ترجع الفترة الذهبية في العلاقات بين بغداد وباريس، إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. حينذاك كان صدام حسين نائباً للرئيس أحمد حسن البكر، وجاك شيراك رئيساً للوزراء خلال رئاسة فاليري جيسكار ديستان. وحين يستعيد الفرنسيون ذكريات تلك الفترة، فإنهم يتوقفون عند حفلة سمك “المسكوف” التي أقامها صدام تكريماً لصديقه شيراك في إحدى حدائق بلدية باريس. وأصبحت تلك الحفلة مضرب المثل على العلاقات الحميمة بين فرنسا والعراق، والتي شهدت محطات مهمة منها بناء “مفاعل تموز” النووي الذي دمرته إسرائيل عام 1981، وتزويد العراق بأحدث الأسلحة خلال الحرب مع إيران (حرب الخليج الأولى 1980 ـ 1988)، بل إن شيراك أفشل في عام 2002 قراراً لمجلس الأمن الدولي، أراده الرئيس الأميركي جورج بوش الابن أن يشكل تغطية أممية للحرب على العراق.
المؤتمر يسجل بداية لنهاية مرحلة العزلة والحصار السياسي المديد التي عاشها العراق
حرارة جديدة تسري ببطء في علاقات باريس مع بغداد، بعد أن طوى العراق صفحة الحرب على “داعش”، وزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بغداد يوم الجمعة الماضي، هي الثانية خلال أقل من عام، حين زار العاصمة العراقية في سبتمبر/أيلول من العام الماضي قادماً من بيروت. ورغم اختلاف الظروف والمعطيات بين الأمس واليوم، حملت الزيارتان عنواناً واحداً هو دعم سيادة العراق، في فترة يشهد فيها هذا البلد تحولات داخلية، ويطمح إلى لعب دور إقليمي ودولي. وجاءت هذه الزيارة للمشاركة في “مؤتمر التعاون والشراكة” الإقليمي الذي استضافته العاصمة العراقية أول من أمس السبت، وشاركت فيه كل من تركيا وإيران والأردن والكويت ومصر وقطر والإمارات والسعودية وفرنسا، وممثلون عن الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، فضلاً عن الجامعة العربية ومنظمات دولية. وهذا المؤتمر هو الأول من نوعه الذي ينظمه العراق منذ حرب الخليج الأولى، ولم يسبق لبغداد طيلة عدة عقود أن جمعت على أرضها هذا العدد من قادة وممثلي دول الإقليم في لقاء واحد، ومن أجل هدف “حشد الدعم الإقليمي والدولي من أجل العراق، بهدف تعزيز استقراره وازدهاره، ودعم الجهود المتواصلة التي يبذلها لمواجهة التحديات الضخمة على الصعيدين الأمني والاقتصادي، فضلاً عن سعيه لخفض مستوى التوتر بالمنطقة”، حسب توصيف مصدر إعلامي عراقي.
جاء المؤتمر في وضع صعب واستثنائي تعيشه المنطقة والعالم عموماً والعراق خصوصاً، ولقيت دعوة الحكومة العراقية تجاوباً رغم السقف العالي للطموح، الذي يأمل بآلية لحل المشاكل وتقريب وجهات النظر وتخفيف حدة الصراع الإقليمي. ويحاول العراق الاستفادة من علاقاته خارجياً، للبحث عن نقاط التقاء بين الفرقاء في المنطقة، وصولاً إلى معالجة أغلب المشاكل من خلال وضع خريطة طريق متفق عليها لحل الخلافات، وفقاً للمصالح المشتركة لجميع الدول، ويساعده في ذلك موقعه الجغرافي الذي يشكل عامل استقطاب واهتمام دولي، يخدمه في لعب ورقة التقارب وتخفيف الأزمات وحدة التوتر، ولا سيما بين الدول الجارة، ومنها إيران والسعودية.
والنتيجة التي لا تقبل الجدل هي أن المؤتمر يسجل بداية لنهاية مرحلة العزلة والحصار السياسي المديد التي عاشها العراق، بسبب تداعيات غزو الكويت وما تلاه من حروب. ومجرد تنظيم الاجتماع يشكل دعماً لمساعي بغداد للعب دور أساسي في الإقليم وعلى المستوى الدولي، ولا يتوقع المراقبون تحقيق اختراق في المحادثات الإيرانية السعودية أو الأزمات الإقليمية في لبنان واليمن. ومع ذلك، يلاحظ دبلوماسي أجنبي حقيقة أن “انعقاد المؤتمر والمشاركة على هذا المستوى العالي هو النجاح”، في حين كان ذلك أمراً متعذراً في سياق التوترات الإقليمية، وتعثر المفاوضات في فيينا حول إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
ومن دون شك فإن العراق يحظى بدعم أساسي من فرنسا كدولة ذات ثقل سياسي واقتصادي، ولها حضورها الخاص في العالم العربي، وتنسق تحركها في المنطقة مع الولايات المتحدة. وليس مصادفة أن يكون أول الواصلين إلى بغداد هو الرئيس الفرنسي الذي حط في العاصمة العراقية قبل انعقاد المؤتمر، وأمضى ليلته في بغداد التي سبقت أعمال الاجتماع الاقليمي، وهذا دليل حماس ودعم للمؤتمر من جهة، ومن جهة ثانية يعبر عن خصوصية العلاقات الفرنسية العراقية، التي بدأت تستعيد الدفء تدريجياً في الأعوام الأخيرة من خلال مشاركة فرنسا في الحرب ضد “داعش” إلى جانب الولايات المتحدة. واغتنم ماكرون فرصة زيارته الثانية إلى العراق ليجري مباحثات رسمية مع الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ويعقد اتفاقات تعاون في مجالات الطاقة والكهرباء والنفط. وأوضح قصر الإليزيه أن الرئيس ماكرون، أراد أن “يظهر أن فرنسا تحتفظ بدور في المنطقة، وتواصل مكافحة الإرهاب، وتدعم جهود الوساطة في العراق، كبلد محوري، وضروري لاستقرار الشرق الأوسط”.
تقارير عربية
الاهتمام الفرنسي المتصاعد بكردستان: مناكفة تركيا في العراق
اهتمام فرنسا بالعراق لا يضاهيه اهتمام أي دولة غربية أخرى، ففي حين أن الرئيس الفرنسي زار بغداد مرتين خلال عام واحد، لم يزر أي مسؤول غربي رفيع المستوى العراق خلال السنوات الماضية، باستثناء الرؤساء الأميركيين ونوابهم، والذين كانوا يذهبون قصد تفقد القوات الأميركية العاملة هناك، كما حصل خلال زيارة الرئيس السابق دونالد ترامب في ديسمبر/كانون الأول 2018، والتي لم يلتق خلالها أي مسؤول عراقي، وعلى ذات المنوال جاءت زيارة نائبه مايك بنس في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. ومن بين المسؤولين الأجانب لم يقصد العراق سوى البابا فرنسيس الذي قام بجولة لعدة مناطق في العراق في مارس/آذار الماضي، ووزير خارجية بريطانيا دومينيك راب في يونيو/حزيران الماضي، وهذا يدل على أن التاريخ المشترك ما بين باريس وبغداد لا يزال حياً، ولم تطمسه الحروب التي شهدها العراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي تسبب بها الغزو العراقي للكويت في أغسطس/آب 1990.
ماكرون أراد أن يظهر أن فرنسا تحتفظ بدور في المنطقة
وقبل ذلك كانت العلاقات العراقية الفرنسية في الصدارة، وقامت منذ أوائل السبعينيات على قاعدة تحقيق توازن يجنب العراق الارتهان إلى أحد القطبين السوفييتي والأميركي، وربطت العراق وفرنسا علاقات اقتصادية وعسكرية نافست في حجمها تلك التي ربطته بالاتحاد السوفييتي. وعكس ذلك نفسه في بيان دعوة الكاظمي لماكرون، بقوله “فرنسا شريك حقيقي للعراق، وإن الدولتين ترتبطان بتاريخ طويل من العلاقات البنّاءة، التي نسعى إلى تطويرها في مختلف المجالات”. وبدوره عبر الرئيس الفرنسي عن دعم فرنسا الكامل للعراق، وللكاظمي في النهج الذي يتبعه، وإجراءات تعزيز مؤسسات الدولة العراقية، وأشاد أيضاً بالدبلوماسية العراقية المتوازنة، التي يقودها رئيس مجلس الوزراء العراقي، وإسهامها في ترسيخ أسس السلم والاستقرار. ولذلك تلعب باريس دوراً أساسياً في دعم الوساطة التي يقوم بها العراق بين إيران والسعودية، في الوقت الذي تنظر فيه إيران والسعودية بارتياح إلى مواكبة فرنسا لمباحثات الوساطة، فهي قريبة من طهران التي تعول عليها في المفاوضات النووية، وحليف استراتيجي للسعودية.
كما أن فرنسا في صلب مشروع التعاون الثلاثي بين العراق ومصر والأردن، الذي بدأ بمبادرة من العراق قبل أكثر من عام، وأطلق عليه الكاظمي في حينه “الشرق الجديد”. ويشكل حضور باريس قوة دفع في وجه التحديات المحلية والإقليمية التي يواجهها العراق، وهي تتلخص بالفساد والإرهاب والتدخلات الإيرانية في شؤونه الداخلية. ومن هنا يأتي انعقاد المؤتمر الإقليمي، والحضور والمشاركة فيه، واللقاءات التي انعقدت خلاله، بمثابة دعم للعراق قبيل استحقاق محلي مهم هو الانتخابات التشريعية المبكرة في 10 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، في ظل دعوات المقاطعة من طرف قوى سياسية وازنة مثل التيار الصدري و”المنبر العراقي” بزعامة إياد علاوي، و”جبهة الحوار الوطني” بزعامة صالح المطلك. والتحدي المنتظر هو تركيبة البرلمان المقبل، وما إذا كان سيأتي على هوى الكاظمي وتوجهاته لاستعادة الدولة العراقية من سطوة المليشيات المنضوية داخل “الحشد الشعبي”، والتي تتحكم طهران بقرارها. ولا تقل عن ذلك أهمية التطورات المترتبة على زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى واشنطن في نهاية يوليو/تموز الماضي، ويبرز هنا على نحو خاص ملء الفراغ الذي سوف يتركه انسحاب القوات الأميركية في نهاية العام الحالي، والطرف المؤهل لذلك هو فرنسا التي شاركت بصورة أساسية في الحرب ضد “داعش” في العراق، ورغم أن قواتها غادرته، فإنها باقية وتتمدد عبر الدبلوماسية والاقتصاد.
العربي الجديد