مقاطعة الصدر للانتخابات العراقية تطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات

مقاطعة الصدر للانتخابات العراقية تطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات

لم يكن انسحاب زعيم التيار الصدري، رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر من الانتخابات التشريعية المقبلة في العراق، وإعلانه مقاطعتها، أمراً جديداً على الأوساط السياسية المحلية، التي تعودت سماع إعلانات انسحاباته المفاجئة واعتراضاته على العملية السياسية برمتها حيناً، وعلى سلوكيات السياسيين الذين يبغضهم لفسادهم أحياناً، ويجد نفسه محرجاً أن يُصنَف شريكاً لهم، وغاضباً على أفراد منظومته السياسية والعسكرية، وعدم امتثالها لأوامره وتعليماته بدقة.

انسحاب مفاجئ وردود عاجلة

لكن هذه المرة يقاطع الصدر الانتخابات في وقت حرج جداً له ولتياره وللعملية السياسية برمتها، في حين أن أتباعه فوجئوا وهم يتابعون زعيمهم يعلن نبأ الانسحاب وظلوا مشدودين لخطابه المقتضب المشحون بالأسى، والذي استمر لخمس دقائق فقط. فكان للانسحاب وقع الصاعقة على رؤوس مريديه وشركائه الذين يأتمرون بأمره، وعدّوه امتحاناً لهم في السلطة أو “طاعة السيد”، فتوالت انسحابات أتباعه نواباً ومرشحين وأعياناً من كل ارتباط بالحكومة والبرلمان، في مقدمهم نائب رئيس البرلمان حسن الكعبي، تبعه آخرون بهدف إعلان الولاء والطاعة للصدر، بخاصة النواب الذين باتوا يجدون ألا طعم لعملهم في الدولة من دون رعاية وإشراف الصدر الذي بدا في غاية الانزعاج والغضب هذا الأسبوع، وهو يرى عشرات الجثث تُسحب من مستشفى الحسين التعليمي في الناصرية، إحدى قلاع الصدر ومركز نشاطه المهم جنوب البلاد، كما رأى قبلها ما حدث لعشرات الجثث في مستشفى ابن الخطيب في العاصمة بغداد، وتكرار حالات الاغتيال التي تجعله يشعر بالحرج من فشل حكومة ضعيفة يساندها ويدعمها ويراها وهي تفشل في امتحانات الأمن ومحاربة الفساد، إضافة إلى عدم قدرتها على تحقيق الحياة الكريمة لفقراء العراق الذين ينظر جلهم إليه كمنقذ، لا سيما جمهور مدينة الصدر ومحافظات الجنوب والوسط الذين يرفعون صوره على صدورهم، تلفهم ثقافة شيعية تمجد الأفراد المنتمين للأسرة الهاشمية، وبيت الصدر في مقدم تلك البيوت في العراق.

شعبية غير مسبوقة وحظوظ عالية

الصدر الذي يقف على أعتاب مجد سياسي وشعبيةٍ غير مسبوقة في الأوساط الشيعية، مرجح، وفق التقارير الانتخابية، أن يحصل على أعلى الأصوات في انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. وهو يقود حالياً أكبر كتلة برلمانية، تحت اسم “سائرون” (54 عضواً من أصل 329 نائباً)، ويدير أكبر فصيل مسلح منضو ضمن الحشد الشعبي تحت “سرايا السلام”، الذي يمسك مفاصل ونقاط حيوية في العراق، وهو المعارض الأول للوجود والنفوذ الأميركي والإيراني على حد سواء، إلا أنه يجد نفسه محاصراً بالأمنيات والتصورات بأن يتمكن من وقف الفساد المستشري في البلاد، وهو يعرف جيداً بأن هناك متسللين كثر في تياره يمارسون سلوكاً مغايراً لنهجه واعتداده الشخصي لبيت الصدر، الأسرة العراقية العريقة التي تولت إدارة البلاد منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921، مع جده الصدر الأول، تواصلاً مع حضور والده المرجع العربي الكبير الذي اغتيل في عام 1999 في النجف.

استقالة الصدر تفتح باب التساؤلات

أثارت استقالة الصدر وإعلانه مقاطعته الانتخابات، ردود أفعال ومناشدات له بالعدول عن تلك الخطوة مع تقديم تفسيرات. كما طرحت خطوته أسئلة عدة أهمها، هل أن الانسحاب جاء لضرورات تأجيل الانتخابات المبكرة لكسب الوقت وترتيب الأوراق وحث الجمهور الصدري ليكون أكثر جاهزية؟ وهل عدَلت الأطراف السياسية عن خوض الانتخابات المبكرة في العاشر من أكتوبر المقبل، وسارت في اتفاق غير معلن مع الحكومة لإقامتها في أبريل (نيسان) 2022؟ أو أنها أتت في إطار محاولة إرجاع سعر صرف الدولار إلى سابق عهده، وكسب الوقت في هذا السبيل، وممارسة كتلة الصدر “سائرون” ضغطاً على الحكومة لإضافة فقرة معلَنة في الموازنة لخفض سعر الصرف؟ وهو المطلب الجماهيري الملح بعد أن تضررت الطبقات العاملة والقوى الفقيرة التي تمثل غالبية جمهور التيار الصدري.

في هذا السياق، قال الدكتور منقذ داغر، رئيس “مؤسسة غالوب” في العراق، “لقد أقر السيد الصدر بانسحابه من الانتخابات باستحالة نزاهتها، على الرغم من مباركته إياها، وهذا يعني أن لاعباً رئيساً يمتلك النفوذ والشعبية والمال والسلاح يقر بأن العملية الانتخابية المقبلة إما أنها غير نزيهة أو غير قادرة على إنتاج التغيير الذي يريده الشعب”. وأضاف “أعتقد جازماً أن تحليل خطاب السيد مقتدى الصدر يشي بأنه نزع ورقة التوت عن عورة الانتخابات المقبلة، وأن على الجميع التفكير بالبدائل والتحسب لها”.
لكن الكاتب العراقي ناجي الغزي رأى في انسحاب الصدر “مناورة سياسية وخطاباً سياسياً محترفاً واستحضاراً عاطفياً، بهدف تزخيم التعبئة الجماهيرية والتحشيد الشعبي، وصرف أنظار الإعلام والشعب عما حصل من حرائق في الناصرية ومستشفى ابن الخطيب ووزارة الصحة، المحسوبة على التيار الصدري”. واستدرك قائلاً “لقد تعرض السيد الصدر لحملة إعلامية وشعبية قاسية، وعُزلة سياسية واستهداف شرس من قبل وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض الفضائيات والكُتاب، وبعض خصومه السياسيين، وكلها عوامل أفضت إلى البحث عن مخارج سياسية تؤمن للتيار الصدري الحفاظ على الطموح بكرسي رئاسة الوزراء. والانسحاب إن صدقت رؤيته وأُكملت شروطه القانونية، يمثل رصاصة الرحمة على العملية الانتخابية العرجاء، وستذهب الأمور إلى تشكيل حكومة طوارئ”.

أما أستاذ العلوم السياسة بجامعة بغداد، الدكتور عصام الفيلي فاعتبر أن “الصدر كان يعيش خلال الأيام الماضية شكلاً من أشكال الألم والضيق من طبيعة الأحداث الجسام التي أصابت العراق بعد حرق المستشفيات، وتفجير أبراج الطاقة، وإدراكه أن قوى سياسية عدة تعمل على تقويض الدولة، فوجد نفسه في منأى عن أن يكون الشعب رهينة للصراعات السياسية التي سقم منها، بعدما أدركت القوى السياسية أن التيار الصدري سيكون المتقدم في الانتخابات المقبلة، فحاولت أن تؤثر على استقرار البلاد وتحول دون ذلك”. ولفت الفيلي إلى أن “الصدر كان يدعو إلى إعادة التفاوض بين القوى العراقية، ولملمة البيت السياسي العراقي واحترام السيادة ووقف ضرب السفارات والكف عن الأعمال التي تحرج الدولة”.

من جهة أخرى، ذهب الكاتب السياسي مازن صاحب الشمري إلى التساؤل حول مغزى الاستقالة، معتبراً أنها “ليست لحظة غضب جاءت بقرار طائش، بل هو قرار غاضب في لحظة حلم ودراية سياسية، فالمعضلة ليست في اتخاذه بل في ما بعد القرار”. وتساءل الشمري “هل يستطيع السيد مقتدى الصدر إعادة تشكيل تنظيم التيار الصدري بمواصفات حزب وطني لكل العراقيين، أم يبقى يحمل فقط ميراث والده؟ تلك قضية تحتاج إلى تسقيط الاحتمالات بشتى الاتجاهات”. وأضاف “أتمنى أن يعي من هم في معيته أهمية التبرؤ من مفاسد المحاصصة، بالكشف عن ذممهم المالية ما قبل وبعد عام 2003، وفهم آليات تأسيس حزب دولة وليس تيار حوزوي من الحوزة الشيعية”.
وذهب أحد مراقب متابع لحركة الصدر السياسية طلب عدم ذكر اسمه، إلى القول إن “السيد الصدر عندما قرر دخول انتخابات عام 2010، وانتخابات 2014 والانتخابات الأخيرة في 2018، لم يقلّ عدد مقاعده النيابية عن 50، ولكن بعد الفشل الحكومي الهائل الذي أنتجته حكومة السيد عادل عبد المهدي وتغول الميليشيات، وانهيار الاقتصاد، عمد الصدر باعتباره الأقوى شعبياً ثم حكومياً في عهد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى العمل على تغيير الخريطة السياسية لصالحه، وأراد استثمار سيطرته على الوزارات الخدمية كالبلديات والإسكان والصحة والكهرباء، وغيرها بشكل دوري أو متعاقب. ولكن من الواضح أن فشل وزرائه ووكلائه المكلفين تلك الوزارات وفسادهم وعدم أهليتهم وكفاءتهم أصلاً، مع التضخم الكبير في عدد الموظفين، جعل من الوزارات، منظمات لتوزيع المعونات لا مؤسسات منتجة ومربحة وهذه نقطة ضعفه القاتلة”. وأضاف “لهذا كان من السهل افتعال الحرائق وتدمير أبراج الطاقة الكهربائية، وضرب البنية التحتية للوزارات التابعة للصدر مع حملة كاسحة ضده وضد وزرائه وضد حكومة الكاظمي الضعيفة المسيرة من قبله”.

نيران يوليو تحرق أوراق العملية السياسية

كل هذه الأوضاع مهدت لأقسى ضربة للصدر تمثلت في سمعته وعائلته وتياره وانشقاق العشرات من الشخصيات التي كانت تابعة له عبر سنوات متعاقبة، بخاصة ممن أسسوا ميليشيات وأحزاباً وصاروا ولائيين تابعين لإيران، في “تحالف الفتح” الذي يتزعمه هادي العامري وأصبحوا منافسين خطرين له. لكن الضربة القاسية جاءته من خلال حرق مستشفى الحسين في الناصرية، الذي راح ضحيته 92 شخصاً بين راقد وزائر، حينها أدرك الصدر أنه يسير في طريق مغلق، وسيخسر الكثير سواء في الانتخابات أو سياسياً وإعلامياً، بالتالي شعبياً، والأهم من كل ذلك علاقته الخاصة (الخيطية) مع المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، فكان لزاماً عليه أن يستثمر ما تبقى من رصيده الشعبي في حركة قوية لقلب الطاولة على خصومه ومنافسيه الذين يتمكنون كل يوم من ضرب الحكومة التي يؤيدها ويدعمها، وإحراجهم أمام الرأي العام، في حال بقائه معارضاً يتمتع بأكبر كتلة نيابية تجلس على مقاعد المعارضة مع إمكانية تعطيل القرارات. ويشي انسحاب الصدر بحجم التناقضات التي تراكمت جراء العملية السياسية التي باتت تتمسك بها الكتل، وكأنها شيء هُلامي يضمن مصالح المتحاصصين في نظام الحكم المفكك أصلا ًوالمتناقض في الرؤى والأهداف، في عملية سياسة باتت توصف بالدجاجة التي تبيض ذهباً لسكان المنطقة الخضراء الذين يدركون أن ضياعها هو ضياعهم، وفق ما أكد لنا أحد السياسيين.

ويُعد انسحاب الصدر ضربة قوية للعملية السياسية وزلزالاً كبيراً قد يشجع أطرافاً أخرى على الضغط على الكتل الأخرى لتبيان موقفها، وربما أدخل المرجعية على خط الأزمة عندما تقول كلمتها في شأن ما يحصل من تخريب متعمد للدولة، بحسب ما تؤشر التحقيقات الابتدائية في حرائق المستشفيات، ولما حدث من تدمير لأبراج الطاقة، حيث يدرك الجميع فاعلية وجود الصدر وتياره المليوني في المعارضة خارج إطار العملية السياسية، إذ يمكنه بسهوله تجميد الحكومة في أي وقت، إضافة إلى تحريك الملايين أو التلويح بعمل عسكري عبر أذرعه النافذة، لذلك فإن الدعوات الحالية المطالبة بعدوله عن الاستقالة ومحاولات إعادته إلى العملية السياسية خشية ضياعها، وقلب الواقع الحالي عبر تغيير خريطة التحالفات الحالية التي يتستر خلفها الآخرون. بل أشد ما يخشاه “التحالف الشيعي” هو احتمال دعوة الصدر إلى عدم انتخاب جهات بعينها يرى بأنها فقدت منذ زمن أهلية العمل السياسي، بعد احتلال الموصل وسقوط المدن وضياع الثروة واستشراء الفساد، جهات رفضها الصدر وأعلن مراراً عدم مسؤوليته عما يفعله أشخاص يعلنون ولاءهم الشكلي له. كما تجري محاولات لعودته يقوم بها مسؤولون في الدولة أبرزهم الرئيس العراقي برهم صالح الذي زار النجف، وعشرات الوفود التي تذهب إلى مقر الصدر في “الحنانة”، بيت والده، في مسعى لدفعه إلى العدول عن الاستقالة. وكانت لافتةً تغريدة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي التي خاطب فيها الصدر قائلاً، “في ظروف صعبة مرت على العراق كُتبت عبارة: من الفلوجة إلى الكوفة هذا الوطن ما نعوفه. أبا هاشم ما زال أمامنا الكثير، والعراق بحاجة إلى أبنائه الغيارى المخلصين ليرفعوا رايته ويوحدوا صفوفه ويخدموا شعبه ويصونوا كرامته ويوصلوا البلاد إلى بر الأمان”.

في ظروف صعبة مرت على العراق؛ كُتِبَت عبارة على الجدران: (من الفلوجة إلى الكوفة هذا الوطن ما نعوفه).
أبا هاشم، ما زال أمامنا الكثير، والعراق بحاجة لأبنائه الغيارى المخلصين، ليرفعوا رايته ويوحِّدوا صفوفه ويخدموا شعبه ويصونوا كرامته ويصلوا بالبلاد إلى بر الأمان.

وقال السياسي المستقل عزة الشابندر، إن “السيد مقتدى الصدر أعلن موقفه واضحاً من شراكته في الحكومة الحالية ومشاركته في الانتخابات المقبلة، دون الغرق والاستغراق في التحليلات والتأويلات التي لا طائل منها، وحتى الآن لم يصدر موقف واحد لطرف سياسي شيعي واحد”.
كل هذه الأحداث والتأويلات التي أثارتها استقالة الصدر تكشف حجم الصراع الذي يعيشه البيت الشيعي، الذي لم يتمكن من الخروج من قوقعة الولاء والتبعية للطائفة إلى رحاب الوطنية والاستقلال والانخراط في مشروع وطني حقيقي يغلب مصالح العراق وتوجهاته ودوره في الصراع الإقليمي المكبِّل لحياة الناس وإرادتهم.

صباح الناهي

اندبندت عربي