تخلّف الحروب بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلّحة آثارا مادية شاهدة على تداعيات الصواريخ على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، لكنّها مثلما تسبب ندوبا نفسية للفلسطينيين يصعب الشفاء منها، تترك كذلك أضرارا نفسية لدى الإسرائيليين وخاصة أولئك الذين يقطنون في مناطق قريبة من قطاع غزة تكون هدفا أكثر من غيرها لصواريخ حركة المقاومة الفلسطينية.
سديروت (إسرائيل) – خاضت إسرائيل وحركة حماس أربع حروب والعديد من المناوشات منذ أن سيطرت الحركة على غزة في العام 2007 بعد سنة من فوزها في الانتخابات الفلسطينية. وخلّفت هذه الحروب آثارا مادية وندوبا عميقة خاصة في مدينة سديروت التي تعدّ أكثر المستوطنات الإسرائيلية تعرضا للهجمات الفلسطينية من بين ما يعرف في إسرائيل بمدن غلاف غزة.
وبعد ثلاثة أشهر فقط من الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس، تبدو بلدة سديروت الحدودية في طريقها إلى التعافي مع الشوارع الصاخبة والحدائق المليئة والملاعب التي يتم الاعتناء بها جيدا وسوق العقارات المحلية المزدهرة.
ويوضّح الكاتب جوزيف فيدرمان في مقال نشرته وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية مخلفات الحرب على سديروت والندوب العميقة التي تتخفّى تحت غطاء الحياة الطبيعية، وسببتها سنوات من إطلاق الصواريخ.
ففي مدينة سديروت بإمكانك أن ترى شظايا الصواريخ المعدنية معروضة خارج مركز الشرطة الرئيسي كأنها في متحف. ويوجد بجوار كل حديقة ومحطة أتوبيس ملجأ خرساني صغير مضاد للقنابل غالبا ما يكون مزينا بالجداريات الملونة وفن الشارع. وتوجد بطارية دفاع صاروخي من القبة الحديدية على طرف من المدينة الشرقي، على بعد بضع مئات من الأمتار من مجمع سكني جديد.
ويقول بعض سكان سديروت إنهم يفزعون كلما سمعوا أي ضوضاء. وذكر آباء أن أطفالهم ما زالوا يبللون أسرّتهم أو يخافون من النوم بمفردهم.
وتقول نعوم بيتون إنها استمتعت بطفولة طبيعية في سديروت. لكن طالبة المدرسة الثانوية البالغة من العمر 16 عاما تقول إن الأمر لم يكن دائما سهلا. وتتذكر إطلاق صفارات الإنذار أثناء حضورها احتفال “بار متسفا” (حفل يهودي ديني يقام عند بلوغ الشاب اليهودي 13 من عمره) في يوم كان هادئا.
وتحكي “انبطح ثلاثة منا على الأرض. كان الشيء الوحيد الذي يحمينا هو السيارة. وسقط الصاروخ في مكان قريب مما أدى إلى تناثر الشظايا في المنطقة”.
وتوضح بيتون الناشطة في كتيبة الكشافة المحلية إنها حريصة دائما على الجلوس بجوار الباب عندما تركب الحافلة في حالة وجود صفارات الإنذار من الغارات الجوية لتتمكن من النزول بسرعة. وتقول والدتها دفورا إن عدم اليقين هو رفيق دائم “يحزنك أنه في أي لحظة يتحكم شخص ما في حياتك. لا يمكننا الهروب”.
ويستحيل مقارنة الأوضاع في غزة وجنوب إسرائيل حيث قتلت الضربات الإسرائيلية نحو 4 آلاف فلسطيني من بينهم المئات من المدنيين في الحروب الأربع وألحقت أضرارا جسيمة بالبنية التحتية في غزة.
ويعاني عشرات الآلاف من الأشخاص غير القادرين على الفرار من المنطقة الفقيرة والمحاصرة من جروح نفسية عميقة.
ويحمي نظام دفاع صاروخي الإسرائيليين الآن، ولديهم خيار الهروب المؤقت من مدى الصواريخ والحصول على المشورة النفسية والدعم الحكومي. ومع ذلك لقي أكثر من 100 شخص مصرعهم على الجانب الإسرائيلي في الحروب الأربع، بينما أدت النيران الصاروخية الكثيفة إلى توقف حياة الملايين من الأشخاص خلال أوقات القتال. ويمكن أن تندلع نيران الصواريخ في أي لحظة دون سابق إنذار حتى في أوقات الهدوء.
وكانت سديروت أكثر مكان في إسرائيل يصاب بالصواريخ الفلسطينية، وهي مجتمع من الطبقة العاملة يبعد 1.5 كيلومتر عن حدود غزة. ومع ذلك، بعد عقدين من سقوط أول صاروخ بدائي في المدينة، لا يزال الخبراء يكافحون لمعرفة آثاره طويلة المدى على جيل من الآباء والأطفال الذين ترعرعوا في هذه البيئة المؤلمة.
وتقول تاليا ليفانون مديرة تحالف الصدمات الإسرائيلية “يشعر الأشخاص الذين يعيشون في جنوب إسرائيل بأنها مجرد مسألة وقت حتى المرة القادمة. إنك تحاول التعافي من المرة الأخيرة أثناء التحضير للمرة القادمة مما يجعل مهمتنا صعبة للغاية”.
وتدير منظمة ليفانون غير الربحية سلسلة من “مراكز الصمود” في جميع أنحاء جنوب إسرائيل والتي تقدم مجموعة متنوعة من الخدمات، بما في ذلك الاستشارات وورش العمل للعائلات والمجتمعات.
وتقول في إشارة إلى مدى انتشار تأثر الناس، إنه خلال جولة قصيرة من العنف في 2019، تلقى ما يقرب من ثلثي سكان المنطقة البالغ عددهم 60 ألفا خدمات من مركز الصمود.
وكانت الحرب التي استمرت 11 يوما بين إسرائيل وحماس في مايو الماضي أحدث تذكير بوضع سديروت. وأفادت البلدية أنه تم إطلاق قرابة 300 صاروخ على المدينة. وعلى الرغم من حماية القبة الحديدية سجلت 10 صواريخ إصابات مباشرة في المباني. وقتلت غارة طفلا يبلغ من العمر 5 سنوات.
ويشير فيديرمان إلى أن السكان غالبا ما يستعملون كلمة “مرونة” عند وصف المجتمع، حيث تبدو سديروت مزدهرة من نواح كثيرة. وكانت منطقة نائية في صحراء النقب الإسرائيلية، ثم تطورت إلى بلدة مزدحمة يسكنها حوالي 27 ألف شخص، مع مجمعات سكنية جديدة وفيلات باهظة الثمن. وبها محطة قطار شديدة التحصين تربطها بالمدن الكبرى مع مراكز تسوق وحانات ومطاعم شهيرة بين طلاب الكلية في المدينة.
ويقول الباحثون إن الأشخاص الذين نشأوا هنا يميلون إلى البقاء في المنطقة بدافع الفخر والارتباط القوي بمجتمعها المتماسك.
ويقول الناطق بلسان مدينة سديروت يارون ساسون إن السكان المخضرمين والقادمين الجدد تجتذبهم الإعفاءات الضريبية الخاصة والخدمات السخية التي أتاحها الدعم الحكومي والمانحون الأجانب بالإضافة إلى تكاتف البلدة أهالي الصغيرة.
ويشير إلى أنه في الوقت الذي أصبحت فيه معظم البلاد الآن داخل مدى الصواريخ، يُنظر إلى سديروت على أنها آمنة نسبيا، وذلك بفضل الملاجئ العديدة والمدارس ورياض الأطفال المحصنة.
ومع ذلك، وفقا لتحالف الصدمات، يشكو السكان من مجموعة واسعة من الأعراض، حيث يعاني المراهقون من معدلات أعلى من مرض السكري والعدوانية وارتفاع ضغط الدم مقارنة بنظرائهم في المجتمعات الأخرى.
كما يبقى القلق والاكتئاب وصعوبات النوم والإرهاق العام أعراضا شائعة بين البالغين، وبدأ الباحثون في دراسة آثار النشأة في سديروت على مهارات تربية الأطفال للآباء الشبان. ويحوم سؤال آخر حول مدى قدرة شبان سديروت الذين كثيرا ما يخافون الضوضاء العالية على المشاركة في الجيش، وهو طقس إلزامي لمعظم اليهود الإسرائيليين.
وتقول دفورا بيتون إنها كلّما خرجت في السيارة، فإنها تخطط لطريق يمر عبر أي من العشرات من الملاجئ المنتشرة في جميع أنحاء المدينة. وتبقي نافذة السيارة مفتوحة دائما، ويظل مستوى الصوت في الراديو منخفضا وتحرص على ملء صندوق السيارة بالبضائع المعلبة. ويفزعها أي صوت حتى لو كان مجرد انفجار بالون. وتابعت “إنه شيء تفكر فيه لمدة 24 ساعة في اليوم. لا يمكنك الهروب منه حتى وأنت نائم”.
وقبل خمسة عشر عاما، قبل وجود القبة الحديدية، سقط صاروخ خارج منزل العائلة تاركا شظية معدنية مثبتة في بابه الأمامي. وتركت بيتون الشظية في الباب لسنوات، ولم تجد القوة لإزالتها إلا مؤخرا أثناء تجديد المنزل. وقالت “أردت أن أتركها هناك لتذكيرنا بأننا نعيش في واقع غير صحي. ومن ناحية أخرى، هناك شعور بأنك تريد التحرر من هذه الأشياء”.
العرب