الشباب في السودان يعانون من تأثيرات التمييز العنصري الذي يظهر جليا عبر التفاعل في كل مجالات الحياة من الزواج وصولا إلى التعاملات اليومية، وقد بدأت الأصوات ترتفع لمكافحة هذه الظاهرة المعرقلة لتطور البلاد ونهضتها، وتحتاج إلى دعم وعمل متواصلين من المجتمع والدولة.
الخرطوم – استقطبت مبادرة صغيرة لبعض الشباب في مدينة نيالا بمنطقة دارفور في السودان اهتماما لافتا بدعوتها إلى التعايش السلمي بين القبائل ونبذ العنصرية في بلد لا يزال يستخدم كلمة “عبد” للإشارة إلى ذوي البشرة السوداء.
وامتدت التظاهرة التي شارك فيها المئات من الشباب بسياراتهم المزينة بأعلام وملصقات توعوية إلى مدن أخرى من بينها العاصمة الخرطوم، وركزت على الدعوة إلى التعايش السلمي بين جميع مكونات الشعب السوداني، غير أنها تبقى مجرد مبادرة واحدة تحتاج إلى الكثير من الجهود والمتابعة والإصرار من قبل الشباب في مناطق مختلفة من السودان لتستطيع التأثير في أذهان الناس وتحقق فارقا في نظرتهم للآخرين.
وقال عمر صلاح الدين أحد المشاركين في المبادرة “يجب علينا محاربة العنصرية لننعم بحياة أفضل، فمهما امتلكنا من موارد سنظل في قاع الأمم وأفقرها إذا استمر الفكر السائد بتفضيل العرق على الوطن”.
وأضاف صلاح الدين “سرطان العنصرية سيجعلنا نخسر الكثير من إخواننا، الوطن وحده يجمعنا وخطابات الكراهية يجب أن تحارب بالوعي ليس فقط بالكتابة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بل يجب أن يكون الوعي ملموسا في أرض الواقع وأن نظهر للآخرين الاحترام ونحترم كل ثقافتهم ونشاركها معا في المعسكرات والجامعات والمدارس، يجب أن تكون هناك أجسام تنويرية خاصة لنشر تقبل الآخر والوئام لربط النسيج الاجتماعي”.
وورث الجيل الجديد من السودانيين تقاليد وقيم المجتمع الذي لا تزال التكوينات القبلية تتحكم فيه، وتهيمن فيه قيم الثقافة التقليدية التي تميز بين المواطنين على أساس إثني أو قبلي أو جهوي، وتقسم الناس إلى أحرار وعبيد وعرب وغيرهم.
وفي هذه الثقافة تحتل مفاهيم التمييز والتفرقة العنصرية موقعا مركزيا، حتى لو حظي البعض بمستوى عال من الشهرة والنجاح، كما حدث مع اللاعب السوداني الدولي عصام عبدالرحيم (30 عاما) الذي تعرض لموجة عنصرية على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب لون بشرته الغامق عندما نشر صور زفافه على خبيرة التجميل ريم خوجلي (25 عاما) وبشرتها فاتحة اللون.
وكانت هناك العشرات من التعليقات المسيئة حيث يستخدم الكثيرون في السودان ممّن يرون أنفسهم عربا لا أفارقة كلمة “عبيد” وغيرها من الكلمات المفعمة بالازدراء بشكل عادي لوصف السود.
وبث عبدالرحيم وزوجته على موقع فيسبوك مقاطع مباشرة أثناء شهر العسل، قائلين إنهما متحابين، ومسألة العرق لا أهمية لها.
وأشار إلى أنّ ما ساعده على التماسك هو احتكاكه بمثل هذه الحالات في عالم كرة القدم “التي قد تسمع من مدرجاتها كثيراً من الإساءات لك ولأسرتك وقبيلتك”.
في المقابل أكد عبدالرحيم أنّ زوجته تأثرت كثيراً بالحملة العنصرية، ولولا وقوفه إلى جانبها ووقوف أشقائها كذلك، لكانت آثارها سيئة جداً عليها.
ولا يخفي عبدالرحيم مدى ترحيبه بالتوجهات الحالية في المجتمع السوداني لسنّ قوانين وتشريعات تساعد في الحدّ من العنصرية وتضع عقوبات حازمة تجاه كلّ من يمارس العنصرية بأشكالها المختلفة، سواء على مستوى المجتمع أو على المستوى السياسي أو الاقتصادي.
وتهيمن على السودان نخبة ذات بشرة فاتحة اللون تتحدث العربية، بينما يواجه أفارقة سود في جنوبي وغربي البلاد التمييز والتهميش. ومن الشائع أن تنشر الصحف شتائم عنصرية بما فيها كلمة “عبد”. وتصف وسائل الإعلام صغار المجرمين في العاصمة الخرطوم بأنهم “زنوج”، حيث يعتبرون فقراء وليسوا عربا.
ويجري التستر على العنصرية في السودان بطرق مختلفة، إذ عرفت بعض المراحل التاريخية تقسيم المجتمع إلى طبقات على أساس عنصري ومسميات مثل “أبناء الأحرار” و”أبناء السراري” و”المولودين”.
النزعة العنصرية واحدة من أهم مسببات عدم الاعتراف بالتميّز الأكاديمي والمجتمعي للشباب المتفوقين
وبدأ بعض الشباب بالتفكير في التمرد على هذه المفاهيم ومواجهة الفكر السائد من خلال النقد وتفكيك قيم الثقافة التقليدية السائدة.
وبات هذا الجيل يدرك أن العنصرية من أمراض المجتمع المسكوت عنها، وإنّ هناك تمييزاً أكثر من العنصرية يقوم على أساس المنطقة والقبيلة، خصوصاً في المدن، ويظهر لدى التفاعل المجتمعي خصوصاً في الزواج، إذ ما زالت هناك أسر لا تقبل المصاهرة من جهات بعينها، وحتى في التعاملات اليومية من إيجارات المنازل وامتلاكها، وهو ما بات عقبة كبيرة أمام الشباب.
ويشتكي الكثيرون من أن النزعة العنصرية واحدة من أهم مسببات عدم الاعتراف بالتميّز الأكاديمي والمالي والمجتمعي على خلاف مجتمعات أخرى، ما يجعل العنصرية السودانية أشد خطراً وأعمق أثراً.
ويقول هؤلاء الشباب إنّ للعنصرية آثاراً مدمرة عليهم وتؤدي إلى الشعور بالدونية والحقد على المجتمع والرغبة في الانتقام، أو الهجرة والنزوح، مع تغذية روح العنف الداخلي والتمرد على السلطة، كما تؤدي إلى الشعور بالفشل في العمل أو العلاقات العاطفية.
كما أنّ استمرار الممارسات العنصرية من خلال رفض الأزواج والزوجات سيزيد من العنوسة والعزوف عن الزواج، كما سيزيد من العنف ويوسّع بؤرة النزاعات القبلية، ما يهدد النسيج المجتمعي.
وتكمن بداية الحل لهذه المشكلة المتأصلة في المجتمع السوداني في سنّ قانون لمكافحة العنصرية، والعمل على التأهيل النفسي والتوعوي وبناء الأواصر المجتمعية وإعادة صياغة الشخصية السودانية والتخلص من تلك الرواسب والتعامل معها في سن مبكر، بداية من رياض الأطفال مروراً بالمدارس والجامعات.
وعلى الدولة القيام بواجبها في إصلاح التعليم والثقافة والإعلام وإعادة كتابة التاريخ الوطني والاعتراف بمساهمات كل المجموعات السودانية، وسن القوانين التي تجرم كافة أشكال العنصرية والتمييز الإثني وتعاقب عليها بعقوبات رادعة، ويأتي ذلك بعد الوصول إلى عقد اجتماعي دستوري اقتصادي وثقافي جديد يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية بلا تمييز.
ويمكن للشباب السوداني أن يلعبوا دورا هاما يعضد الجهود الحكومية في مكافحة العنصرية والتمييز وخطابات الكراهية الإثنية والدينية المنتشرة أيضا، وتنمية ثقافة المساواة وعدم التمييز واحترام كرامة البشر وحقوقهم انطلاقا من مبدأ أن جميع البشر يولدون أحرارا وهم متساوون في الحرية والكرامة. وتدخل في ذلك مهام الإصلاح الحزبي وتساعد فيه وذلك بأن تتضمن برامج الأحزاب مبادئ المواطنة المتساوية وعدم التمييز واحترام حقوق الإنسان، ونبذ وإدانة خطابات العنصرية والكراهية العرقية أو الدينية والمنظمات التي تتبناها والتي ساهمت بالطبع في مفاقمة مشكلة العنصرية في السودان.
حكم القانون
ومن العوامل الرئيسية التي ساعدت أيضا على استمرار تفشي العنصرية غياب سيادة حكم القانون وبالتالي غياب أو ضعف الحماية الدستورية لحقوق الإنسان؛ سواء في ما يتعلق بكفالة الحقوق نفسها أي المساواة وعدم التمييز أو توفر الآليات التي تضمن حمايتها وعدم انتهاكها واستقلال القضاء، وذلك في معظم سنوات ما بعد الاستقلال.
ويقول الباحث ناصف بشير الأمين إن العنصرية في السودان لها أيضا بعد مؤسسي وبنيوي مرتبط بسياسات تهميش وإقصاء الغالبية من السكان وحرمانهم من التمتع بحقوق المواطنة المتساوية السياسية والاقتصادية والثقافية التي تبنتها الدولة المركزية منذ الاستقلال.
وقد تم حرمان مجموعات معينة من التمتع بحقوقها الإنسانية المشروعة بسبب التمييز الذي يمارس ضدها على أسس الإثنية أو الدين أو النوع الاجتماعي، وذلك عبر المؤسسات وأنماط السلوك التي تعكس وتعزز قيم المجموعات المهيمنة في المجتمع. ويحرم الإقصاء والتمييز الأشخاص من المشاركة الكاملة في المجتمع وخيراته ومن حرية الاختيار والفرص المتاحة للخروج من دائرة الفقر. كما يصادر أصواتهم ويمنعهم من الجهر بحقوقهم والمطالبة بها، ولهذه الأسباب مجتمعة يشكل الإقصاء الاجتماعي السبب الرئيسي للفقر والانقسامات والتوترات في المجتمع.
ويرى الأمين أنه يقع على كاهل الدولة السودانية بموجب الاتفاقية الدولية للقضاء علي جميع أشكال التمييز العنصري 1969، والتي تشكل الأساس المعياري الذي تستند عليه كافة الجهود الدولية للقضاء على التمييز العنصري، واجب حظر التمييز العنصري والقضاء عليه بكافة أشكاله.
الجيل الجديد من السودانيين ورث تقاليد تهيمن عليها قيم الثقافة التقليدية التي تميز بين المواطنين على أساس إثني أو قبلي
ويشمل ذلك، من بين التزامات أخرى، الالتزام بعدم القيام بأي عمل من أعمال أو ممارسات التمييز العنصري أو التشجيع عليه، واتخاذ التدابير الفعالة لإعادة النظر في السياسات الحكومية، ولتعديل أو إلغاء أو أية قوانين أو أنظمة تؤدي إلي التمييز العنصري، وأن تشجع الدولة المنظمات والحركات الاندماجية والوسائل الأخرى التي تستهدف إزالة الحواجز بين الأجناس، وأن تمنع كل ما من شأنه تقوية الانقسامات الإثنية أو العنصرية، وأن تتخذ التدابير الكافية في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها لتأمين النماء والحماية الكافيين لبعض الجماعات العرقية (الأقليات) أو للأفراد المنتمين إليها، وتمتعهم التام المتساوي بحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
ويقع على الحكومة السودانية بشكل خاص واجب حظر جميع الخطابات والتنظيمات القائمة علي الأفكار أو النظريات القائلة بتفوق أي عرق أو أية جماعة من لون أو أصل اثني واحد، أو التي تحاول تبرير أو تعزيز أي شكل من أشكال الكراهية العنصرية والتمييز العنصري. وكذلك القضاء على كل تحريض على هذا التمييز وكل عمل من أعماله.
وينتظر الشباب السوداني من المسؤولين والحكومة بشكل خاص الالتزام بأن تجعل كل نشر للخطابات القائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، جريمة يعاقب عليها القانون. إضافة إلى كل تحريض على التمييز العنصري وكل عمل من أعمال العنف أو تحريض على هذه الأعمال أو المساعدة في ارتكابها والتستر عليها، بما في ذلك تمويلها.
ويمثل الشباب الآن الكفة الأغلب في إدارة العملية السياسية إذ أنهم يعملون على اقتلاع النظام السابق والترسيخ لنظام جديد يقوم على الحرية والسلام والعدالة، ويسعون لبناء وطن مُعافى يتساوى فيه الأفراد في الحقوق والواجبات.
ولتحقيق نتائج إيجابية يقول عمر صلاح الدين إنه لا بد من وضع استراتيجية واضحة وقابلة للتحقيق لإشراك الشباب كقوة إيجابية للتغيير من خلال زيادة التمكين الاقتصادي للشباب. وتعزيز المشاركة المدنية للشباب والمشاركة في صنع القرار والعمليات والمؤسسات السياسية. وإدراج تعليم السلام على جميع المستويات وتعزيزه باعتباره أحد أهداف التنمية المستدامة وفرصة حاسمة للنهوض بتمكين الشباب من خلال ضمان الحريات الأساسية وضمان المساءلة ومشاركتهم في عمليات صنع القرار.
يجب على الدولة حظر المنظمات وسائر الأنشطة الدعائية والخطابات التي تقوم بالترويج للتمييز العنصري والتحريض عليه، واعتبار ذلك اشتراكا في جريمة يعاقب عليها القانون (المادة 4 من الاتفاقية).
وعلى الدولة أن تضمن تمتع جميع المواطنين بحقوق المواطنة المتساوية المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية دون أدنى تمييز على أساس العرق أو الإثنية أو الدين أو النوع. وأن تضمن كذلك لكل فرد داخل نطاق اختصاصها حق الرجوع إلى المحاكم الوطنية وغيرها من مؤسسات الدولة المختصة لحمايته ورفع الحيف عنه على نحو فعال في ما يخص أي عمل من أعمال التمييز العنصري، وكفالة الحق في جبر الضرر والتعويض.
وعلى الدولة كذلك أن تتخذ تدابير فورية وفعالة، لاسيما في ميادين التعليم والتربية والثقافة والإعلام بغية مكافحة النعرات المؤدية إلى التمييز العنصري
وتعزيز التفاهم والتسامح والصداقة والتعايش السلمي بين الأمم والجماعات العرقية أو الإثنية الأخرى، وكذلك لنشر مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
العرب