لم يكن عبدالحميد الدبيبة رئيس “حكومة الوحدة الوطنية الليبية” بناقص قواه العقلية عندما اتهم تونس بتصدير الإرهاب إلى ليبيا. فهو نفسه بالكاد أفلت من بين أصابع منظمات الإرهاب الليبية وما يزال من الممكن أن يكون ضحية لها في أي وقت. بل إن اشتباكاتها الأخيرة في طرابلس أعادت تذكيره بما كان يتعين عليه أن يعقله.
ولكنه أعاد تعريف نفسه عندما هاجم تونس بلغة “ثوار ليبيا”.
الدبيبة أراد فقط أن يُبعد عن نفسه أشباح الإرهاب الداخلية ليحمي نفسه منها. فلو أنه اعترف بوجود تنظيمات إرهابية في بلاده، فإنه يعرف ماذا ستكون العاقبة. وبما أن تونس بلد لا يشكل تهديدات شخصية لأي أحد، فإن إلصاق تهمة الإرهاب بها يمكن أن يمر من دون عواقب خشنة.
مع ذلك فقد أتقن الدبيبة قول شيء والتنصل منه، في دلالة على أنه صار يجلس على مقعده جيدا. فتلك مهارة لا يملكها إلا الراسخون في الكرسي.
اتهم الدبيبة تونس بأنها هي مصدر الإرهاب في بلاده، حتى لكأنها أرسلت مرتزقة، أو حتى لكأن لها تنظيمات ثوار مسلحة تتبع أجندات خاصة بها، أو لكأن لها ميليشيات تتصارع على السلطة، أو لكأن جماعة الجماعة الخاصة بليبيا عاجزة عن تفريخ مسلحين يتسللون منها، بما حملوا من أسلحة، إلى داعش والقاعدة.
تاريخ ليبيا مع الإرهاب فصلُ فضيحة اندلع منذ أن حاول الفرع المصراتي للجماعة أن يستولي على ليبيا. ومنه اتسعت ثقافة أن تكون لكل عشيرة عصابة، ولكل عصابة ثورة، حتى غمرت البلاد بالفوضى.
آخر ما يحتاجه الدبيبة كرئيس لحكومة وحدة وطنية أن يضع “تجمع قادة ثوار” خلف ظهره. أو أن يتبنى لغتهم وأساليبهم. فهي لغة شوارع تعلمها الثوار في حروب الشوارع. وأساليبها ليست مما يقيم بلدا على قدميه
ما كان يحسن بالدبيبة أن ينبري للدفاع عن هذا التاريخ بنكرانه. وما كان له أن يلقي بأحماله على ظهر تونس. فهذا بلد لا تاريخ له مع الإرهاب، إلا بعدما قعد الفرع ذو الوجهين للجماعة مقعد النفوذ والتفشي.
وليس مما يغرب على أحد أن لهذا الفرع إخوانا في كل مكان. يتداعون له إذا ما ضاقت عليه الأحوال، أو فقد نفوذه. فكان القول إن هناك 100 مسلح موجودين في قاعدة الوطية التي يسيطر عليها الأب الروحي للجماعة بكل إخوانها، مستعدون لشن هجمات في تونس انتقاما لما خسره أقرانهم. وكان من الطبيعي لتونس أن تخشى، وهي الجريحة، من طعنات جديدة يوجهها الإرهاب لاقتصادها المنهك. مجرد الإشاعة تثير الخوف في تونس. فكيف إذا كان لها ما يثبتها من ذئاب تريد أن تملي على تونس ما عجز الأخ الأكبر أن يمليه بنفسه.
كل هذا والدبيبة يعرف أنه إذا فشل في أن ينجز استحقاقات حكومته، فلأن الجماعة لم ترض على ما يضطر على الأخذ به.
ولم يبق من عمر حكومته إلا نحو ثلاثة أشهر، لتجري انتخابات تعيد بناء السلطة وأسسها في ليبيا، إلا أن الذين لا يريدون لهذه الانتخابات أن تُجرى، هم أنفسهم الذين يريدون لقاعدة الوطية أن تحكمهم، فتهدد بذئابها من شاءت أن تهدد.
لم يرض الرئيس قيس سعيد أن يعقد اجتماعا بالرئيس رجب طيب أردوغان برعاية وسيط المنافع المتبادلة الرئيس عبدالمجيد تبون. على الأقل حتى ينجز الأسس التي يمكنها أن تمضي بتونس في طريق خارج دائرة الفوضى وثقافة الميليشيات السياسية التي هيمنت على البرلمان.
ولكنه يستقبل الدبيبة، احتراما لقواعد الجيرة، ولروابط جعلت من تونس رئة للهواء النقي، إذا أراد الليبيون أن يتنفسوه خارج بلادهم.
ولقد كان من مفاعيل ذلك الهواء النقي، أن انعقد ملتقى الحوار السياسي في تونس، وهو الملتقى الذي أسفر في النهاية عن اختيار الدبيبة رئيسا للحكومة.
خلل واحد، من طبيعة التلوث الإخواني، هو الذي دفع هذا الملتقى لكي يتم اجتماعاته في جنيف. حيث صار سعر الصوت يتراوح بين 200 و300 ألف دولار لكل مندوب ينحاز إلى مرشحي العصابة.
والمال فائض بين يدي أركان العصابة الذين رعوا سباقات الكواليس من وراء ظهر الرعاية الرسمية.
الرئيس سعيد كان يرى ما يحصل. ولعله كان يضرب كفا بكف ويردد “لا حول ولا قوة إلا بالله” عما انتهت إليه وسائل العصابة من تشويهات، وحبائل مؤامرة، ليس ضد ليبيا وحدها، وإنما ضد تونس. ذلك لأن وجود امتداد ميليشياوي مسلح لامتداد ميليشياوي غير مسلح لا يجعلهما إلا جيشا عقائديا واحدا يحارب في البلدين معا، بل وفي أي مكان.
لقد كان من الملفت أن يهاجم الدبيبة تونس باللغة نفسها التي استخدمها “قادة تجمع ثوار ليبيا”.
هذا التجمع الميليشياوي المسلح، ليس سوى تنظيم لتنظيمات يعشعش فيها ما يعشعش. وهم “ثوار” قطعا، إلى درجة يمكنها أن تقلب حياة المواطنين في طرابلس جحيما إذا اختلف “القادة” على توزيع المؤن أو المنافع.
ولكن، وقبل أن تلاحظ في جمع المذكر السالم ما تجدر ملاحظته، فقد وجه الدبيبة سؤالا مثيرا، ومهما فعلا.
قال “بعض الدول الجارة اتهمتنا بأننا إرهابيون.. لكن العشرة آلاف إرهابي الذين دخلوا بلادنا من أين أتوا؟”.
أما الجواب فيعرفه “الثوار” أنفسهم ذلك لأن لهم أخوة، ثوار أيضا، في تونس ظلوا يوصلون لهم المدد، بكل ما مدد، لنحو عشر سنوات.
الدبيبة يعرف ذلك. ولكنه يحكم ليبيا بما يفترض أن يكون عقلية رجل دولة لا عقلية رجل جماعة في الدولة.
آخر ما يحتاجه الدبيبة كرئيس لحكومة وحدة وطنية أن يضع “تجمع قادة ثوار” خلف ظهره. أو أن يتبنى لغتهم وأساليبهم. فهي لغة شوارع تعلمها الثوار في حروب الشوارع. وأساليبها ليست مما يقيم بلدا على قدميه.
يكفي لرئيس الحكومة الليبية أن ينظر إلى ما تحت قدميه. وسيرى أن “الثوار” كالمغناطيس يجذب بعضه بعضا. سوف يرى أن ليبيا إذا كانت تحتاج أن تعود لتكون دولة، فإنها تحتاج إلى رجال دولة.
تملك ليبيا الكثير من ثوار التطرف الميليشياوي، والقليل من رجال الدولة. وخيار الدبيبة الأمثل، هو أن يجرهم إليه، لا أن يجروه إليهم فتعود “الوحدة الوطنية” التي يقود حكومتها لتسقط من جديد.
ولكنه ما يزال لا يمتلك الجرأة. ما يزال يتخاطب مع تونس بلغة “الثوار”، ليقول “بعض الدول الجارة اتهمتنا بأننا إرهابيون”، ونسي أنه رئيس حكومة، وأن أحدا لم يتهمه قطعا، ولكنه جمع نفسه مع ما لا يصح أن يُجمع به، فأعاد تعريف نفسه.
العرب