لبنان ينتقل من طبقة في “جهنم” إلى طبقة أعمق. وهذا كان معلناً، لا صدفة، قبل نحو سنة حين سُئل رئيس الجمهورية ميشال عون: إلى أين إن لم تتألف حكومة؟ وكان رده سريعاً: “إلى جهنم”. وها نحن بعد تسعة أشهر من تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف “حكومة مهمة” إنقاذية بمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بلا حكومة، بعد دفع الحريري إلى الاعتذار عن عدم التأليف. شيء من الواقع أصعب من “جحيم” دانتي المتخيل. وكلما قيل إن لبنان وصل إلى القعر الأخير في الهاوية ظهر تحته قعر آخر، إلى ما لا نهاية.
والمشهد اليوم في القصر الجمهوري يبدو تكراراً لمشهد ما قبل التوصل إلى “اتفاق الطائف” عام 1989، وبعد أن صار جزءاً من الدستور تم على أساسه انتخاب رئيس جرى اغتياله هو الرئيس رينيه معوض، ورئيس جرى التمديد له هو الرئيس إلياس الهراوي. رئيس الحكومة العسكرية التي استقال نصفها المسلم، العماد ميشال عون، وقف ضد ذهاب النواب إلى الطائف، وقرر خارج الدستور حل المجلس النيابي، ثم رفض الاعتراف بالطائف. وكان يقول لأصدقائه في عام 1990 كلما جاء الوسيط العربي، الأخضر الإبراهيمي، للاجتماع به: “يأتي أخضر، وأعيده يابساً”. أما مطلبه، فإنه “فاصلة” في الاتفاق. وعملياً أن يكون هو رئيس الجمهورية. وهو اتكل على فرنسا والفاتيكان وصدام حسين في رفض كل الضغوط والمحفزات التي قدمتها له اللجنة الثلاثية العربية المؤلفة من الملك فهد بن عبدالعزيز، والملك الحسن الثاني، والرئيس الشاذلي بن جديد، ومعها الضغوط الأميركية والعربية، لكنه لم يحسب لتبدل اللعبة بعد غزو صدام للكويت وحرب “عاصفة الصحراء”، ولم يبدل موقفه الرافض حتى بعد أن غادر القصر الجمهوري بالقوة، يوم 13 أكتوبر (تشرين الأول) 1990، لاجئاً إلى السفارة الفرنسية، وطالباً بصوته من ضباطه وجنوده الالتحاق بقيادة العماد إميل لحود.
كذلك الأمر اليوم، بعد أن صار رئيساً للجمهورية بالاتفاق مع الرئيس سعد الحريري وسوريا و”حزب الله” و”القوات اللبنانية”، وبعد المشاركة في حكومتين مع الحريري، صار ضد تكليف الحريري، لكن النواب أجبروه بقوة الدستور، وبقي ضد أي حكومة يؤلفها الحريري. لم تؤثر في موقفه ضغوط أميركا وفرنسا وروسيا والسعودية والأمم المتحدة. ولم يبقَ له حليف يسنده سوى “حزب الله”، لكن الكل يعرف أن اللعبة أكبر منه ومن مطالبه التي تركزت على مماحكات دستورية ورغبة في تطويع الأحداث لضمان أن يخلفه في الرئاسة صهره جبران باسيل المعاقب أميركياً، فهو يلعب دوراً لا يستطيع أن يرفضه، لأنه مفصل على مقاسه، لكن صاحب اللعبة هو “حزب الله” الذي ضمن الرئاسة لعون لا لصهره وأخذ الجمهورية.
ذلك أن تحذير وزيري الخارجية الفرنسي والأميركي، جان إيف لودريان وأنتوني بلينكن من “زوال لبنان” بالفعل، بدا كأنه “بشارة” بالنسبة إلى المراهنين على الإمساك بلبنان. وهذا وهم كبير. فلا أحد يضمن تحقيق ما يحلم به ويعمل له بعد أن يكتمل انهيار لبنان. ودينامو الانهيار في لبنان لا يتوقف عند الحدود الجغرافية للوطن الصغير، بل يتحول إلى دينامو اضطراب في المنطقة. وليس صدفة في هذه الأيام أن ترتفع أصوات الداعين إلى “حرب كبيرة” في عاصمتين على عداء حاد في الخطاب: تل أبيب وطهران. ففي إسرائيل شيء من مناخ التحضير لما يقول مسؤول أمني كبير إنها “حرب لا بد منها” ضد “حزب الله” وصواريخه المخزنة بين منازل المدنيين. وفي طهران، وبالطبع في الضاحية الجنوبية لبيروت، كلام على الاستعداد لخوض “حرب كبرى” ضد إسرائيل عبر جبهات غزة، ولبنان، وسوريا، والعراق، واليمن. وهي حرب يوحي السلوك العملي للطرفين بأنه لا أحد منهما يريد الذهاب إليها في المرحلة الحالية، لكن ضبط الأحداث في “دومينو الانهيار” مهمة صعبة، إن لم تكن مستحيلة. ومفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني ليست بسيطة كما يراد لها أن تبدو، لا من جانب طهران، ولا من جانب واشنطن، فهي ليست معزولة عن الصراع الجيوسياسي في المنطقة وعليها، ولبنان جزء من الصراع الجيوسياسي، ومن الوهم الرهان على أن يتركه العرب والغرب لجمهورية الملالي في إيران.
رفيق خوري
اندبندت عربي