك في المذبحة، كما قال، لكن بلاده وقفت إلى جانب نظام الإبادة الجماعية ودعمته، ولذا فهي تتحمل «مسؤولية ضخمة في الانزلاق نحو المجازر». وأضاف: «عندما بدأت الإبادة الجماعية، استغرق المجتمع الدولي ما يقرب من ثلاثة أشهر قبل أن يتجاوب مع الأحداث، وثلاثة أشهر طويلة لا نهاية لها ونحن جميعا، تخلينا عن مئات الآلاف من الضحايا. إن إخفاقات فرنسا خلقت مدة 27 عاما من المسافة المريرة بين البلدين». وقال: «يجب أن أعترف بمسؤولياتنا». بعد 27 سنة تعترف فرنسا بمسؤوليتها. لكن ماكرون أشار إلى أن بلاده لم تشارك في المذابح، لكن كان بإمكانها منعها أو وقفها، لكنها اختارت أن تقف في صف القتلة والمجرمين، فكيف سيكون شكل التعويض وحجمه؟
الاعتراف الألماني
ألمانيا من جهتها أخذتها 100 سنة لتعترف بجرائمها في ناميبيا، لكن على الأقل جاء اعتراف وزير الخارجية هايكو ماس، واضحا بدون مواربة، وأعلن تحمل ألمانيا المسؤولية عن جريمة الإبادة البشرية ضد قبيلتي الهيريرو وناما من سكان البلاد الأصليين. قال: «»كبادرة تقدير للمعاناة اللامحدودة للضحايا، نريد دعم ناميبيا وأحفاد الضحايا ببرنامج كبير بقيمة 1.1 مليار يورو لإعادة الإعمار والتنمية». وقال إن ألمانيا أيضاً ستسعى رسمياً للصفح عن الجرائم التي ارتكبتها. وسيتم طلب العفو رسميا عبر طلب يقدمه الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، في حفل يقام في البرلمان الناميبي. وقعت ناميبيا تحت الاستعمار الألماني بين عامي 1884 و1915 قام خلالها أبناء البلد بثورات متتالية ضد الاستعمار الألماني، الذي أطلق على البلاد اسم «جنوب غرب افريقيا الألمانية». تصدت القوات الألمانية للثورات بآلة الموت حيث أبادت من قبلية الهيريرو نحو 80 ألف مواطن، ومن الناما ما يزيد عن 20 ألفا أي أكثر من نصف سكان البلاد. ولا عجب أن سكان ناميبيا على اتساعها وثرواتها العديدة لم يصل عدد سكانها حتى اليوم إلى ثلاثة ملايين. بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى قامت جنوب افريقيا العنصرية باحتلال البلاد عام 1915 وبقيت فيها إلى أن أجبرت على الرحيل، بعد قيام ثورة عظيمة قادتها منظمة الجيش الشعبي لتحرير ناميبيا «سوابو» التي أنجزت الاستقلال عام 1990 بقيادة سام نجوما.
حرب الإبادة الفرنسية في الجزائر والإيطالية في ليبيا
هذان الاعترافان المتأخران غيض من فيض. كل دول الاستعمار يجب أن تقف في طابور واحد وتعترف بجرائمها اللامحدودة، من قتل السكان الأصليين إلى نهب ثرواتهم إلى اغتصاب بناتهم إلى استرقاق رجالهم إلى تجنيد شبابهم في حروبهم الاستعمارية. لكن هناك جريمتان لا ترقى إليهما جريمة: الاستعمار الفرنسي في الجزائر والاستعمار الإيطالي في ليبيا. فما زالت فرنسا ترفض الاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها في حق الشعب الجزائري الذي خضع لاستعمار طويل زاد عن 132 سنة. لقد وعدت الشعب الجزائري بمنحه الاستقلال في حالة انضمام أعداد منه في الحرب العالمية الثانية للكفاح ضد النازية، وهكذا كان. صدق الجزائريون الوعود فانضموا لقوات الحلفاء الذين هزموا النازية. خرج الشعب في مظاهرات عارمة يوم 8 مايو 1945في مدينة سطيف مطالبين بالاستقلال فانقضت عليهم قوى الشر الفرنسية، وأسباحت المدينة لمدة أسبوعين تقريبا سقط على أثرها ما بين 17000 ضحية و20000 جريح حسب الرواية الأمريكية، و45000 شهيد، حسب الرواية الجزائرية. مذابح صطيف وقالمة وخراطة كانت بداية مذابح العصر الحديث في الجزائر، فقد وصل عدد ضحايا فرنسا ما يزيد عن المليون ونصف مليون عشية الاستقلال عام 1962. ما زالت فرنسا ترفض الاعتذار الصريح، وتشير أحيانا بشكل خجول وموارب إلى نوع من الأسف على تلك المذابح، وهو أمر غير مقبول. وإذا كانت فرنسا تظن أن الشعب الجزائري سيسامحها فهي مخطئة بالتأكيد. وسيأتي يوم يأتي فيه رئيس فرنسي شجاع ويجثم على ركبتيه أمام الشعب الجزائري العظيم ويطلب الصفح ويقر بحق بالتعويض.
أما الجريمة الأخرى التي لا مناص من الاعتراف بها عاجلا أم آجلا، ما قامت به إيطاليا من إبادة جماعية للشعب الليبي بين عامي 1911 و1945 عندما هزمت فاشية موسوليني في الحرب العالمية الثانية. ولم تستطع إيطاليا أن تخمد الثورات الليبية حتى عام 1934، حيث قتلت ربع السكان أو يزيد وقتلت خيولهم وإبلهم وأغنامهم وطردت أكثر من 100 ألف من سكان بوادي منطقة برقة، وسجنت 100000 في منطقة وادي سلوق، ومعهم طبيب واحد، مات منهم 40000 معتقل. كما أعدمت إيطاليا بين عامي 1930 و1932 نحو 12 ألف ليبي من بينهم القائد التاريخي عمر المختار، الذي أعدم يوم 16 سبتمبر 1931. فهل ستبقى هذه الجرائم في الملفات فقط؟ سيأتي يوم تقوم إيطاليا أيضا بالتكفير عن جرائمها بالاعتراف بها وطلب الصفح وتقديم التعويضات المناسبة.
لا أريد أن أطيل الحديث، ولكن سأعود وأكتب عن جرائم بريطانيا في فلسطين والعراق واليمن. والجرائم الأمريكية، خاصة في حربي العراق 1991 و2003 واللتين تركتا بلدا مفتتا مدمرا مقسما طائفيا من الصعب أن يتعافى من علله لعقود وعقود.
الكنيسة الكاثوليكية اعتذرت لليهود لكنها لم تعتذر عن الحروب الصليبية، وألمانيا اعتذرت للفرنسيين عن احتلالها لفرنسا والجرائم، التي ارتكبت فيها من قبل ألمانيا الهتلرية، واعتذرت ألمانيا عن المحرقة اليهودية، وما زالت تدفع التعويضات إلى يومنا هذا لإسرائيل، التي لم تكن أصلا موجودة. وها هي تعتذر لناميبيا، وفرنسا تعتذر لرواندا، لكن المجازر في حق العرب ما زالت بانتظار قيادات وطنية جادة ترغم الدول الاستعمارية أن تأتي صاغرة لتقدم الاعتذار لحكومات تمثل شعوبها حقيقة لا تزويرا.
عبدالحميد صيام
القدس العربي