لم يحمل سقوط تنظيم الدولة الإسلامية معه الاستقرار إلى الحدود العراقية السورية التي ما زالت من أكثر المناطق اضطرابًا على الصعيد الجيوسياسي في الشرق الأوسط. ففي السنوات القليلة الماضية، أدّت مجموعة متنوعة من الكيانات والفصائل الكردية دورًا متناميًا في رسم معالم الديناميكيات في الجانب الشمالي من الحدود. وفي هذا السياق، لا بد من تسليط الضوء على جانبيْن من هذه الديناميكيات. أولًا، نجحت حكومة إقليم كردستان والإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية في إحكام قبضتهما على المعابر الحدودية الجديدة، وذلك بعدما فقدت الحكومة السورية سيطرتها على الحدود وبات وجود الحكومة العراقية محدودا في هذا الجزء من الحدود. وهذا يعني أن حركة الأفراد والبضائع في هذه المنطقة تخضع بدرجة كبيرة إلى كيانيْن لا يمكن اعتبارهما لا تابعين للدولة ولا غير دولتييْن بالكامل. بل يكشف الواقع على الأرض عن ظهور تدابير هجينة نتيجة ضعف الحكومتين المركزيتين والحكم الذاتي المتزايد الذي تتمتع به الأحزاب الكردية (والذي ينص عليه الدستور في حالة حكومة إقليم كردستان).
حارث حسن
حارث حسن باحث أول غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، تركّز أبحاثه على العراق، والطائفية، وسياسات الهوية، والقوى الدينية، والعلاقة بين الدولة والمجتمع.
ثانيًا، نجح حزب العمّال الكردستاني في تعزيز نفوذه على طول الحدود بحكم مشاركته في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية واستغلاله فراغ السلطة الذي أعقبها. وتمكّن الحزب بفضل العلاقات الإيديولوجية والتنظيمية التي تربطه بالمجموعات المحلية، مثل وحدات حماية الشعب في سورية ووحدات مقاومة سنجار في العراق، من فرض نفوذه الأمني والسياسي. فحوّل هذا الواقع أجزاءً من الحدود إلى ساحة للكيانات المسلحة ذات التوجهات القومية الكردية العابرة للحدود. وقد فاقم حضورها التنافس بين الفصائل الكردية، ولا سيما بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، أي الحزب الحاكم الرئيس في حكومة إقليم كردستان، وحزب العمّال الكردستاني. ويجسّد هذا التنافس الصدام الحاصل بين رؤيتيْن تتعلقان بالحدود هما: رؤية حزب العمّال الكردستاني الثورية والعابرة للحدود التي تسعى إلى تغيير واقع الحدود بشكل جذري أو التقليل من شأن وجودها على الأقل، ورؤية الحزب الديمقراطي الكردستاني البراغماتية والجغرافية التي تهدف إلى ترسيخ واقع الحدود لترسيم سلطة حكومة إقليم كردستان والدولة المستقبلية. بالإضافة إلى ذلك، دخل الحزب الديمقراطي الكردستاني في تحالف مع تركيا التي تقاتل حزب العمال الكردستاني منذ عقود وتشن حاليًا حملة عسكرية ضده في شمال العراق وسورية.
يعتمد مستقبل هذه الحدود بدرجة كبيرة على نتيجة الصراع الجيوسياسي الدائر. فإما ينجح حزب العمال الكردستاني في تعزيز دوره، أو يتعرّض للعزل والتهميش عندما ترسّخ حكومة إقليم كردستان والإدارة الذاتية والحكومة العراقية سلطتها في هذه المنطقة.
مقدّمة
خضر خضّور
خضر خضّور باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. تركّز أبحاثه على العلاقات المدنية-العسكرية والهويات المحليّة في بلاد الشام، مع تركيز خاص على سورية.
لم يحمل اندحار تنظيم الدولة الإسلامية معه الاستقرار إلى الحدود العراقية السورية التي ما زالت من أكثر المناطق اضطرابًا على المستوى الجيوسياسي في الشرق الأوسط (انظر الخريطة 1). فقد أدى تفكك سلطة الدولة المركزية في البلديْن وانسحابها من المنطقة الحدودية إلى ظهور جماعات مسلحة متعددة تسعى إلى ملء الفراغ. وغالبًا ما تتبنّى هذه الجماعات الهوية الإثنية أو الطائفية التي ينتمي إليها السكان الذين يعيشون على الجانب الآخر من الحدود. وحصل تحوّل كبير على طول الجزء الشمالي من الحدود العراقية السورية في إطار عملية التفكك هذه: فللمرة الأولى منذ نشأة الدولة الحديثة في العراق وسورية، سيطرت مجموعة متنوعة من القوات الكردية علـى أجزاء من الحدود في الجانبيْن. ولا شكّ في أن هذا التحول الجيوسياسي الكبير المتمثّل في إنشاء حدود كردية كردية قد يخلّف تداعيات طويلة المدى على المنطقة.
من الجانب السوري، يخضع اليوم هذا الجزء من الحدود إلى حكم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية (المشار إليها في ما بعد بالإدارة الذاتية) التي تقودها الفصائل الكردية، وأبرزها حزب الاتحاد الديمقراطي، ووحدات حماية الشعبالمسلحة ذات الأغلبية الكردية التي تؤدّي أيضًا دورًا قياديًا ضمن تحالف قوات سورية الديمقراطية (قسد) الذي يحظى بدعم الولايات المتحدة. وفي الوقت عينه، تمكّن حزب العمّال الكردستاني ذو التوجهات القومية الكردية من توسيع رقعته على جانبيْ الحدود بفضل روابطه الإيديولوجية والتنظيمية مع وحدات حماية الشعب والميليشيات التي نشأت حديثًا في شمال العراق، ولا سيما قضاء سنجار في محافظة نينوى. ولا بدّ من الإشارة إلى أن حزب العمّال الكردستاني يخوض صراعًا مسلّحًا ضد تركيا منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي لتحقيق استقلال الأكراد في دولة ذات سيادة. واستفاد الحزب من هذه الروابط لإنشاء معابر حدودية غير رسمية، فأزال نوعًا ما الحدود الفاصلة بين الدولتيْن، على غرار ما فعله تنظيم الدولة الإسلامية. أما من الجانب العراقي، فنجح الحزب الديمقراطي الكردستاني، أي الحزب الحاكم الرئيس في إقليم كردستان العراق، في الحفاظ على سيطرته على أجزاء متعددة من هذا المقطع الحدودي، على الرغم من انسحابه من سنجار بعد فشل الاستفتاء بشأن استقلال إقليم كردستان الذي أُجري في العام 2017.
عزّز هذا الواقع الجديد التفاعل بين الأكراد على جانبيْ الحدود وساهم في التطور التدريجي للبنى الاجتماعية الاقتصادية التي توطّد العلاقات العابرة للحدود الوطنية. في غضون ذلك، تسعى الإدارة الذاتية إلى تعزيز سلطتها والاضطلاع بمهام دولتية تشمل الحوكمة والأمن وتوفير الخدمات، لذا أولت أهمية كبرى إلى فتح المعابر الحدودية مع إقليم كردستان والعراق عمومًا وتطويرها. ففي ظل الحصار الذي تفرضه تركيا من الشمال والمعارضة السورية من الجنوب والغرب، شكّلت هذه المعابر صلة الوصل الموثوقة الوحيدة بين الإدارة الذاتية والعالم الخارجي، إذ يعتمد معظم صادراتها ووارداتها وتنقّل أبنائها خارج سورية على حرية الحركة عبر هذه النقاط الحدودية. لذلك، سعت الإدارة الذاتية وحكومة إقليم كردستان في العراق إلى إضفاء طابع رسمي على إدارة المعابر الحدودية المشتركة في إطار الجهود الهادفة إلى تولّي المهام التي اضطلعت بها دمشق وبغداد في السابق ومكافحة التهريب والأنشطة غير المشروعة التي تحرمهما من الموارد الإضافية. لكن، فيما تشهد المنطقة الحدودية صراعات متواصلة وتغيّرات مؤسسية تتنافس في إطارها الأحزاب السياسية والجماعات شبه العسكرية التابعة لها على النفوذ والسيطرة، تواصلت أنشطة السوق الموازية وحظيت في بعض الحالات برعاية السلطتيْن الإداريتيْن الرئيستيْن. ويعكس هذا الوضع خصائص عملية تحوّل من كيانات مسلّحة إلى كيانات دولتية.
على الرغم من محاولاتالتعاون في القضايا الحدودية بين الإدارة الذاتية وحكومة إقليم كردستان، فإن التطورات الإقليمية عمّقت من التنافس بين القوى الكردية. فالعلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني، المُدرج على قائمة المنظمات المصنّفة إرهابية في تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تشكّل عقبة أمام المحاولات التي تقوم بها الإدارة الذاتية لتطبيع وجودها وكسب الاعتراف الدولي. وأدت هذه العلاقة بين الحزبيْن إلى تأجيج التنافس بين حزب الاتحاد الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني بهدف السيطرة على زمام السلطة وإدارتها أو تقاسمها في شمال شرق سورية (وتطلق الأحزاب الكردية على هذه المنطقة اسم روج آفا أو كردستان الغربية) وسنجار. ومع مرور الزمن، أصبحت الحدود العراقية السورية الساحة الرئيسة لهذا التنافس، وهدفًا منتظمًا للغارات الجوية والتوغلات العسكرية التركية ضد حزب العمال الكردستاني.
تشير ديناميكيات التنافس بين القوى الكردية إلى أن الوحدة الإثنية لا تكفي للتوافق على إدارة هذه الحدود. فقد تحفّز المصالح الاقتصادية الهشة الجانبيْن على التعاون في مجال تنظيم الشؤون الحدودية، ولكن المشاكل الجوهرية ذات الجذور التاريخية العميقة ما زالت تسبب التوترات. فالحزب الديمقراطي الكردستاني والكوادر البراغماتية في الإدارة الذاتية يفضلون عدم تغيير واقع الحدود، ويبدو أنهم قبلوا الحدود القائمة بوصفها أيضًا حدودًا لسلطتهما. ويطمح هؤلاء إلى إضفاء الطابع الرسمي على هذه الحدود ليستخدموها ربما، في المستقبل البعيد، كحدود رسمية للدولة التي يطالبون بإقامتها. ينطلق نهجهم البراغماتي من اعتمادهم الشديد على الدعم الدولي ونيل الاعتراف من القوى التي قد ترفض أي تعديل على الحدود الدولية الحالية من جهة، ومن الأدوار التي يضطلعون بها ككيانات حاكمة من جهة أخرى. في المقابل، يتبنّى حزب العمال الكردستاني والهيئات المتحالفة معه منظورًا ثوريًا يهدف إلى تجاوز الحدود الحالية وتعزيز التضامن العابر للحدود الوطنية كوسيلة لتوسيع نطاق نفوذه ومواجهة القوى التقليدية والترتيبات الجيوسياسية القائمة. وستؤدّي نتيجة هذا التنافس، أو امتداده المحتمل في المستقبل المنظور، دورًا هامًا في تشكيل مستقبل الحدود العراقية السورية.
ظهور الحدود الكردية الكردية
خلّف النزاع في سورية وبروز تنظيم الدولة الإسلامية في غرب العراق تأثيرًا دائمًا على المنطقة الحدودية بين العراق وسورية. وقد نجحت القوات الكردية في بسط سيطرتها على جانبيْ الحدود نتيجة قتالها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (انظر الخريطة 2)، إذ ساعدت هذه المعارك الأكراد على الاقتراب خطوةً إضافية من حلم الوحدة الكردية عبر الحدود، ولكن ذلك أصبح أيضًا مصدرًا للتنافس في ما بينهم.1
في سورية، بدأ نظام بشار الأسد بالانسحاب من المناطق التي تسكنها أغلبية كردية في شمال شرق سورية في صيف العام 2012. وسمح هذا الانسحاب لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يرتبط عدد كبير من أعضائه بحزب العمّال الكردستاني، بتعزيز وجوده. لقد سيطر حزب الاتحاد الديمقراطي على المنطقة الحدودية مع العراق منذ منتصف العام 2012، ولا سيما معبر سيمالكا من الجهة الشمالية. وتوسّع جنوبًا لبسط سيطرته على بلدة اليعربية في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، ووصولًا إلى بلدة الباغوز جنوبًا على طول نهر الفرات في آذار/مارس 2019، بعد الدخول في معركة مع تنظيم الدولة الإسلامية بمؤازة التحالف الدولي.
أما في العراق، فقد شاركت مجموعة متنوعة من القوات الدولتية وشبه الدولتية في معركة تطهير المنطقة من تنظيم الدولة الإسلامية، شملت قوات الأمن العراقية، ومجموعة المليشيات المحلية المعروفة باسم الحشد الشعبي، والبشمركة التي قاتلت بالنيابة عن حكومة بغداد وحكومة إقليم كردستان. وشاركت أيضًا في القتال ميليشيات محلية (من بينها الميليشيات العشائرية السنية المعروفة بالحشد العشائري) ومجموعة من الفصائل الأيزيدية المتعددة الولاءات والانتماءات والتي توزعت على الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني والحشد الشعبي. ولكن ما لبث أن بدأ المنتصرون بالتنافس في ما بينهم على الأراضي والموارد بعد دحر مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية من غرب نينوى في العام 2017.2
تصاعدت بشكل خاص وتائر الخلاف بين حكومة إقليم كردستان وبغداد حول منطقتيْ زمار وسنجار الحدوديتيْن اللتيْن تشكلان حاليًا جزءًا من محافظة نينوى، عندما نظمت حكومة إقليم كردستان استفتاءً بشأن الاستقلال في أيلول/سبتمبر 2017. وردًا على هذه الخطوة، نفّذت الحكومة العراقية المدعومة من قوات الحشد الشعبي المتحالفة مع إيران تدخّلًا عسكريًا وسيطرت على المناطق المتنازع عليها وفرضت عقوبات اقتصادية على حكومة إقليم كردستان. وفي غرب نينوى، سيطرت قوات الأمن العراقية والحشد الشعبي على ناحيتيْ ربيعة وزمار، بما في ذلك المعابر الحدودية في فيشخابور والوليد، بهدف معلن هو تأكيد سيادة الدولة على الحدود. وفي حين تمكنت قوات الأمن العراقية والحشد الشعبي من بسط سيطرة الدولة العراقية على معظم الأراضي المتنازع عليها، فشلت في السيطرة طويلًا على بلدة فيشخابور والوليد بعدما اصطدمت بمقاومة شرسة من البشمركة، فضلًا عن توسط الولايات المتحدة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان. وفي الوقت عينه، فقد الحزب الديمقراطي الكردستاني معظم نفوذه في المناطق الواقعة جنوب زمار، ومن ضمنها سنجار، فيما بدأت مجموعة كردية أخرى، أي حزب العمال الكردستاني، ببناء قاعدة الدعم الخاصة به هناك.
ألهب هذا التحول الإقليمي المشاعر القومية الكردية ورسّخ الحلم بإقامة دولة كردية، ولكنه زاد من حدة التنافس بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني (والفصائل التابعة له). ونتج هذا التنافس من التسابق على الأراضي والموارد والمكانة، وجسّد أيضًا صراعًا بين وجهتيْ نظر مختلفتيْن أعطتا معانٍ مختلفة للحدود. وخلُص الحزب الديمقراطي الكردستاني، في تحول فكري مفاجئ وإنما مفهوم، إلى أن بقاء إقليم كردستان العراق واستمرارية حكمه الذاتي الواسع النطاق في العراق يفرضان عليه الدفاع عن الحدود عينها التي اعتبرها الكثير من القوميين الأكراد على مدى عقود عائقًا أمام وحدة الأكراد وبناء دولتهم المستقبلية. أما بالنسبة إلى حزب العمال الكردستاني، فلا تشكّل الحدود سوى عائق يحول دون تحقيق هدفه المتمثل في إقامة مجتمع من دون دولة.
تأثر حزب العمّال الكردستاني في البداية بالماركسية فتبنى أفكار المشاعية والديمقراطية الراديكالية، ودعا إلى تشكيل كونفدراليات ديمقراطية تجمع بين المناطق المحلية وتديرها مجالس منتخبة، من دون الحاجة إلى سلطة الدولة المركزية. وفي العام 2005، دعا عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمّال الكردستاني وزعيمه الإيديولوجي، إلى تشكيل المجالس البلدية كوسيلة لتسهيل إنشاء كونفدرالية ديمقراطية عابرة للحدود تجمع المجتمعات الكردية وغيرها من المجتمعات في سورية وإيران والعراق وتركيا.3 وانتقد أوجلان في كتاباته الأخيرة الدولة الأمة باعتبارها “مستعمرة لرأس المال” وامتدادًا للنظام الأبوي. وأفاد أن الأكراد يجب أن يسعوا إلى تحقيق الحكم الذاتي الديمقراطي من دون دولة، وأن يحقّقوا الوحدة بدلاً من ذلك على أساس الحكم الذاتي اللامركزي، وقوامه المجالس المحلية والتعاونيات.4
في هذا السياق المعقّد، تسعى هذه المجموعات المتنوعة التي تتمتع بوجهات نظر مختلفة إلى السيطرة على الحدود والمعابر الحدودية التي تُعد موارد عسكرية واقتصادية وسياسية أساسية.5 وفي ثمانينيات القرن الماضي، تمرّد حزب العمال الكردستاني على الحكومة التركية، ما دفع بتركيا وجهات فاعلة دولية متعددة إلى تصنيفه تنظيمًا غير قانوني. وأعاقت هذه الصفة قدرته على إضفاء طابع رسمي على وجوده في العراق وسورية، فاضطر إلى مزاولة نشاطه سرًا في البلديْن وممارسة نفوذه عن طريق نشر عناصره خلسةً والحفاظ على علاقات غامضة مع الجماعات الأخرى، مثل وحدات حماية الشعب في سورية ووحدات مقاومة سنجار في العراق. غير أن هذه العلاقات المبهمة وغير الرسمية عزّزت قدرة هذا الحزب على الانتشار والمناورة وممارسة التأثير عبر الحدود، وزوّدته بدرع حماية وإمكانية اللجوء إلى الإنكار القابل للتصديق عند الضرورة. وفي الوقت عينه، لا يجوز تفسير هذه العلاقات كإشارة إلى أن هذه المجموعات هي مجرد تمويه للحزب. فالمجموعات الكردية المحلية تسعى إلى الحفاظ على مصالحها الخاصة التي تحدّدها في المقام الأول طرق اندماجها في البنى المحلية، على الرغم من الصلات العسكرية والإيديولوجية التي تربطها بحزب العمال الكردستاني.
نشوء اقتصاد كردي عبر الحدود
قبل اندلاع الصراع في سورية في العام 2011، كانت العلاقة التي تربط حكومة إقليم كردستان بالمناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال شرق سورية علاقة سياسية في الغالب، تقتصر على عدد قليل من الأكراد السوريين المقيمين في إقليم كردستان العراق، وقلّة من الموالين الأكراد السوريين الداعمين لأحد الأحزاب الرئيسة في حكومة إقليم كردستان. واليوم، باتت هذه الروابط تتسّم بجانب اقتصادي أيضًا. فقد حوّلت المعابر الحدودية، التي أقيمت بين المنطقتين في العام 2016، المنطقة إلى مركز اقتصادي ناشط. لكن ما يثير اهتمام الباحثين في هذه المنطقة الحدودية أنها لا تقع بين دولتين مستقلتين، بل بين كيانين سياسيين بقيادة كردية.
إدارة المعابر الحدودية
تتمثّل إحدى خصائص هذا الاقتصاد المتنامي في بروز معابر حدودية جديدة تساعد على نقل الأفراد والبضائع بين شمال شرق سورية وإقليم كردستان العراق، وهي مواقع مهمة يسعى كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والإدارة الذاتية إلى كسب نفوذ سياسي فيها. وفي هذا الجزء الحدودي الذي يمتّد على طول 150 كيلومترًا، ويبدأ من المثلث الحدودي بين العراق وسورية وتركيا ويمتّد جنوبًا إلى قضاء البعاج في محافظة نينوى على الجانب العراقي، وإلى الشدادي على الجانب السوري، ثمّة أربعة معابر حدودية ونقاط دخول وهي: ربيعة-اليعربية، وسيمالكا-فيشخابور، والوليد، والفاو (انظر الخريطة 3).
معبر ربيعة-اليعربية الحدودي:
من بين المعابر الأربعة المذكورة، يحظى هذا المعبر باعتراف الحكومتين العراقية والسورية كمعبر حدودي رسمي. مع ذلك، فقدت الحكومة السورية القدرة على الوصول إليه واستخدامه، ولا يزال مغلقًا منذ العام 2013. فقد تمكّنت وحدات حماية الشعب من بسط سيطرتها عليه بعد خوض معارك ضدّ مقاتلين إسلاميين مسلحين في تشرين الأول/أكتوبر 2013. وسعت الإدارة الذاتية جاهدةً لإعادة فتح المعبر، لكنها فشلت في ذلك لأن بغداد لم ترد استفزاز دمشق من خلال منح الإدارة الذاتية شرعية دولية. مع ذلك، فضّلت الحكومة السورية إعادة فتح معبر القائم-البوكمال الحدودي في القسم الجنوبي من الحدود في تشرين الأول/أكتوبر 2019.6 وفي العام 2020، طلبت منظمة الصحة العالمية فتح معبر ربيعة-اليعربية على وجه السرعة لتسهيل وصول المساعدات الطبية والإنسانية إلى سورية للتصدّي إلى وباء فيروس كورونا. لكن الحكومة السورية وحليفتها الرئيسة روسيا رفضتا هذا الطلب باعتباره انتهاكًا للسيادة السورية، وادّعت أن القوى الغربية تتذرّع بالمساعدات الإنسانية لنقل أسلحة إلى حلفائها في سورية، وبالتحديد إلى قوات سورية الديمقراطية.7
أحدثت السياسات المحلية ديناميكيات داخلية خاصة مرتبطة بمعبر ربيعة-اليعربية. تقطن ناحيتيْ ربيعة واليعربية، قبيلة شمّر العربية السنية، التي يعيش أفرادها على جانبي الحدود منذ القرن التاسع عشر. وفي ربيعة، كانت تربط الحزب الديمقراطي الكردستاني علاقات جيدة بمشايخ قبيلة شمّر المحليين. لكن هؤلاء سعوا أيضًا إلى تحقيق التوازن في علاقاتهم مع الموصل عاصمة محافظة نينوى من جهة، وبغداد من جهة أخرى، ولا سيما أن الكفة رجحت لبغداد بعد أزمة الاستفتاء. تضمّ بلدة ربيعة فصيلين رئيسين تابعين للحشد الشعبي هما: تشكيل النوادر، بقيادة الزعيم المحلي وعضو البرلمان العراقي عبد الرحيم الشمري، وأسود نينوى بقيادة أحمد المدلول، ويرتبط كلاهما بقوات الحشد الشعبي. يُـشار إلى أن فرقة المشاة الخامسة عشرة التابعة للجيش العراقي تتولّى تأمين هذا الجزء من الحدود، وأُرسلت إلى ربيعة في العام 2017 كجزء من عملية إعادة نشر القوات العسكرية عقب الاستفتاء الكردي، ترافقت مع انسحاب العديد من مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين كانوا متمركزين في معبر ربيعة-اليعربية الحدودي.8
معبر سيمالكا–فيشخابور الحدودي:
يقع هذا المعبر بين بلدة فيشخابور على الضفة الشرقية لنهر دجلة، في محافظة دهوك العراقية، وبلدة سيمالكا في منطقة المالكية السورية. ويُشكّل هذا المعبر محطّ خلاف بين حكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية التي لا تعترف به رسميًا. في الوقت الراهن، يدير الحزب الديمقراطي الكردستاني الجانب العراقي وتسيطر قوات سورية الديمقراطية على الجانب السوري.9 في السابق، لم يكن المعبر أكثر من مجرد نقطة لتنقل السياسيين والمسلحين الأكراد من دون ترخيص، ولا سيما أنهم كانوا يستخدمون القوارب النهرية عند أقرب نقطة بين الجانبين.10 وبعد بناء جسر عائم في 26 كانون الثاني/يناير 2013، باتت هذه النقطة معبرًا حدوديًا، وذلك في أعقاب إبرام اتفاقية هولير-1 بين مجلس الشعب في غرب كردستان (وهو عبارة عن مجموعة تضمّ أحزابًا كردية سورية يرأسها حزب الاتحاد الديمقراطي) والمجلس الوطني الكردي المدعوم من الحزب الديمقراطي الكردستاني، برعاية رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيس حكومة إقليم كردستان آنذاك مسعود بارزاني. وقد دعمت الاتفاقية احتياجات المجموعتين من خلال تسهيل عملية التبادل التجاري ونقل المرضى إلى إقليم كردستان العراق لتلقّي العلاج.11
واجهت حكومة إقليم كردستان صعوبات في فتح المعبر الحدودي، خصوصًا أن خطوة كهذه تنتهك القوانين الدولية، لأن دمشق وبغداد لا تعترفان بالمعبر. لكن الحزب الديمقراطي الكردستاني أدرك أهمية هذا المعبر، سواء من الناحية الرمزية باعتباره وسيلة لإظهار التضامن مع الأكراد السوريين، أو من الناحية السياسية كأداة للضغط على مجلس الشعب في غرب كردستان والإدارة الذاتية ودفعهما إلى التعاون من خلال إفساح المجال أمام المجلس الوطني الكردي للاضطلاع بدور على الساحة السياسية. مع ذلك، تسببت قضية إدارة المعبر ببروز انقسامات بين حكومة إقليم كردستان والإدارة الذاتية بعيد فتحه، فقد نشبت خلافات بين مجلس الشعب في غرب كردستان والمجلس الوطني الكردي حول كيفية تنفيذ أحكام اتفاقية هولير-1 وإدارة الموارد في المعبر.
أُغلق المعبر أحيانًا إما كليًّا أو جزئيّا. فعلى سبيل المثال، قررت سلطات حكومة إقليم كردستان في 19 أيار/مايو 2013 إقفال المعبر الحدودي بالكامل أمام الجميع باستثناء الحالات الإنسانية والمرضى بعد أن أقدم حزب الاتحاد الديمقراطي على احتجاز خمسة وسبعين عضوًا من الحزب الديمقراطي الكردي السوري، المقرّب من الحزب الديمقراطي الكردستاني.12 وتصاعدت حدّة التوترات لدرجة أن الرئيس الكردي السوري لحزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم، استخدم معبر ربيعة-اليعربية للدخول إلى العراق حتى يتمكّن من السفر جوًا إلى بلجيكا عبر بغداد بعد أن منعته سلطات حكومة إقليم كردستان من دخول أراضيها.13 مع ذلك، استؤنفت حركة المرور عبر الحدود مع الوقت. وفي نيسان/أبريل 2014، أقدمت حكومة إقليم كردستان على حفر خندق بطول 17 كيلومترًا لمنع حصول عمليات تسلل من الجانب السوري، في محاولة منها للسيطرة على عمليات التهريب عبر الحدود وتكريس معبر سيمالكا-فيشخابور نقطة رئيسة للدخول المرخّص به.14
وبالنظر إلى الأهمية الاقتصادية المتنامية لهذا المعبر، لم يُغلَق في السنوات الثلاث الماضية سوى مرة واحدة، خلال الاشتباكات التي اندلعت بين البشمركة وقوات الحشد الشعبي عقب أزمة الاستفتاء. فالمعركة التي وقعت بين بشمركة روج آفا السورية المدعومة من الحزب الديمقراطي الكردستاني وقوات الحشد الشعبي عطلّت خطة تطويق معبر فيشخابور والوصول إليه، وبات الحزب الديمقراطي الكردستاني يحيي ذكرى هذا التاريخ الذي أحبط فيه “المؤامرة التركية-الإيرانية-العراقية”.15 وفي العام 2020، بدأت حكومة إقليم كردستان والإدارة الذاتية فرض قيود على حركة عبور الحدود للتصدّي إلى تفشي وباء كورونا.16 مع ذلك، برز توجّه نحو توسيع حركة التجارة والأفراد عبر معبر سيمالكا-فيشخابور. وفيما تحوّل هذا المعبر إلى مورد رزق مهم، عمد الحزب الديمقراطي الكردستاني وقوات سورية الديمقراطية إلى تطوير مرافقه لإدارة حركة الأفراد والبضائع ودعمها. وقد ساهم عاملان اثنان في اتخاذ هذا القرار: الأول هو إغلاق معبر ربيعة-اليعربية، ما جعل سيمالكا-فيشخابور البديل الأكثر مقبولية؛ والثاني هو نشر قوات أميركية في كلٍّ من إقليم كردستان العراق وشمال شرق سورية، ما عزّز أهمية المعبر من أجل نقل هذه القوات ومعداتها.17
معبر الوليد الحدودي:
يقع معبر الوليد في ناحية زمار المتنازع عليها قرب محافظة دهوك في إقليم كردستان العراق، على الضفة الغربية من نهر دجلة، وعلى مقربة من المثلث الحدودي العراقي-السوري-التركي.18 تسيطر على هذا المعبر حكومة إقليم كردستان من الجانب العراقي والإدارة الذاتية من الجانب السوري. وفي العام 2013، فتحته حكومة إقليم كردستان بصورة مؤقتة بعد إغلاق معبر سيمالكا-فيشخابور عقب خلافها مع قوات سورية الديمقراطية. وسُمح باستخدام المعبر للمتوجّهين من إقليم كردستان إلى سورية وليس العكس، تعبيرًا عن معارضة الحزب الديمقراطي الكردستاني لأي تعاون مع الإدارة الذاتية ما لم تلتزم هذه الأخيرة بتنفيذ أحكام اتفاقية هولير-1.19 مع ذلك، ونظرًا إلى ارتفاع حجم التبادلات التجارية بين إقليم كردستان العراق والإدارة الذاتية، وافق الطرفان رسميًا على فتح المعبر في نيسان/أبريل 2017 لتخفيف العبء عن كاهل معبر سيمالكا-فيشخابور. كذلك، استخدمت القوات الأميركية هذا المعبر عند انسحابها من سورية في تشرين الأول/أكتوبر 2019.20
معبر الفاو الحدودي:
يقع معبر الفاو، وهو نقطة دخول غير رسمية، بين شمال وجنوب سنجار من الجانب العراقي، مقابل المنطقة الواقعة بين اليعربية وناحية الهول من الجانب السوري.21 وبعد اندلاع الحرب الأهلية السورية وصعود تنظيم الدولة الإسلامية في مطلع العقد السابق، تمّ استخدام معبر الفاو كممر غير رسمي لنقل المساعدات الغذائية والإنسانية إلى سورية. وعلى وجه التحديد، استخدمته عناصر تابعة لحزب العمال الكردستاني لتأمين ممر آمن إلى سورية لعشرات الآلاف من الأيزيديين الذين فرّوا من هجوم تنظيم الدولة الإسلامية على سنجار، ما أفسح المجال أمام اللاجئين لعبور الأراضي السورية نحو دهوك عبر معبر الوليد. وفي وقت لاحق، عزّز حزب العمال الكردستاني ووحدات مقاومة سنجار وجودهما بالقرب من الفاو الذي بات نقطة رئيسة أخرى لعبور مقاتليهم الحدود.22
وبحسب مصادر محلية ومسؤولين عراقيين، يبدو حزب العمال الكردستاني مرتبطًا على نحو متزايد بعمليات العبور غير القانونية والتهريب في معبر الفاو. ولم تبدأ السلطات العراقية برفع عدد عناصرها المنتشرة في تلك المنطقة إلا بعد وقوع اشتباكات بين العناصر التابعة لحزب العمال الكردستاني وحرس الحدود العراقي.23 وبحلول نهاية العام 2020، وبُعيد توقيع اتفاق بين الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان، بدأت قوات الأمن العراقية بنشر عناصر إضافية في سنجار وبالقرب من هذه المنطقة الحدودية للحدّ من أنشطة حزب العمال الكردستاني وقدرته على العمل داخل الأراضي العراقية.24
التجارة والأنشطة غير المشروعة
تُعبّر حركة التبادل التجاري بين شمال شرق سورية وإقليم كردستان العراق عن نشوء حدود كردية كردية. والمُلفت أن هذا النشاط الاقتصادي المشترك يجري بين كيانين لا يمكن اعتبارهما لا تابعين فعليًا للدولة ولا غير دولتيين بالكامل. واقع الأمور هذا يعكس الطابع الهجين والضبابي الذي باتت تتسمّ به على نحو متزايد الخطوط الفاصلة بين الحيّز الرسمي وغير الرسمي في المنطقة نتيجة ضعف أجهزة الدولة المركزية والتشابك القائم بين الكيانات السياسية والجهات شبه العسكرية والبيروقراطيات.
عمومًا، يستخدم العديد من السوريين معبر سيمالكا-فيشخابور الحدودي للذهاب إلى إقليم كردستان العراق التماسًا لفرص العمل أو السلامة أو الرعاية الطبية، وقد بات كل ذلك متاحًا بفضل التضامن الكردي العابر للحدود، وفي ما بعد نتيجة القضية المشتركة التي تمثّلت في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. وبات إقليم كردستان محطة عبور مهمة للسوريين الراغبين في السفر إلى سورية أو منها، من دون المخاطرة بالمرور في المطارات التي تسيطر عليها الحكومة السورية.25 وقد بدأت حركة الأفراد هذه منذ العام 2011، عندما دخل آلاف السوريين إلى إقليم كردستان العراق خلال العامين الأولين من الانتفاضة السورية. فقد بلغ عدد الوافدين آنذاك 150000 شخص تقريبًا، ووصل عدد اللاجئين إلى نحو 250000 شخص خلال العام 2017.26
وعلى الرغم من ارتفاع وتيرة حركة العبور هذه، لم تُعر إدارة أي من الطرفين اهتمامًا يُذكر سواء بحركة المواطنين ككل أو بالطرق المحتملة لتحسين تجربة عبور الحدود، إلا حين أصبحت المشاكل المتعلقة بالمعبر من قضايا الشأن العام وتناولتها وسائل الإعلام. فعلى سبيل المثال، عبَر المواطنون لسنوات النهر على متن قوارب، على الرغم من وجود جسر عائم قادر على تحمّل حركة آليات. لكن الإدارة لم تحوّل آلية النقل إلى الحافلات إلا بعد حادثة غرق زورق وموت أحد الركاب. وقد ضُخمّت الحادثة لتصبح قضية عامة، وانتقد الناشطون والصحافيون واقع أن عابري الحدود كانوا مضطرّين، طيلة سنوات، إلى استخدام زوارق صغيرة بالكاد يمكنها حمل عدد قليل من الأشخاص، فيما تُنقل الماشية على الجسر العائم في سيارات، ما يعتبره الركاب مهينًا ومثيرًا للسخرية.27
وتُعتبر أولويات السلطات المحلية تجارية في المقام الأول. فمعبر سيمالكا-فيشخابور يُستخدم بشكل أساسي لنقل المواد الغذائية وغيرها من الحاجات الضرورية. فمن الجانب السوري، تعمل حوالى عشرة مكاتب محلية للتخليص الجمركي مع التجار لتسهيل العمليات وتوفير الوقت. ومن بين السلع الاستراتيجية الرئيسة التي يجري تداولها في المنطقة: الحديد والسكر والإسمنت والأسمدة. ومن جانب حكومة إقليم كردستان، تسيطر شركة تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني على المعبر وتحصّل الضرائب المفروضة على منتجات مثل المواد البلاستيكية والهواتف المحمولة والمنسوجات والأدوات الكهربائية.28
أما المعبر الثاني الذي شهد نموًا ملحوظًا في النشاط الاقتصادي فهو معبر الوليد الحدودي.29 فقد تمّ تأسيس شركة مشتركة باسم هيفكارتن (Hefkarten) بين الإدارة الذاتية والتجار المحليين الذين يحتكرون حركة السلع الاستراتيجية في هذه المنطقة. وعند هذا المعبر، يمكن استيراد البضائع بكميات أكبر مما هي الحال في معبر سيمالكا حيث تبلغ قدرة تحمّل الجسر العائم 35 طنًا.30 وقد تأسست الشركة المذكورة في أواخر العام 2015 على يد اللجنة الاقتصادية لحركة المجتمع الديمقراطي، التي تتألّف من مجموعة أفراد عملوا مع حزب العمال الكردستاني في التسعينيات في منطقة جبال قنديل التي باتت اليوم جزءًا من الإدارة الذاتية.31
لذلك، تمّ تخصيص معبر الوليد الحدودي لاستيراد الحديد والإسمنت والأسمدة والسكر، وجميعها سلع يحتكرها الموالون للإدارة الذاتية. وفي بعض الأحيان، عندإغلاق معبر سيمالكا في موسم الشتاء، يصبح معبر الوليد بديلًا عنه لتسيير حركة التبادلات التجارية.32 وقد شهد المعبر بروز عدد من الشركات العاملة ضمن شبكات المحسوبية على الجانبين، أي ثمّة مجموعة مرتبطة بقادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأخرى بشخصيات تابعة لحزب العمال الكردستاني.
وقد استطاعت فئة جديدة من التجار إعادة إحياء أسواق البلدات الحدودية على الجانبين انطلاقًا من هذا المعبر. ففي قضاء زاخو في محافظة دهوك، مثلًا، أدخل كبار تجار الخضار قوافل من الخضار من سورية. وبرزت فئة تضمّ حوالى 2000 تاجر إضافي من مناطق الإدارة الذاتية للاستفادة من هذه التجارة.33 وثمّة فرص كثيرة متاحة لتحقيق الأرباح، إذ يدخل مثلًا أكثر من 600 ألف طن من الإسمنت إلى مناطق الإدارة الذاتية من إقليم كردستان العراق يوميًا. وفي الجانب السوري، يبلغ ثمن كل طن 80 دولارًا، بالمقارنة مع سعر 30 دولارًا للطن الذي يُباع في إقليم كردستان العراق. كما يعبر الحدود يوميًا 1000 طن من الحديد أيضًا، ويصل سعر الطن الواحد إلى 650 دولارًا، على الرغم من أن شركة هيفكارتن تشتري الحديد بسعر 450 دولارًا للطن الواحد. والأمر مماثل بالنسبة إلى السكر، إذ يتم شراء الطن الواحد في إقليم كردستان بـ450 دولارًا ليُباع عبر الحدود بسعر 550 دولارًا، ويعبر الحدود يوميًا نحو 2000 طن من السكر.34
حفزّت هذه الحركة التجارية المتنامية الإدارة الذاتية وحكومة إقليم كردستان على فرض رسوم جمركية على السلع المستوردة عبر المعابر. وبالتالي يتعيّن على كل من يرغب في ممارسة أي نشاط تجاري في هذه المنطقة دفع مبالغ تتراوح بين 120000 و160000 ألف ليرة سورية لإتمام عملية الحصول على ترخيص، والتي تشمل التدقيق الأمني. كذلك، يجب على أي تاجر يرغب في الاستحصال على ترخيص جمركي دفع مبلغ إضافي على شكل وديعة لمرة واحدة بقيمة 50000 ليرة إلى الإدارة الذاتية.35 ودفع ذلك بعض رجال الأعمال إلى الشكوى من أن التعريفات الجمركية ارتفعت بشكل حاد لدرجة أن التجارة عبر هذا المعبر لم تعد مربحة. فمن وجهة نظرهم، صحيحٌ أن الحركة الآمنة نسبيًا عبر معبر سيمالكا-فيشخابور تسببت في تراجع حركة الأنشطة غير المشروعة عبر الحدود العراقية السورية، إلا أن هذه التعريفات المرتفعة قد تعيد إحياء هذه الأنشطة.36
ليست التجارة غير المشروعة مفهومًا غريبًا عن الحدود العراقية السورية. فلطالما سهّلت عوامل مثل غياب الحواجز الطبيعية والروابط الإثنية والقبلية العابرة للحدود أنشطة التهريب، ولا سيما بعد إغلاق المعابر الحدودية الرسمية في أواخر السبعينيات. وأكثر السلع المهربة هي الماشية والتبغ، بيد أن هذه القائمة طالت في الآونة الأخيرة لتشمل النفط والمواد المخدرة والأسلحة.37 لكن فيما سيطرت الشبكات القبلية على هذه التجارة في الماضي، باتت المجموعات شبه العسكرية هي المسؤولة عنها اليوم. وكان سكان العديد من القرى السورية الحدودية الواقعة بين معبري ربيعة-اليعربية وسيمالكا-فيشخابور منخرطين في عمليات التهريب قبل سيطرة الإدارة الذاتية، كما هو الحال في سائر المناطق الحدودية السورية. واشتهرت قرى سورية مثل السويدية وقلدمان وقلعة الحصن، التي تقابلها قريتا سحيلة وجوزيك من الجانب العراقي، بأنشطة التهريب. وقد مالت هذه المنطقة تاريخيًا نحو تأييد الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي، لكن منذ التسعينيات ازداد عدد مناصري حزب العمال الكردستاني فيها مقارنةً مع مناطق سورية أخرى.38
وبعد اندلاع الثورة السورية، تطوّرت مسارات التهريب هذه وباتت ممرات لنقل الأفراد والبضائع بصورة غير مشروعة، ولا سيما بين العامين 2011 و2013، وبدرجة أقل خلال السنوات التي تلت ذلك. وخلال الهجوم التركي الذي استهدف منطقتي رأس العين وتل أبيض في تشرين الأول/أكتوبر 2019، فرّ عشرات الآلاف من الأشخاص عبر مسارات التهريب إلى إقليم كردستان العراق. وحتى بعد فتح معبر الوليد في نيسان/أبريل 2017، استمر التهريب في القرى. فعلى سبيل المثال، أدّى ارتفاع الرسوم الجمركية المفروضة على الهواتف المحمولة إلى تهريب هذه الهواتف من جديد عبر القرى المتاخمة للحدود في منطقة ديريك (المالكية).39 وعلى حدّ تعبير التجار، استخدمت الإدارة الذاتية أجهزتها الأمنية في محاولة منها للسيطرة على المهربين واستمالتهم بشتى الوسائل، لكنها لم تحقق سوى نجاح جزئي. ولجأت الإدارة الذاتية أيضًا إلى هذه المسارات لتهريب سلع محددة كانت حظّرتها حكومة إقليم كردستان، كالمعدات الكهربائية وغيرها من المواد الضرورية في شمال شرق سورية.
وفي السنوات الأخيرة الماضية، بات تهريب النفط، وخصوصًا النفط الخام السوري، إلى إقليم كردستان العراق والوقود المكرّر إلى شمال شرق سورية، يشكّل مدعاة قلق في المنطقة. ففي شباط/فبراير 2020، اتهمت هيئة النزاهة العراقية أربعة من المسؤولين في معبر ربيعة-اليعربية، بمن فيهم مدير المعبر نفسه، بتسهيل عملية تهريب 1500 خزان نفط.40 وكشف تحقيق لنشرة اسمها تقرير النفط العراقي، وهو موقع إخباري يتناول شؤون الطاقة العراقية، عن أن إقليم كردستان العراق بات “سوقًا رئيسًا للنفط الخام السوري ومزودًا للوقود المكرّر”.41 ومنذ العام 2014، نمت هذه التجارة ودرّت على الإدارة الذاتية، ومسؤولي الحدود العراقيين، ومشتري النفط الخام، والمسؤولين العسكريين الأجانب عشرات الملايين من الدولارات شهريًا. وعلى الرغم من أن معبر ربيعة-اليعربية شكّل ممرًا رئيسًا لهذه التجارة، أشار التحقيق إلى أن معبر سيمالكا-فيشخابور استُخدم أيضًا في أنشطة مماثلة. وقد قال أحد المسؤولين الأمنيين، لدى سؤاله عن الإتجار غير المشروع، إن حوالى ثلاثين صهريجًا تعبر من سورية إلى إقليم كردستان العراق يوميًا. وغالبًا ما يحمل سائقوها تصاريح خاصة، ما يشي بتوّرط مسؤولين من حكومة إقليم كردستان في هذه الممارسات. يُشار في هذا الصدد إلى أن الإدارة الذاتية تبيع النفط الخام بسعر زهيد لا يتجاوز الـ60 دولارًا للطن الواحد، ثم يعيد التجار بيعه بسعر يتراوح بين 240 و260 دولارًا إلى المصافي في إقليم كردستان العراق، التي تعيد بدورها تصدير جزء من الوقود المعالج إلى شمال شرق سورية.42
علاوةً على ذلك، أصبح معبرا الوليد والفاو، بعد العام 2014، نقطتيْ دخول رئيستين لحزب العمال الكردستاني ومقاتلي المجموعات التابعة له الذين يحاولون عبور الحدود. وقد ذكر أحد المصادر المطّلعة أن حزب العمال الكردستاني عمل بالتنسيق مع مسؤولين أمنيين عراقيين، ولا سيما أولئك المرتبطين بالجماعات المتحالفة مع إيران، لتسهيل عملياته عبر الحدود.43 يُضاف إلى ذلك أنه كلما توترت الأجواء السياسية مع حكومة إقليم كردستان، تقوم الإدارة الذاتية بتفعيل مسارات التهريب هذه، ولا سيما بين منطقة خانصور في سورية وقضاء سنجار، حيث يقع معبر الفاو، الذي بات معبرًا للتهريب بعد العام 2014، وبخاصةٍ بعد إنشاء إدارة متحالفة مع حزب العمال الكردستاني في سنجار.44
الأراضي الحدودية والمنافسات الكردية الكردية والقوى الجيوسياسية
للمرة الأولى في التاريخ الحديث لهذه المنطقة، تمتّعت الإدارات الكردية على جانبي الحدود بدرجة من الحكم الذاتي والاعتراف الدولي لم يكن من الممكن تصوّرهما قبل أقل من عقد من الزمن. ويعتبر بعض المراقبين أن الروابط المتنامية بين إقليم كردستان العراق ومنطقة روج آفا في سورية تحمل بذور تحوّل جيوسياسي كبير، إذا سُمح للاندماج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالازدهار.45 لكن فرص قيام وحدة كردية قابلها ارتفاع وتيرة التنافس الكردي-الكردي. فعلى سبيل المثال، ليست المنافسة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني جديدة، لكنّها ازدادت حدّةً لأسباب عدّة: أولًا، محاولات الطرفين الرامية إلى رسم معالم المشهد السياسي الهش في شمال شرق سورية؛ وثانيًا، تعدّيات حزب العمال الكردستاني المتزايدة على أراضي إقليم كردستان العراق والمناطق التي كان الحزب الديمقراطي الكردستاني يعتبرها تقليديًا خاضعة إلى نفوذه، مثل سنجار.
السيطرة على الأراضي والتنافس الكردي الكردي
تسعى حكومة إقليم كردستان والإدارة الذاتية إلى تحويل نفوذهما على الأرض إلى واقع مستدام، وذلك من خلال إضفاء طابع رسمي عليه ونيل اعتراف على الصعيدين المحلي والدولي. وقد أحرزت حكومة إقليم كردستان تقدّمًا ملحوظًا لجهة تحقيق هذا الهدف بسبب خبرتها الطويلة ككيان دستوري يتمتّع بصلاحيات الدولة، مثل الحفاظ على الأمن والحوكمة وتحقيق العائدات داخل أراضيها. وفي الوقت نفسه، يسعى حزب العمال الكردستاني والمجموعات المرتبطة به إلى إعادة هندسة المنطقة على نطاق واسع وبطريقة تتجاوز مفهوم الحدود لصالح إحلال تضامن عابر للحدود الوطنية بين الأكراد، ويشكّل تحديًا للسلطات التقليدية التي يعتمد عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني في شبكات المحسوبية والحوكمة العملية.
وفي إطار هذا الاستقطاب القائم بين الأكراد، تربط بين قوات سورية الديمقراطية والإدارة الذاتية علاقة أكثر دقة وتعقيدًا. وتُعتبر مواقف الطرفين نابعة من حاجتين متعارضتين. فمن جهة، عليهما تثبيت وتطبيع سلطتهما المستقلة، ما يفرض عليهما التماس الاعتراف والحماية الدوليين. ومن جهة أخرى، عليهما الحفاظ على الروح القتالية والتحالف مع حزب العمال الكردستاني لمواجهة التهديدات المتواصلة لهذا الحكم الذاتي الذي جاهدتا من أجل نيله، وخصوصًا تلك الصادرة عن تركيا والفصائل السورية المتحالفة معها، فضلًا عن تنظيم الدولة الإسلامية والنظام السوري. لذلك، يبدو أن مستقبل هذه الحدود يعتمد بشكل كبير على خيارات الفصائل الكردية السورية، وما إذا ستقودها نحو إما توجّه دولتي أعظم، أو توجّه عسكري أكبر.
في العام 2012، رفع المقاتلون الأكراد في سورية خلال معاركهم ضدّ المجموعات الإسلامية المتطرفة مثل جبهة النصرة في بلدة رأس العين الحدودية بين تركيا وسورية، شعار “نحن قليلون لا يرانا أحد، وكثيرون تجدنا في كل مكان”.46 ويعبّر هذا الشعار عن الانتشار الواسع لحزب العمال الكردستاني إنما بشكل خفي. وواقع الحال أن اهتمام حزب العمال الكردستاني ووجوده في المناطق الحدودية في شمال شرق سورية ليس جديدًا، بل يعود تاريخه إلى الثمانينيات، عندما أعلن للمرة الأولى كفاحه المسلح ضد الحكومة التركية. آنذاك، كان حزب العمال الكردستاني يعتبر الأراضي السورية ملاذًا آمنًا له. وخلال التسعينيات، تمكّن كبار قادته مثل عبد الله أوجلان وجميل بايك من استخدام بلدة عين العرب (كوباني) الكردية الواقعة في شمال شرق حلب، كمركز لأنشطته المناهضة لتركيا.47 ولم ينته وجوده هناك إلا بعد إبرام اتفاق أضنة بين دمشق وأنقرة في تشرين الأول/أكتوبر 1998، والذي قضى بطرد قادة حزب العمال الكردستاني من المناطق الحدودية السورية.48 لكن ذلك لم يكن كفيلًا باقتلاع هذه المجموعة اليسارية المسلحة بالكامل من قواعدها السابقة. وفي العام 2003، شارك حزب العمال الكردستاني في تأسيس حزب سياسي كردي سوري جديد هو حزب الاتحاد الديمقراطي،49 وفي العام 2005، بات الحزبان جزءًا من المنظمة الجامعة نفسها التي تُدعى اتحاد مجتمعات كردستان، والملتزمة بتنفيذ إيديولوجيا أوجلان المتمثلة في نموذج “الكونفدرالية الديمقراطية”.50
وطوال تلك الفترة، عزّز حزب العمال الكردستاني وجوده الكبير في المناطق الحدودية. صحيح أنه ما من كيان رسمي يدعى حزب العمال الكردستاني في المنطقة، إلا أن الحزب تمكّن من التغلغل في داخل المجتمع المحلي من خلال بناء روابط مع مجموعات أخرى ومنظمات المجتمع المدني. فعلى سبيل المثال، أنشأ حزب العمال الكردستاني في العام 2011 مؤسسة تحمل اسم “عوائل الشهداء”، وتلعب دورًا مهمًا في التواصل مع عائلات المقاتلين الذين قُتلوا في معارك تركيا أو سورية.51 ومن خلال هذا الدعم وشبكات التواصل التي طوّرها، وسّع حزب العمال الكردستاني قاعدته الشعبية، ولا سيما في المناطق المجاورة للحدود، ما منحه القدرة على الحشد والتعبئة. وهذا ما حدث في العامين 2016 و2017، عندما نظّمت مجموعات من الشباب بدعم من كوادر حزب العمال الكردستاني في سورية وقفات احتجاجية عند معبر سيمالكا-فيشخابور، للتعبير عن تضامنهم مع رفاقهم في إقليم كردستان العراق، مندّدين بالهجمات التي نفذّها الجيش التركي على جبال قنديل، حيث يتمركز العديد من قادة حزب العمال الكردستاني. وردّ مسؤولو الحزب الديمقراطي الكردستاني على هذه التحركات من خلال إغلاق المعبر.52 ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذه القدرة على التعبئة الاجتماعية لفتت الانتباه إلى قدرة حزب العمال الكردستاني على إحداث اضطرابات على الحدود خلال أي حدث سياسي.
وبعد اندلاع الحرب الأهلية السورية، حاول الحزب الديمقراطي الكردستاني التأثير على مجرى الأحداث من خلال دعم المجلس الوطني الكردي، الذي كان جزءًا من المجلس السوري الموحد الذي شكّل بدوره إطارًا للمعارضة السورية. ومن خلال تبنّي الحزب الديمقراطي الكردستاني هذا الموقف، بات قريبًا من الموقف التركي الذي دعم في المرحلة الأولى من الصراع المجلس السوري الموحد والجهود الرامية إلى إطاحة النظام السوري. علاوةً على ذلك، وضع هذا الموقف الحزب الديمقراطي الكردستاني على طرف نقيض مع كلٍّ من طهران، وبغداد إلى حدّ ما، إذ كانت حكومتها التي تهيمن عليها القوى الشيعية تخشى من إمكانية إرساء نظام جديد يهيمن عليه السنّة في سورية. وفي الوقت نفسه، برز حزب الاتحاد الديمقراطي (المتحالف مع حزب العمال الكردستاني) وجناحه العسكري المتمثّل في وحدات حماية الشعب، باعتبارهما يتمتعان بالقوة الأكبر على الأرض، ولا سيما بعد أن حاول تنظيم الدولة الإسلامية احتلال أراضٍ يسيطر عليها الأكراد.53
في هذا السياق، قام الحزب الديمقراطي الكردستاني بتدريب وتجهيز ميليشيا كردية سورية لتكون الجناح العسكري للمجلس الوطني الكردي، عُرفت باسم بشمركة روج آفا، وتتألف من حوالى 4000 مقاتل.54 وبعد إنشاء الإدارة الذاتية، سعى الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى إعادة نشر هذه الميليشيا في سورية لضمان عدم قدرة حزب العمال الكردستاني وحلفائه على احتكار السلطة في منطقة الحكم الذاتي الناشئة.55 مع ذلك، شكّكت الإدارة الذاتية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي بهذه الخطوة ولم تتعاون مع الميليشيا. وزعمت وسائل الإعلام التابعة لحزب العمال الكردستاني أن بشمركة روج آفا حظيت بدعم تركيا وتدريبها بهدف تقويض الحكم الذاتي الذي عانى الأكراد السوريون الأمرّين للحصول عليه.56
وخلال العامين الماضيين، تأجّج هذا الخلاف بين حزب العمال الكردستاني/حزب الاتحاد الديمقراطي من جهة وبين الحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة أخرى، فيما زادت تركيا جهودها المناهضة لحزب العمال الكردستاني وقوات سورية الديمقراطية. وتتمثل الاستراتيجية الأمنية التركية الراهنة في الحؤول دون تحوّل شمال العراق إلى معقل لحزب العمال الكردستاني وإعاقة أي محاولات لتوطيد العلاقة بين الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية وإقليم كردستان العراق، ولا سيما إن كانت هذه العلاقة ستسهم في تعزيز قدرات العناصر المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني. ولتحقيق هذه الغاية، أطلق الجيش التركي في منتصف العام 2020 حملة عسكرية جديدة في شمال العراق شملت قصفًا عنيفًا لمواقع صنّفتها تركيا على أنها قواعد لحزب العمال الكردستاني في سنجار ودهوك. وبحسب مسؤولين أمنيين عراقيين، شارك في الهجوم البري حوالى 1500 جندي تركي بدعم من القوات الجوية، وتمّ تنسيق عملياتهم مع الحزب الديمقراطي الكردستاني.57 وفي مثال آخر على حالة التصعيد، استهدفت غارة شنّتها طائرة تركية من دون طيار في آب/أغسطس 2020 اجتماعًا بين أعضاء حزب العمال الكردستاني وحرس الحدود العراقيين، ما أسفر عن مقتل أحد كبار قادة حزب العمال الكردستاني في دهوك أغيت غارزان، واثنين من ضباط حرس الحدود العراقيين.58 ووقع هجوم آخر في كانون الثاني/يناير 2021، عندما انتشرت القوات التركية في دهوك وادّعت أنها قتلت ثمانية وأربعين عضوًا من أعضاء حزب العمال الكردستاني وعثرت على جثث رهائن أتراك كانت اختطفتهم المجموعة.59 وتمارس تركيا ضغوطًا متزايدة على الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون معها ضدّ حزب العمال الكردستاني، ما يعني المخاطرة باندلاع حرب مفتوحة بين الأكراد من شأنها أن تلحق الضرر بالموقع السياسي للحزب وجاذبيته لدى قواعده الشعبية، حيث أن العديد من الأكراد يشعرون بالسخط من الهجمات التركية والوجود العسكري التركي في إقليم كردستان العراق. وعلى سبيل المثال، اقتحم حشد من المحتجين في دهوك معسكرًا عسكريًا تركيًا في كانون الثاني/يناير 2019 احتجاجًا على الهجمات التي تتعرّض لها المنطقة.60
يُذكر أن هذه المواجهة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني حدثت في مناطق كانت جزءًا من إقليم كردستان العراق أو كان الحزب الديمقراطي الكردستاني يتمتّع بنفوذ كبير فيها مثل سنجار. وبات من الأصعب على الحزب الديمقراطي الكردستاني إرساء توازن بين اعتماده الاقتصادي على تركيا، الذي يُعتبر ضروريًا لصمود حكومة إقليم كردستان، وتوجّهاته القومية الكردية التي ساهمت في تخفيف حدّة الخصومة مع أحزاب أخرى مثل حزب العمال الكردستاني. في غضون ذلك، تصدّر حكومة إقليم كردستان معظم إنتاجها من النفط (أي حوالى 450 ألف برميل يوميًا) والغاز في خطوط الأنابيب التي تمرّ عبر تركيا إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط. وقد ساهمت هذه البنية التحتية في جعل حكومة إقليم كردستان أكثر اعتمادًا على التعاون مع تركيا، نظرًا إلى اعتراض بغداد على تصدير حكومة إقليم كردستان لموارد الطاقة بشكل أُحادي. وشكّل هذا الترتيب جزءًا من تحوّل في السياسة التركية تجاه حكومة إقليم كردستان، سعت بموجبه أنقرة إلى جعل حكومة الإقليم حليفًا استراتيجيًا، ومصدرًا بديلًا للطاقة، وحاجزًا في وجه النفوذ الإيراني المتنامي في العراق.61 وعلى ضوء تطور هذه الشراكة التجارية بين الجانبين، أصبح معبر إبراهيم الخليل الحدودي الذي تعبره معظم الصادرات التركية إلى العراق مصدرًا رئيسًا للعائدات بالنسبة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني. وبالتالي، لا بدّ من أن تحافظ حكومة إقليم كردستان على تعاونها مع تركيا إن أرادت الصمود اقتصاديًا والحفاظ على حكمها الذاتي على نحو مستقل عن بغداد. وهذا الواقع منح تركيا اليد العليا في الشراكة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني.
وقد دارت حرب كلامية اتّهم فيها الحزب الديمقراطي الكردستاني حزب العمال الكردستاني بتهديد الاستقرار في إقليم كردستان العراق.62 وردّ حزب العمال الكردستاني مكررًا اتهامه للحزب الديمقراطي الكردستاني بالتآمر مع تركيا.63 وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أصدر زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني بيانًا غير مسبوق اتهم فيه حزب العمّال الكردستاني بانتهاك القانون من خلال توسيع رقعة وجوده العسكري في المناطق الحدودية التابعة لإقليم كردستان العراق وفرض سلطته بالقوة على السكان المحليين. وأشار بارزاني إلى أن امتناع حزبه منذ زمن طويل عن الانجرار إلى الاقتتال بين الأكراد لا يجوز تفسيره بالضعف.64 أما ميدانيًا، فقد أصبحت وتيرة الاشتباكات العسكرية بين الطرفيْن منتظمة. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2020، اتهم جهاز الأمن التابع لحكومة إقليم كردستان حزب العمال الكردستاني باغتيال أحد مسؤوليه بالقرب من أحد المعابر على الحدود التركية.65 وفي منتصف كانون الأول/ديسمبر 2020، أفادت وسائل إعلام موالية للحزب الديمقراطي الكردستاني عن اندلاع اشتباكات جديدة بين مقاتلي البشمركة ووحدات حماية الشعب بالقرب من معبر الوليد الحدودي.66 ووصف رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني هذا الحدث بأنه “هجوم متهور وغير مبرر” “يشكّل انتهاكًا واضحًا وغير مشروع لسيادة إقليم كردستان العراق”.67
تعبّر هذه الحوادث وغيرها عن خطوط صدع ناشئة في المشهد السياسي الكردي عبر الحدود، قد تتفاقم مستقبلًا. من جهة، تستمد حكومة إقليم كردستان الشرعيةَ التي تضمن لها الحكم الذاتي الإقليمي والمؤسسي من الدستور العراقي والقبول الدولي لهذا الواقع داخل الحدود المعترف بها، ويتعيّن عليها بالتالي الدفاع عن هذه الحدود للحفاظ على هذه الشرعية. ومن جهة أخرى، يهدف مشروع حزب العمال الكردستاني المناهض للدولة إلى إزالة الحدود من أجل تحقيق تضامن عبر الحدود الوطنية. وبلغت هذه المواجهة المعقدة ذروتها تحديدًا في منطقة سنجار الحدودية، في شمال العراق.
سنجار: مسرح الأحداث الرئيس
يُعدّ حوالى 75 في المئة من سكان سنجار من الأكراد الأيزيديين.68 وفيما يعتبر بعض الأيزيديين أنفسهم أكرادًا في المقام الأول، يشدّد آخرون على “الجوانب التي تميّز” الهوية الأيزيدية.69 ونظرًا إلى موقع سنجار الاستراتيجي، حاول نظام البعث إعادة هيكلة التوزيع الديموغرافي في المنطقة عن طريق حملات التعريب. وانطوت هذه الحملات على ترحيل عشرات الآلاف من السكان الأصليين من قراهم الواقعة في محيط جبل سنجار لإعادة توطينهم في بلدات تحمل أسماء عربية وتسهل السيطرة عليها، فضلًا عن تقسيم القضاء إداريًا من خلال ضم ناحية القحطانية في جنوب سنجار إلى قضاء البعاج المجاور الذي تسكنه أغلبية عربية (انظر الخريطة 4).70
أعقب انهيار النظام البعثي بروز الحزب الديمقراطي الكردستاني وقوات البشمركة التابعة له كقوة نظامية رئيسة، وسياسية وشبه عسكرية، ملأت الفراغ في سنجار. وأدى بالتالي بروز حزب العمال الكردستاني والجماعات المتحالفة معه بعد العام 2017، فضلًا عن انتشار الحشد الشعبي في القضاء، إلى إعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي في المنطقة. وانتشرت فصائل متعددة تابعة للحشد الشعبي في سنجار ضمّت مجموعات أيزيدية مثل فوج لالش وقوات كوجو، إلى جانب الفصائل الشيعية مثل كتائب الإمام علي ولواء أبو الفضل العباس ولواء أنصار المرجعية. ونشطت أيضًا في سنجار مجموعتان متحالفتان مع حزب العمال الكردستاني، هما وحدات مقاومة سنجار ووحدات نساء أيزيدخان. وبالإضافة إلى ذلك، انتشرت في المدينة قوات أيزيدخان، بقيادة النائب العراقي السابق حيدر شاشو، وتحالفت مع الحزب الديمقراطي الكردستاني.71
أصبحت سنجار بؤرة رئيسة للتوترات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني، ولا سيّما عندما بدأ الأخير بتعزيز وجوده في المنطقة الحدودية بعدما فشل الحزب الديمقراطي الكردستاني في ضم سنجار إلى حكومة إقليم كردستان في العام 2017.72 وفي آذار/مارس 2017، دخلت قوات بشمركة روج آفا المتحالفة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى خانصور في شمال سنجار وحاولت إعادة نشر قواتها بالقرب من الحدود، فرأت وحدات حماية سنجار وحزب العمال الكردستاني في هذه الخطوة محاولة للحد من وجودهما في المنطقة. ودارت معركة بين هاتيْن المجموعتيْن وبشمركة روج آفا، ما أسفر عن سقوط عدد من الضحايا.73 وفي غضون ذلك، هاجمت مجموعة موالية لحزب الاتحاد الديمقراطي في سورية مكاتب المجلس الوطني الكُردي في الدرباسية والقامشلي احتجاجًا على الاشتباكات.74 أظهر رد الفعل هذا مدى ارتباط الديناميكيات السياسية والأمنية في سنجار بما يحدث في سورية، والعكس صحيح. ففي الواقع، يعتبر الكثيرون من مقاتلي حزب العمال الكردستاني أن سنجار تشكّل جزءًا من روج آفا.75 وأفاد ناشط أيزيدي أن قياديًا محليًا في حزب العمال الكردستاني أخبره أنه سمع أوجلان يقول: “أحلم أن نمتلك شبرًا واحدًا من أرض سنجار”.76 وعلى غرار الأكراد السوريين، يتكلّم سكان سنجار الأكراد اللهجة الكرمانجية التي تختلف عن اللهجة المحلية في المناطق المجاورة في إقليم كردستان العراق مثل دهوك.
عندما قرر الحزب الديمقراطي الكردستاني تنظيم استفتاء الاستقلال، أعلنت إدارة القضاء بقيادة القائمقام وعضو الحزب الديمقراطي الكردستاني، محما خليل، أن سنجار ستنضم إلى حكومة إقليم كردستان. وردًا على هذه الخطوة، أعادت بغداد والحشد الشعبي فرض سيطرتهما على قضاء سنجار، وعُزلت الإدارة التي يترأسها الحزب الديمقراطي الكردستاني، واختيرت إدارة مستقلة جديدة بدعم من وحدات مقاومة سنجار، الحليف المحلي لحزب العمال الكردستاني.77 وأيّد بعدئذ قائد العمليات في الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، اختيار فهد حامد المولود في سنجار، لمنصب قائمقام بالوكالة، في خطوة حظيت بدعم وحدات مقاومة سنجار وحزب العمّال الكردستاني.78 وسيطرت جماعة تابعة للحشد الشعبي على مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في سنجار المعروف بالفرع 17.79 ووجّه هذا التحول في الأحداث ضربة موجعة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي بسط سيطرته على القضاء منذ العام 2003 وحتى العام 2014.
ولم تردع خسارة السيطرة على قضاء سنجار الحزب الديمقراطي الكردستاني من ممارسة نفوذه بما أن الإقليم استقبل حوالى 300000 شخص من الأيزيديين الذين نزحوا إليه هربًا من اعتداءات تنظيم الدولة الإسلامية.80 وبعد هزيمة التنظيم، فضّل معظم اللاجئين البقاء في المخيمات في إقليم كردستان العراق بدلاً من العودة إلى سنجار في ظل الدمار الذي لحق باقتصاد القضاء والوضع السياسي غير المستقر الذي يُعزى إلى تعدّد الجماعات شبه العسكرية واختلاف ولاءاتها.81 وأفادت بعض المصادر عن عرقلة الحزب الديمقراطي الكردستاني لعودة اللاجئين رغبةً منه في الحفاظ على نفوذه على السكان الأيزيديين في حال إجراء انتخابات جديدة.82
وفي المقابل، وفّرت الأحداث الأخيرة التي بدأت مع بروز تنظيم الدولة الإسلامية فرصةً اغتنمها حزب العمال الكردستاني لتعزيز وجوده في المنطقة الحدودية. في السابق، اقتصر وجود هذا الحزب في العراق على جبل قنديل بالقرب من الحدود العراقية التركية وعلى قضاء مخمور الذي تتنازع عليه أيضًا حكومة إقليم كردستان وبغداد ويضم مخيمًا قديم العهد نسبيًا للاجئين الأكراد الذين فروا من الصراع بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة.83 وقُدَّر عدد مقاتليه في العراق بحوالى 5000 مقاتل.84 ولكن بعد اندلاع الأزمة السورية، قام مسلحو حزب العمال الكردستاني بمحاولات متعددة لاستخدام سنجار كمعبر رئيس إلى سورية واتخاذ جبل سنجار كملاذ آمن جديد.85وبعد انسحاب الحزب الديمقراطي الكردستاني، عمد حزب العمال الكردستاني والقوى شبه العسكرية المتحالفة معه إلى حماية أنفسهم عن طريق الاندماج في النسيج المحلي والسيطرة على أراض في المنطقة المحصنة جيدًا المحيطة بسنجار.86 لقد أنشأ حزب العمال الكردستاني مواقع آمنة وبنى أنفاقًا للاحتماء من الهجمات التركية وتسهيل حركة مقاتليه ونقلهم عبر الحدود العراقية السورية. ووفقًا لما أفاد به مسؤولون أمنيون عراقيون، عزز الحزب دفاعاته من خلال تهريب الأسلحة الخفيفة والمتوسطة من سورية.87 أما ميليشيا وحدات مقاومة سنجار المتحالفة معه فأحكمت سيطرتها على عدد من المباني الأمنية والحكومية في القضاء أو انتشرت فيها.88
تجمع بين وحدات مقاومة سنجار وحزب العمّال الكردستاني علاقة تثير طبيعتها الجدل. ولا تُخفى على أحد الطريقة التي يتحدّث بها الكثير من المراقبين والسكان المحليين عن المجموعتيْن، فلا يفرّقون بينهما وكأنهما كيان واحد. ولكن على غرار وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي في سورية، تنفي وحدات مقاومة سنجار أي علاقة تنظيمية مع حزب العمّال الكردستاني. ويعمل بين 900 و1000 عضو من أعضاء المجموعة لصالح الحشد الشعبي تحت راية فوج النصر المبين بقيادة سعيد حسن سعيد.89 وتملك المجموعة أيضًا “جناحًا دوليًا” يضمّ متطوعين أجانب قاتلوا في سنجار وشاركوا أيضًا في المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية والجيش التركي في سورية.90 ويرفض بعض السكان المحليين فكرة الوجود الفعلي لحزب العمّال الكردستاني في سنجار ويعتبرون أن العلاقة التي تربطه بوحدات مقاومة سنجار لا تتعدّى العلاقة الرمزية التي عزّزها الدور الذي أدّاه حزب العمّال الكردستاني في مساعدة السكان المحليين على الفرار من اعتداءات تنظيم الدولة الإسلامية. ويعارض آخرون هذا التقييم ويستشهدون بالعلاقات التنظيمية والعسكرية الوثيقة التي تربط بين المجموعتيْن وتشمل ميليشيات أصغر حجمًا مثل وحدات نساء أيزيدخان. وتملك على ما يبدو وحدات مقاومة سنجار فرعيْن يضم أحدهما العناصر المسجلين في الحشد الشعبي ويضم الآخر العناصر التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحزب العمال الكردستاني. ويتقاسم عناصر الحشد الشعبي الرواتب التي يتلقونها مع العناصر الآخرين الذين لا ينتمون إلى الحشد الشعبي، وتُخصَّص مبالغ صغيرة أخرى للخدمات الاجتماعية، ويعكس ذلك الثقافة المشاعية التي يتميّز بها حزب العمّال الكردستاني.91
أفاد مسؤولون أمنيون عراقيون أن حزب العمّال الكردستاني ركّز وجوده في جبل سنجار وناحية سنوني في شمال سنجار، إذ تضطلع هاتان المنطقتان بأهمية كبرى لتنقل أعضائه عبر الحدود العراقية السورية.92 وقال نائب عراقي من المنطقة إن حزب العمّال الكردستاني ووحدات مقاومة سنجار استخدما بانتظام منذ العام 2017 أربعة طرق من سنجار إلى شمال شرق سورية.93 وأصبحت العلاقة بين حزب العمّال الكردستاني ووحدات مقاومة سنجار ركيزة الدعم الرئيسة (إلى جانب الحشد الشعبي) للإدارة الذاتية في سنجار، ونتج عنها أيضًا جناح سياسي يمثله حزب الحرية والديمقراطية الأيزيدية الذي يطمح إلى المشاركة في الانتخابات البرلمانية العراقية في العام 2021.94 ولغاية الآن، يبدو أن عضوة واحدة في البرلمان العراقي عن محافظة السليمانية تُعدّ متحالفة سياسيًا مع حزب العمّال الكردستاني.95
لم يتمكّن حزب العمّال الكردستاني من توسيع رقعة وجوده في هذه المنطقة الحدودية والبقاء فيها من دون التكيّف مع البيئة المحلية، فتداخلت حدوده مع حدود الكيانات الأخرى. وبنظر بعض الشباب الأيزيديين، شكّلت على ما يبدو إيديولوجيا حزب العمال الكردستاني القائمة على المساواة والعلمانية والنسوية بديلاً جذابًا عن الثقافة الدينية المحافظة والمتشددة والهرمية التي تتّسم بها السلطات الأيزيدية التقليدية.96 وساعد في الوقت عينه هذا التكيّف الكيانات المسلحة الكردية العابرة للحدود (التي يمثّلها حزب العمّال الكردستاني واتحاد مجتمعات كردستان) على ترسيخ دورها في الأجهزة العسكرية والاقتصادية ودوائر الحكم في المنطقة، والاستفادة من شراكتها البراغماتية مع الحشد الشعبي. واكتسب بالتالي حزب العمّال الكردستاني مجالًا إقليميًا للمناورة أوسع مما كان عليه في الماضي، ما خوّله تعزيز مكانته في علاقات القوة الإقليمية وإضافة بعد جيوسياسي إلى أوجه التنافس المتشابكة في هذه المنطقة.
أدى الحضور غير المسبوق لحزب العمّال الكردستاني إلى تكثيف الهجمات التركية على سنجار والمناطق المجاورة. وفي كانون الثاني/يناير 2020، أودت غارة جوية تركية بحياة قائد وحدات مقاومة سنجار، زردشت شنكالي، وثلاثة عناصر آخرين من المجموعة.97 وفي شباط/فبراير 2021، أُفيد أن جهاز الاستخبارات التركية قد ألقى القبض في سنجار على إبراهيم بريم، القيادي البارز في حزب العمّال الكردستاني.98 وضغطت الحكومة التركية على بغداد وحكومة إقليم كردستان لبذل جهود إضافية بهدف اجتثاث حزب العمّال الكردستاني من سنجار، ووصل الأمر بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى حد التهديد بغزو القضاء عسكريًا.99 وفي تشرين الأول/أكتوبر 2020، وقّعت الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان اتفاقًا من أجل إعادة الاستقرار وتطبيع الأوضاع في قضاء سنجار. ونصّ على تولي الشرطة العراقية وجهاز المخابرات الوطني وجهاز الأمن الوطني حصرًا مسؤولية الحفاظ على الأمن في سنجار، وعلى إبعاد جميع التشكيلات المسلحة الأخرى إلى خارج حدود القضاء. وفرض الاتفاق أيضًا على قوات الأمن توظيف 2500 فرد من سنجار، ومن بينهم نازحون مقيمون في إقليم كردستان العراق، من أجل المساعدة في الحفاظ على أمن المنطقة.
هدفَ توقيع هذه الاتفاق إلى إنهاء تواجد حزب العمال الكردستاني في سنجار والمناطق المحيطة، وأكّد الطرفان عزمهما على أن “لا يكون للمنظمة وتوابعها أي دور في المنطقة”.100 وعلى الصعيد الإداري، اتفقا على اختيار قائمقام جديد ومستقل وفقًا للآليات القانونية والدستورية.101 وعملت بعثة الأمم المتحدة في العراق على تيسير الاتفاق الذي حظي بدعم الحكومتيْن الأميركية والتركية بالإضافة إلى دول أوروبية متعددة. ورمى الاتفاق إلى إنشاء آلية حكم مشتركة تحقق بموجبها بغداد وأربيل بعض أهدافهما، ولا سيما طرد حزب العمال الكردستاني من القضاء.
في المقابل، أدان حزب العمال الكردستاني ووحدات مقاومة سنجار الاتفاق، وأصدر اتحاد مجتمعات كردستان بيانًا انتقد فيه استبعاد الإدارة الذاتية في سنجار عن الصفقة، لافتًا إلى انسحاب مقاتلي حزب العمّال الكردستاني من سنجار وتسليمهم المسؤوليات الأمنية للسكان المحليين.102 بالإضافة إلى ذلك، صرح قائد وحدات مقاومة سنجار، دليل شنكالي، أن جماعته “لن تنسحب مطلقًا من سنجار” لأنها “قدّمت التضحيات” لحماية القضاء ولأن خطر تنظيم الدولة الإسلامية ما زال محدقًا به. واتهمت وحدات مقاومة سنجار كلًّا من تركيا وحكومة إقليم كردستان بنشر معلومات مضللة حول العلاقات بين وحدات مقاومة سنجار وحزب العمال الكردستاني بهدف “احتلال سنجار على غرار ما حدث في عفرين ورأس العين وتل أبيض” – في إشارة إلى المناطق الثلاث ذات الأغلبية الكردية في شمال سورية التي سيطرت عليها أنقرة وحلفاؤها المحليون في أعقاب هجمات منفصلة ضد قوات سورية الديمقراطية في العاميْن 2018 و2019.103
لم ينل الاتفاق رضى الحشد الشعبي أيضًا، ولا سيما الجماعات الموالية لإيران مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق. وبعد أيام قليلة من توقيع الاتفاق، اجتمع وفد من سنجار بعبد العزيز المحمداوي، الملقَّب بـ”أبي فدك”، أحد قادة كتائب حزب الله ورئيس أركان الحشد الشعبي الحالي، وطالب فيه الإبقاء على الإدارة الذاتية التي عيّنها الحشد الشعبي وتقديم ضمانات بعدم تنازل الحشد الشعبي عن سنجار لصالح الحزب الديمقراطي الكردستاني.104 وانتقد أيضًا قيس الخزعلي، زعيم عصائب أهل الحق، الاتفاق باعتباره نابعًا من مصالح سياسية وانتخابية تهدف إلى إخراج الحشد الشعبي من القضاء.105 وبالفعل، أرسل الحشد الشعبي في شباط/فبراير 2021 حوالى 10000 جندي إضافي إلى سنجار بعد معلومات عن مخططات تركية لمهاجمة المنطقة.106 وتخوّفت في الدرجة الأولى الأطراف المعترضة على الاتفاق من الحد من نفوذ الحشد الشعبي في سنجار والمنطقة المجاورة للحدود العراقية السورية، وبالتالي تعزيز مكانة الجماعات المتحالفة مع الولايات المتحدة وتركيا. وبغية التخفيف من حدة هذه الاعتراضات، كلّفت الحكومة العراقية مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، عضو منظمة بدر المتحالفة مع إيران، بالإشراف على تنفيذ الاتفاق، ما سمح بإشراك الحشد الشعبي في عملية التنفيذ.
نُشرت الفرقة السادسة في الشرطة الاتحادية في سنجار وعلى الحدود العراقية السورية من أجل تنفيذ الاتفاق، واضطلعت في المقام الأول بمسؤولية ضمان أمن هذا الجزء من الحدود ومنع المقاتلين الأجانب من التسلل عبرها.107 دخلت قوات الأمن الداخلي بمفاوضات مع وحدات مقاومة سنجار لإقناعها بمغادرة مركز سنجار وإعادة نشر مقاتليها خارج المدينة. وأسفرت هذه المفاوضات عن نتائج متناقضة. ففي حين أخلت وحدات مقاومة سنجار معظم المباني التي سيطرت عليها داخل المدينة، أفادت بعض التقارير أن عناصر وحدات مقاومة سنجار المنتمين إلى الحشد الشعبي كانوا يعززون سرًّا وجودهم في القضاء.108
يصطدم تنفيذ الاتفاق بعقبات واضحة تسلّط الضوء على معارضة القوى الرئيسة، أي الحشد الشعبي، وحزب العمال الكردستاني، ووحدات مقاومة سنجار، التي كان لها اليد الطولى في رسم معالم النظام الأمني والإداري في سنجار منذ العام 2017. وقد يؤدي تجاهل هذه القوى إلى صراع يفوق قدرات قوى الأمن الداخلي، ولا سيما نظرًا إلى الدور الكبير الذي يلعبه الحشد الشعبي في العاصمة والدعم الذي يحظى به من الأحزاب الشيعية المتعددة. وقد تضطر الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان إلى اتخاذ تدابير عملية ورمزية إضافية للحرص على التمييز بين وحدات مقاومة سنجار وحزب العمال الكردستاني، تشمل مثلًا تكليف الأولى بدور محدد (عن طريق الحشد الشعبي أو بدعم منه ربما) في عملية إعادة تشكيل المشهد السياسي والأمني التي تحصل حاليًا في سنجار.
خاتمة: ماذا يخبئ المستقبل؟
ستؤثّر التطورات المستقبلية في سنجار وشمال شرق سورية في بعضها بعضًا وسترسم معالم ديناميكيات الحدود العراقية السورية. تتعدّد السيناريوهات المحتملة في هذه المنطقة التي تشهد تغيرات مستمرة: سيحدث السيناريو المحتمل الأول في حال تمكنت الحكومة العراقية من إحكام سيطرتها على أقضيتها الحدودية واستطاع الحزب الديمقراطي الكردستاني استعادة بعض نفوذه السابق. وقد تضعف هذه النتيجة حزب العمال الكردستاني وترغم الجماعات المحلية على النأي بنفسها عنه، وقد يؤدي تعزيز الأمن الحدودي من الجانب العراقي إلى إضعاف الروابط التي رعاها حزب العمال الكردستاني بين قواعده في العراق وسورية. وستزداد فرص نجاح هذا السيناريو في حال أثمرت الجهود المبذولة برئاسة الولايات المتحدة في سبيل التفريق بين قوات سورية الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني، وهذا شرط فرضته لمواصلة دعمها السياسي والعسكري والمالي. وقد يعرقل ذلك الاتجاه الثوري الذي يمثله حزب العمال الكردستاني، ويرسخ الحدود بحكم الأمر الواقع، ويحد من قدرة القوات العابرة للحدود الوطنية على استغلال العلاقات عبر الحدود من أجل خدمة مصالحها ورؤيتها الثورية.
وسيحصل السيناريو الثاني، والمضاد، إذا فشلت الحكومة العراقية والحزب الديمقراطي الكردستاني في إعادة بسط سيطرتهما على هذا الجزء من الحدود، أو إذا تصاعدت مجددًا حدة التنافس بينهما. وسيسمح ذلك لحزب العمال الكردستاني بانتهاز هذه الفرصة للحفاظ على نفوذه والتقليل من شأن حالة الحدود. وسيصبح هذا السيناريو مرجحًا إذا تصاعدت وتيرة المواجهة مع تركيا وتحولت إلى لعبة غالب ومغلوب، ما سيقرّب قوات سورية الديمقراطية من حزب العمّال الكردستاني.
أما السيناريو الثالث والمنطقي فيجمع بين السيناريويْن الأول والثاني: سيبقى حزب العمّال الكردستاني حاضرًا في المنطقة، ولكنه قد يضطر إلى الاكتفاء بالأهداف التي حققها وربما إلحاق أعضائه بالفصائل الأخرى والتواري عن الأنظار. ويعزّز الطابع المرن هذا النهج، ولا سيما في إطار سعي الحزب إلى التكيّف مع البيئات المجتمعية الجديدة خارج تركيا. وقد يفقد في هذه العملية حزب العمّال الكردستاني من أهميته مع ترسّخ الكيان الإداري الجديد في شمال شرق سورية، ويُعزى السبب جزئيًا إلى التشديد على خصائصه المحلية بدلًا من ارتباطاته العابرة للحدود.
لا شكّ أن عملية إعادة تشكيل المشهد ستتأثر بالأدوار والتنافسات والتسويات بين الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية الرئيسة في كلٍّ من العراق وسورية، ولا سيما تركيا وإيران والولايات المتحدة وروسيا. فالولايات المتحدة تحاول احترام التزامها تجاه قوات سورية الديمقراطية، حليفها الأساسي في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، والحفاظ على تحالفها مع حكومة إقليم كردستان، شريكتها في الحرب ضد التنظيم ومقر القوات العسكرية الأميركية العاملة عبر الحدود. وستواصل تركيا الضغط لتقليص المنطقة الجغرافية التي يسيطر عليها الأكراد في سورية، فيما تسعى إلى اجتثاث حزب العمّال الكردستاني منها. وتتفق في الواقع الولايات المتحدة وتركيا على ضرورة طرد حزب العمال الكردستاني كشرط أساسي لإضفاء الشرعية على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، أو على الأقل، لوقف الأعمال العدائية بين تركيا (وحلفائها السوريين) وقوات سورية الديمقراطية. وفي حال استخدم البَلَدان نفوذهما لتحقيق هذه الغاية، ستساعد جهودهما في ترسيم حدود المناطق الكردية في سورية وتوضيح معالمها، وبالتالي تأكيد واقع الحدود مع العراق. ولن تعارض على الأرجح روسيا وإيران هذا الاتفاق إذا تقبّلت الولايات المتحدة وتركيا النظام السوري كواقع على الأرض وقدّمتا ربما تنازلات في مناطق أخرى، مثل الجزء الجنوبي من الحدود العراقية السورية، الذي تسعى طهران وموسكو إلى بسط نفوذهما فيها.
سيستغرق تحقيق هذا التغيير الجيوسياسي الواسع النطاق، هذا إن تحقق يومًا، وقتًا طويلًا، وسيتطلب معادلات معقّدة من شأنها إرضاء الأطراف كافة أو معظمها. وفي حال تبيّن أن هذا التوجّه ممكن، سيتفوّق على الأرجح مسار التطبيع على الرؤية الثورية العابرة للحدود التي ينتهجها حاليًا حزب العمّال الكردستاني في عملية إعادة رسم معالم الحدود العراقية السورية.