راحت الولايات المتحدة تلملم أوراقها وأسلحتها وجنودها وتأخذ في الخروج من أفغانستان، في مشهد ليس جديداً على التاريخ الأميركي، بعد الحرب العالمية الثانية. ومن المعلوم أن الولايات المتحدة دخلت إلى أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى ثم خرجت بعدها؛ وحتى بعد النصر فإنها لم تكن على استعداد لتلافي حرب أخرى بالدخول إلى عصبة الأمم. وكان الثمن دخول حرب عالمية بعد عشرين عاماً، وما إن جاء النصر حتى قررت أميركا هذه المرة أن تبقى عسكرياً في أوروبا واليابان وبعد ذلك في كوريا الجنوبية إضافة لبحار العالم ومحيطاته. ومع هذا الوجود قررت ليس فقط أن تدخل إلى الأمم المتحدة، وإنما معها أقامت شبكات من التنظيمات الدولية التي تهتم بشؤون المال والاقتصاد والتجارة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافة. كانت الولايات المتحدة تحمل معها إلى العالم النظام الرأسمالي والنظام الديمقراطي وقوة ناعمة هائلة مكونة من الليبرالية واللغة الإنجليزية وتراكماً حاداً من المخترعات والابتكارات التي أذهلت الإنسانية وجعلت «الفيزا» الأميركية هي الأعلى سعراً في السعي والثمن بين تأشيرات الدخول. ولكن ذلك لم يكن كل شيء، فكما شهد العالم الإقبال الأميركي، فقد عرف أيضاً الأفول الذي يحل على أميركا ويدفعها إلى الانسحاب الذي جاء بعد سنوات من الحرب في فيتنام. مشهد الأميركيين والعاملين معهم من العالقين في طائرات الهليكوبتر وهي تطير من على سطح السفارة الأميركية في «سايغون» التي صارت مدينة «هوشي منه» بعد وحدة فيتنام الشمالية مع تلك الجنوبية، ظل دوماً عالقاً في الذاكرة الأميركية وربما كان هو المشهد الذي أراد الرئيس الأميركي جو بايدن تجنبه. ولم تكن فيتنام هي الوحيدة في الذاكرة الأميركية، فالحرب الكورية انتهت بمولد كوريا الشمالية الشيوعية والباقية حتى اليوم، أما حرب أميركا في العراق فقد انتهت بالطريقة التي انتهت إليها في أفغانستان.
هذه المرة لم يكن الخروج منصباً على الانسحاب العسكري من دولة جرى الوجود فيها والاحتلال، وإنما على فشل في النموذج الديمقراطي الليبرالي الأميركي ذاته. فبعد نهاية الحرب الباردة بدا كما لو أن النموذج قد انتصر، ودخلت دول كثيرة إلى دائرة النموذج أفواجاً، ولكن السنوات الخمس الأخيرة، أخذ النموذج في التراجع عالمياً، والمدهش محلياً داخل الولايات المتحدة ذاتها. وما بين عامي 2015 و2019 تركت 12 دولة النظام الديمقراطي، واتبعت دول أخرى مثل البرازيل والهند والمكسيك وبولندا والمجر والفلبين وتركيا وفنزويلا وجورجيا وميانمار والسلفادور وبيرو سياسات غير ليبرالية، وبعضها خرج من النموذج الديمقراطي كلية. وبدلاً من امتداد النموذج الأميركي إلى العالم؛ فإن نماذج عالمية غير ديمقراطية امتدت إلى الولايات المتحدة ذاتها. المعركة السياسية الحالية داخل الولايات المتحدة حول قوانين الانتخابات التي جرى إقرارها في 17 ولاية أميركية دخلت بالقضية الديمقراطية كلها إلى محك اختبار كبير. فالانتخابات في الأول والآخر هي جوهر العملية الديمقراطية التي ترى في «الأغلبية» التي تأتي نتيجة التصويت، الحَكَم الحكيم الذي يقيم ميزان الدول ويعدلها ويبعدها عن التطرف.
مصدر الخلافات على النظام الانتخابي جاء مع الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2020 والتي جاءت بالرئيس بايدن إلى البيت الأبيض على حساب الرئيس ترمب الذي كان يعيش فيه وخرج من دون مشاركة في المراسم الاحتفالية الأميركية باستقبال رئيس جديد. الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة كان هو الذي وضع بذرة الانقسام في النخبة السياسية الأميركية عندما ادعى أن الانتخابات كانت مزورة وغير صادقة في التعبير عن الناخب الأميركي. هذا الادعاء صاحبه محاولة للهجوم على مبنى الكونغرس ومنع أعضائه من التصديق على نتائج الانتخابات، وجرى ذلك في هجوم جماهيري كبير يوم 6 يناير (كانون الثاني) الماضي ولكن جرى فضه بعد سقوط ضحايا. التجربة هكذا رغم أنها نجحت في إخراج ترمب من السلطة فإنها بدأت سلسلة كبيرة من الادعاءات والادعاءات المضادة حول سلامة العملية الانتخابية كان جوهرها عما إذا كان من صوتوا في الانتخابات من المواطنين الأميركيين حقاً ولهم حق المشاركة في الانتخابات أم لا. وجهة نظر الديمقراطيين هي أن الديمقراطية لا تتحقق إلا بالمشاركة الشعبية في الانتخابات ومن ثم لا يجوز وضع القيود عليها في المكان أو الزمان حتى تكون النتيجة معبرة عن الإرادة الشعبية. الجمهوريون على الجانب الآخر رأوا في ذلك خدعة ديمقراطية لأنها تتيح للمهاجرين واللاجئين ممن ليس لهم حق التصويت المشاركة غير المشروعة. النظام الفيدرالي الأميركي الذي يعطي للولايات سلطة إدارة العملية الانتخابية، دفعت الأمر كله إلى دائرة القضاء، ومن بعده إلى المجالس النيابية لوضع قواعد جديدة وتشريعات تمنع وتحد من مشاركة جماعات جديدة على المجتمع الأميركي أغلبها له ميول ديمقراطية.
الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين يفجر قضية أخرى لها علاقة بالديمقراطية والليبرالية الأميركية وهي قضية العنصرية المثارة في الولايات المتحدة بشدة خلال الأعوام الأخيرة. فمن المعروف تاريخياً أولاً أن أميركا رغم أن إعلان استقلالها يقول بالمساواة الأميركية فإن الدستور الأميركي أقر مؤسسة العبودية. وثانياً أنه جرى بالفعل تحرير وعتق العبيد بعد الحرب الأهلية (1860 – 1865). وثالثاً أنه رغم ذلك فإن أحوال العبيد والأميركيين السود لم تتغير كثيراً بسبب ما سمي قوانين «جيم كرو» التي أقرت قاعدة «المساواة» نعم بين الأحرار، ولكنها من ناحية أخرى أقرت قاعدة الانفصال أي عيش المواطنين السود في مجتمعات منفصلة جرى تاريخياً حصارها، والتقييد عليهم فيما يتعلق بكل شيء بما في ذلك العملية الانتخابية. هذا التاريخ الآن يتداخل بشدة مع الخلاف والتناقض الدائر في الولايات المتحدة، فنظراً لأن الأغلبية الساحقة من الأميركيين من أصول أفريقية يؤيدون الحزب الديمقراطي فإن الجمهوريين يسعون إلى تقييد ذلك عن طريق أدوات فنية لتقييد حقهم، وحق باقي الأقليات في الانتخاب من خلال وضع صناديق الانتخاب بعيداً عن مواطنهم، أو فرض بطاقة خاصة للعملية الانتخابية، أو وضع قيود على عمليات التصويت بالبريد.
هذا النقاش الدائر في أميركا ليس بعيداً عن النقاش الدائر حولها في العالم، ورغم أنه توجد شكوى ديمقراطية داخل الولايات المتحدة مما تسبب فيه الجمهوريون من إساءة سمعة الولايات المتحدة؛ فإن الجمهوريين، خاصة من أنصار الرئيس السابق ترمب، لا يبدو أن السمعة الأميركية من الأمور التي تهمهم. القاعدة لديهم أن أميركا لا تطلب من أحد سمعة طيبة، خاصة إذا كانت كل بيوت الدول مصنوعة من زجاج مشروخ السمعة. ولما كانت معركة النظام الانتخابي والأخرى الخاصة بالعنصرية والثالثة المتعلقة بنظام «الفلباستر» الخاصة بالقدرة على المماطلة داخل مجلس الشيوخ الأميركي، ومن ثم تعطي الجمهوريين قدرة على إعاقة التشريعات الديمقراطية المتعلقة بالنظام الانتخابي؛ كل ذلك يأخذ من المكانة الأميركية الكثير. وما يبدو الآن وكأن الخروج الأميركي من أفغانستان يمثل خروجاً للولايات المتحدة من العالم فإنه لا يبدو مقتصراً على الوجود العسكري وإنما يشمل ربما ما هو أكثر أهمية والمتعلق بالرسالة الأميركية إلى العالم.
عبدالمنعم سعيد
الشرق الأوسط