ملخص:
ليس ثمة شك في أن موسكو حققت نصرًا تكتيكيًّا في انخراطها المباشر والمفاجيء في سوريا، ولكن من المبكر، والمبكر جدًّا، الحكم على مآلات هذه الخطوة الروسية وأثرها على الأزمة السورية وعلى موقع روسيا ودورها في العالم.
تضافرت جملة من الدوافع، الاسترتيجية والآنية، على السواء، في جعل الانخراط الروسي المتزايد في الأزمة السورية أوسع بكثير من هدف محاربة تنظيم الدولة، الذي رفعته موسكو عنوانًا رئيسًا لعملياتها في سوريا عند انطلاق هذه العمليات.
مقدمة
بعد عدة أسابيع من بدء عملية نقل هادئة وبطيئة للعتاد والجنود إلى قاعدة حميميم السورية في منطقة اللاذقية، بدأت الطائرات الحربية الروسية في 30 سبتمبر/أيلول غاراتها في شمال وشمال البلاد الغربي. تقارير صحفية واستخباراتية، إضافة إلى شهود عيان، أكَّدت أن أغلب هذه الغارات استهدف مواقع المعارضة السورية المسلحة، وليس تنظيم الدولة الإسلامية كما أعلنت موسكو. ولم تستبعد مصادر روسية انخراط متطوعين روس، سيما أولئك الذين قاتلوا في شرق أوكرانيا، في القتال إلى جانب قوات النظام السوري.
بالرغم من أن روسيا ظلَّت منذ اندلاع الثورة السورية في 2011 المصدر الرئيس لتسليح نظام بشار الأسد، وأن خبراء روسيين تواجدوا طوال الوقت في سوريا، فليس ثمة شك في أن انخراط روسيا المباشر في القتال، حتى إن ظل على مستوى سلاح الجو، يعتبر تصعيدًا نوعيًّا في التدخل الروسي في الأزمة السورية. وقد أثار هذا التصعيد ردود فعل واسعة النطاق، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. فلماذا اتخذت موسكو هذه الخطوة؟ وما هي الاحتمالات التي تواجه مثل هذا التدخل، والمخاطر التي قد يتركها على دائرة الصراع المحتدم على سوريا؟ ما هي الآليات التي تمتلكها الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة، المؤيِّدة للثورة السورية، للرد على الخطوة الروسية؟ وإلى أي حدٍّ يمكن للتدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية التأثير على ميزان القوى بين النظام ومعارضيه؟
الدوافع الروسية
يجب عدم النظر إلى هذا التصعيد في الانخراط الروسي في الأزمة السورية باعتباره خطوة متعجلة وغير مفكَّر فيها. هذا قرار دُرِس بعناية في موسكو، وربما بدأ العمل عليه منذ مايو/أيار الماضي على الأقل، وبالتفاهم مع إيران، الحليف الرئيس الآخر لنظام بشار الأسد. ولذا، فلابد أن يُنظر إلى الدوافع الروسية خلف هذه الخطوة من زاويتين، زاوية تفصيلية، تتعلق بتطورات الصراع على سوريا، وزاوية استراتيجية تتعلق بتصور روسيا لدورها وموقعها في الساحة الدولية.
من جهة الدوافع التفصيلية لمجريات الصراع، اتخذت موسكو قرار الانخراط المباشر في سوريا مدفوعة بلا شك بالانهيارات المتسارعة في الوضع العسكري لنظام الأسد، التي أصبحت أكثر وضوحًا منذ بداية هذا العام (2015). فرض الثوار السوريون تراجعات ملموسة على النظام في الجبهتين الجنوبية والشمالية على السواء، بينما استمرت تراجعات القوات السورية أمام تنظيم الدولة الإسلامية في شرق البلاد. أصبح الثوار في الجنوب على حدود محافظة السويداء المضطربة، بينما دخلت مجموعات مسلحة من الثوار بالفعل إلى مشارف ريف اللاذقية في الشمال، بعد أن حرَّرت كل محافظة إدلب وجزءًا كبيرًا من محافظة حلب، وأحرزت تقدمًا ملموسًا في ريفي حمص وحماة. وبدا واضحًا، بالرغم من الدعم البشري الذي يوفره حزب الله وميليشيات شيعية أخرى، والمساندة العسكرية النوعية التي يقدمها مستشارون عسكريون إيرانيون، أن النظام لم يعد قادرًا على الحفاظ على خطوط دفاعه، وأن كلًّا من محيط دمشق الريفي وشمال المنطقة العلوية الساحلية بات مهددًا.
مشكلة النظام العسكرية الرئيسية على الأرجح لا تتعلق بالمعدات والذخائر، بل بعجزه المتزايد عن توفير العنصر البشري المدرَّب جيدًا لرفد قواته المسلحة، المنهكة والمتآكلة. كما أن الخبرات القتالية المتراكمة لمجموعات الثوار السوريين والدعم التسليحي الجيد نسبيًّا، الذي وصلهم خلال هذا العام، جعلها أكثر قدرة على مواجهة تفوق النظام المطلق في الجو، بحيث انحصرت نتائج هذا التفوق في المجازر التي تُوقِعها طائرات النظام في صفوف المدنيين أكثر من أثرها الفعَّال في جبهات القتال.
بيد أن التدخل الروسي لم يأتِ لمجرد انقاذ النظام من التراجعات المستمرة والمخاطر التي باتت تهدد وجوده وحسب، بل ضمن إطار وحسابات استراتيجية روسية أوسع أيضًا. فمنذ الأزمة الجورجية في 2008، على الأقل، وبعد أن استطاع بوتين إعادة التماسك السياسي والاقتصادي للدولة الروسية، اعتبرت موسكو أن من حقها أن تكون شريكًا، ولو ثانيًا، في القرار الدولي. في المقابل، لم تقم الولايات المتحدة، لا في سنوات إدارة بوش الابن الأخيرة، ولا طوال السنوات السبع الماضية من إدارة أوباما، بالاعتراف لروسيا بمثل هذا الدور. وسواء فيما يتعلق بنشر الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ في أوروبا، أو في الأزمة الأوكرانية، بدا أن الغرب يزحف بلا هوادة إلى الحدود الروسية، بدون اكتراث يُذكر باحتجاجات موسكو. وما إن أقدمت روسيا على ضم القرم وتشجيع المقاطعات الأوكرانية الشرقية على التمرد، بعد الإطاحة بالنظام الموالي لروسيا في كييف، حتى فرضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية عقوبات اقتصادية ومالية على روسيا كأنها ليست أكثر من دولة مارقة على النظام الدولي. ولا يخفى أن العقوبات الغربية، التي جاءت في فترة تراجع حادٍّ في أسعار النفط، تركت أثرًا بالغًا على الاقتصاد والمالية العامة الروسية.
بهذا المعنى وفَّرت الأزمة السورية فرصة لتوكيد دور روسيا على المستوى الدولي، في مواجهة تجاهل واستخفاف غربيين، وردًّا على ما تراه موسكو حصارًا غربيًّا استراتيجيًّا واقتصاديًّا. وحتى من الناحية الاستراتيجية المجردة، وبغضِّ النظر عن العلاقات الروسية-الغربية المتوترة، تحتفظ موسكو بقاعدة بحرية عسكرية في طرطوس، هي القاعدة الوحيدة للروس في حوض المتوسط، ومركز تنصت تجسسي رئيسي في جبال اللاذقية، هو الوحيد في الشرق الأوسط. وتعتقد موسكو أن انهيار النظام في دمشق، أو الإطاحة به في صفقة سياسية لا دور لروسيا فيها، سيؤدي بالضرورة إلى خسارة قاعدة طرطوس البحرية ومركز التنصت في اللاذقية.
إضافة إلى ذلك، تنظر موسكو إلى سوريا ضمن إطار أوسع من الصراع الأيديولوجي على مستقبل العالم. وربما توفر الكلمة التي ألقاها بوتين في الجمعية العامة يوم 28 سبتمبر/أيلول 2015 نافذة على وجهة النظر الروسية هذه. في كلمته، وجَّه بوتين نقدًا حادًّا ولاذعًا للولايات المتحدة، والقوى الغربية بصورة عامة، لإصرارها على نشر نموذجها الديمقراطي عبر العالم، وما تسبب به هذا التوجه الغربي من عدم استقرار وتصاعد للإرهاب، مشيرًا بصورة خاصة إلى العراق وليبيا، ومستبطنًا بلا شك أوكرانيا. ولم يتردد بوتين في تشبيه هذا التوجه بالسياسات الأيديولوجية العقيمة التي اتبعها الاتحاد السوفيتي. يؤمن بوتين، كما ظهر واضحًا في روسيا ذاتها منذ تولَّى قيادتها، إيمانًا مطلقًا بأن الاستقرار والأمن يرتبطان بقوة الدولة وبقائها، وأن الإطاحة بالدولة، مهما كانت النوايا خيِّرة، لن تؤدي إلا إلى فقدان الاستقرار والفوضى وسفك الدماء.
وبعد أن فرض الغرب على روسيا تراجعات كبرى في هذا المجال، منذ انهيار الكتلة الشرقية إلى انهيار النظام الموالي لموسكو في أوكرانيا، يجد بوتين في الأزمة السورية فرصة للوقوف أمام الاندفاعة الغربية الديمقراطية. ولا يتعلق قلق روسيا اليوم بمستقبل سوريا وحسب، بل وأن تستمر الاندفاعة الغربية الديمقراطية بلا رادع نحو وسط آسيا، التي لا تقل ديكتاتورياتها عن نظام الأسد.
طبيعة التصعيد الروسي وأهدافه
جملة هذه الدوافع، الاسترتيجية والآنية، على السواء، هي ما يجعل الانخراط الروسي المتزايد في الأزمة السورية أوسع بكثير من هدف محاربة تنظيم الدولة، الذي رفعته موسكو عنوانًا رئيسًا لعملياتها في سوريا عند انطلاق هذه العمليات.
خلال الأسبوع الأول من العمليات، ارتفع معدل الغارات الروسية من حوالي العشرين إلى أكثر من ستين غارة جوية في اليوم، تركزت أغلبيتها العظمى على مواقع الثوار السوريين من كافة المجموعات، في مناطق ريف اللاذقية وحماة وحمص وحلب، ومدينة حلب ذاتها. وربما لم تزد الغارات على مواقع تنظيم الدولة على 5 بالمئة فقط من مجموع الغارات الجوية. مثل هذا المعدل للغارات لا يمكن استمراره بدون توفر أقل من ثمانين طائرة؛ بل إن هناك تقارير تُقدِّر عدد الطائرات الروسية في قاعدة اللاذقية بأكثر من هذا، بما في ذلك طائرات سوخوي وميغ حديثة، لم تبعها روسيا بعدُ لأية دولة أخرى. كما نقل الروس إلى قاعدة اللاذقية وجوارها عشرات من الدبابات الحديثة، بما في ذلك ت 90، الأحدث في الترسانة المدرعة الروسية. ولكن الأهم، أن التواجد الروسي يضم أيضًا بطاريات مضادة للطائرات، وطائرات اعتراضية. وبالنظر إلى أن الثوار السوريين لا يتمتعون بأي تواجد جوي، فالواضح أن الهدف من مضادات الطائرات والطائرات الاعتراضية ردع القوى الإقليمية والدولية المؤيدة للثوار السوريين.
أكَّد المسؤولون الروس، كما تضمن قرار البرلمان الروسي الذي وفَّر الغطاء التشريعي للعمليات في سوريا، على أن التدخل الروسي العسكري سيقتصر على سلاح الجو ولا يتضمن دعمًا بريًّا لقوات النظام. وكانت النيويورك تايمز نشرت في 6 أكتوبر/تشرين الأول، تصريحًا لرئيس لجنة القوات المسلحة في البرلمان الروسي، لم يستبعد فيه وفود متطوعين روس على سوريا، من عسكريين سابقين، مثل المتطوعين الذين نشطوا في المقاطعات الأوكرانية الشرقية. ولكن هذا التصريح، حتى إن تحوَّل إلى واقع ملموس، لا يعني أن روسيا ستُلقي بثقل عسكري بري في سوريا. على الأقل هذا ما يبدو عليه الوضع في الأسبوع الأول من العمليات. وبالنظر إلى الذاكرة الروسية في أفغانستان، وإلى أن ميزان القوى في سوريا أكثر اختلالًا لصالح الثوار مما كان عليه الوضع في أفغانستان 1979، فإن أية خطوة للتدخل البري لن تجد دعمًا من الرأي العام الروسي.
على أن الحروب -كما هو معروف- ليست شأنًا عقلانيًّا بحتًا، يمكن حسابه دائمًا بدقة مسبقة. ولذا، فإن أخفقت العمليات الجوية الروسية في إيقاع تغيير إيجابي ملموس لمصلحة النظام، فلا يمكن استبعاد اتساع نطاق التورط الروسي كلية.
عمومًا، سيعتمد مدى وزمن العمليات الروسية في سوريا على حقيقة الهدف من الانخراط الروسي المباشر في الأزمة. إذ ليس من الواضح بعد ما إن كان هدف موسكو الحفاظ على النظام وسيطرته، وتأمين هذه السيطرة، ضمن دائرة وجود النظام الحالية في محيط دمشق والساحل العلوي وحمص وحماة؛ أو أن الهدف مساعدة النظام على استرداد سيادته الكاملة على كافة الأراضي السورية؛ أو حتى إيجاد مناخ وميزان قوى مُواتٍ لحل سياسي. كما أن اتضاح حقيقة الهدف الروسي من العمليات، هذا إن قامت موسكو بالإفصاح عن هذا الهدف فعلًا، سيحدد أيضًا طبيعة ردِّ فعل القوى الإقليمية والدولية المؤيدة للثورة السورية، التي أعربت عن معارضتها للتدخل الروسي.
الآثار الإقليمية والدولية للتصعيد الروسي
الواضح، بالرغم من أن عملية نقل المعدات والجنود والاستعدادات العسكرية جرت تحت نظر أقمار الرقابة الأميركية، أن الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، كما القوى الإقليمية المؤيدة للثورة السورية، مثل تركيا والسعودية وقطر، فوجئت بحجم التواجد الروسي العسكري في قاعدة اللاذقية ونوعيته، كما في الانطلاقة السريعة للعمليات الجوية، مباشرة بعد اكتمال الاستعدادات العسكرية الضرورية، وانعكست هذه المفاجأة بالضرورة على ردود الفعل الإقليمية والدولية المختلفة.
من الجهة القانونية الدولية، تمتَّع التدخل الروسي بغطاء قانوني، تمثَّل في طلب دمشق الرسمي من موسكو المساندة العسكرية، سيما أن نظام دمشق لم يزل معتَرَفًا به دوليًّا وهو الممثِّل لسوريا في المنظمات الدولية. الغطاء القانوني لا يعني بالطبع غطاءً أخلاقيًّا؛ ولكن بوتين لم يُظهر، لا في سوريا ولا في غيرها من الأزمات، أي اكتراث جاد بالغطاء الأخلاقي، على أية حال. وسارع الروس من بدء العمليات، عبر اختراقين متتاليين للأجواء التركية، بإرسال رسالة ضمنية للقوى الإقليمية وحلف الناتو، على السواء، بعزمهم الإقدام على المزيد من التصعيد إن تطلب الأمر.
جاءت ردود الفعل الدولية والإقليمية خلال الأسبوع الأول من العمليات الروسية مرتبكة ولم ترتقِ إلى مستوى التحدي. كل الدول الغربية تقريبًا، إضافة إلى تركيا وقطر والسعودية، أبدت دهشتها من الانخراط الروسي العسكري المباشر في سوريا، ومعارضتها له؛ وأعرب جميعها عن شجبه لاستهداف مجموعات الثوار السوريين من غير تنظيم الدولة، إضافة إلى الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين السوريين جرَّاء الغارات الجوية الروسية. وفي 2 أكتوبر/تشرين الأول، أصدرت سبع دول (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وتركيا، والسعودية، وقطر) بيانًا مشتركًا ضد التدخل الروسي. في اليوم نفسه، صدر عن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تصريح ذو جانبين؛ فمن جهة أكَّد على أن واشنطن لن تلجأ إلى استخدام سوريا ساحة حرب بالوكالة مع روسيا، ومن جهة أخرى قال: إن سوريا ستتحول إلى مستنقع للروس.
ولكن، ومهما كانت طبيعة التصريحات، فإن المواقف الغربية والإقليمية لم ترتقِ بعد إلى مستوى الرد الملموس على الخطوة الروسية. الاتفاق الأميركي-الروسي حول التنسيق العسكري في أجواء سوريا، بهدف تجنُّب وقوع اشتباك بين الطائرات الروسية وطائرات الدول المتحالفة ضد تنظيم الدولة، قد لا يمثِّل نهاية الطريق للموقفين الأميركي والإقليمي. وتبدو احتمالات الاحتكاك في سماء، باتت مزدحمة بالطائرات، وكأنها ليست أكثر من جانب صغير وهامشي لعواقب الخطوة الروسية في سوريا.
والحقيقة، أن الولايات المتحدة ومنذ بداية الأزمة، لم تُبدِ اكتراثًا جادًّا بمصير سوريا، وقاومت ضغوط حلفائها في الجوار السوري لمزيد من التدخل. ولكن الانخراط الروسي العسكري المباشر يرفع من مستوى الرهانات، وقد يجعل من سوريا بؤرة تحد روسي لدعوة واشنطن وحلفائها الإقليميين إلى حلٍّ في سوريا لا يشمل بشار الأسد. وبالنظر إلى أن الأزمة السورية هي الآن في منتصف سنتها الخامسة، فإن أسبوعًا واحدًا من العلميات الروسية واضطراب ردود الفعل الغربية والإقليمية ليس سوى زمن قصير جدًّا للحكم على مآلات الأحداث. ففي حال قررت الولايات المتحدة وتركيا والسعودية وقطر خوض مواجهة مع الروس في سوريا، فليس ثمة شك أن باستطاعتها إفشال بوتين أو جرَّه إلى معركة استنزاف طويلة.
مثل هذه المواجهة يمكن أن تُنجَز على مستويين:
الأول: يتمثَّل في توفير دعم عسكري متزايد ومستمر لمجموعات الثوار على مستوى السلاح التقليدي، الذي أتاهم طوال العامين الماضيين. وربما كانت المعركة الناجحة التي خاضها الثوار في ريف حماة صباح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وأوقعت خسائر فادحة في قوات النظام المهاجمة، مثالًا على ما يعنيه توفر مضادات الدبابات والرشاشات الثقيلة لمجموعات الثوار. فبالرغم من المساندة الجوية الروسية طوال المعركة، فشلت قوات النظام في تحقيق أي تقدم وسرعان ما أُجبرت على التراجع.
أمَّا المستوى الثاني، فيتعلق بتقديم صواريخ مضادة للطائرات للثوار السوريين من قبل الدول الداعمة، تهدد فعالية سلاح الجو الروسي، وتدفع الصراع إلى مستويات عالية وغير مسبوقة. ولابد من التذكر دائمًا أن تورطًا روسيًّا واسعًا وطويلًا في سوريا سيشكِّل عبئًا معنويًّا واقتصاديًّا هائلًا على رئاسة بوتين، المثقلة بالأعباء أصلًا.
هذا لا يعني بالطبع أن التصعيد في التدخل الروسي في سوريا لم يجد مؤيدين؛ فإلى جانب التأييد المتوقَّع من إيران وحزب الله، والتأييد الخفي من العراق، أبدت القاهرة تأييدًا خجولًا للخطوة الروسية، ولوحظ غياب الإمارات والأردن عن بيان الدول السبع المندِّد بالتدخل الروسي، بالرغم من أن الإمارات والأردن عضوتان في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة. كما لوحظ أن الجامعة العربية أحجمت عن عقد اجتماع لمناقشة الخطوة الروسية، حتى بعد أن تكرر طلب التحالف الوطني السوري المعارض عقد مثل هذا الاجتماع؛ مما يعني أن الخلافات العربية حول تطورات الأزمة السورية تتجاوز مواقف الأردن والإمارات والعراق ومصر.
الموقف الإسرائيلي ليس بعيدًا عن تأييد الخطوة الروسية. يُقدِّر الإسرائيليون التزام نظام الأسد التاريخي بالحفاظ على هدوء جبهة الجولان منذ نهاية حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. وبالرغم من أن دمشق شكَّلت إزعاجًا ملموسًا للإسرائيليين لبعض الوقت، في مرحلة دعم مقاومة حزب الله وقوى المقاومة الفلسطينية، يعتقد الإسرائيليون أن النظام قد ضعف إلى درجة كبيرة، تمنعه من أن يعود للعب مثل هذا الدور في المدى المتوسط. ولذا، فإن بقاء النظام من وجهة نظر الإسرائيليين أفضل بكثير من تحول سوريا إلى ساحة لنشاطات مجموعات إسلامية وغير إسلامية مسلحة، لا تكترث كثيرًا بالتزامات الدول. وليس ثمة شك في أن الانطباعات التي تركتها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لموسكو، والسرعة التي تم بها عقد لقاء التنسيق العسكري بين الجنرالات الإسرائيليين والروس، وتوكيد بوتين في خطاب الجمعية العامة على مصالح الدولة العبرية في سوريا، تشير جميعًا إلى توافق روسي-إسرائيلي حول الدور الذي باتت موسكو تلعبه في الأزمة السورية.
آفاق الأزمة السورية بعد التدخل الروسي المباشر
ليس ثمة شك أن موسكو حققت نصرًا تكتيكيًّا بانخراطها المباشر والمفاجئ في سوريا، ولكن من المبكر، والمبكر جدًّا، الحكم على مآلات هذه الخطوة الروسية وأثرها على الأزمة السورية وعلى موقع روسيا ودورها في العالم.
إن نجحت روسيا في تغيير موازين القوة في سوريا وأجبرت الدول المؤيدة للثورة السورية على التفاوض على حلٍّ سياسي أقرب إلى وجهة النظر الروسية والإيرانية، فسيكون لهذه الخطوة أثر ملموس على تغيير طبيعة التعامل الأميركي والغربي مع روسيا، ليس في الشرق الأوسط وحسب، بل وفي أزمات أخرى في العالم. ولكن النجاح الروسي يتطلب جملة واسعة من الشروط، ليس أقلها تسليم واشنطن وأنقرة والرياض بأن لروسيا الحق في التدخل في سوريا وبالطريقة التي تراها مناسبة. ما تراه الولايات المتحدة أمامها، حتى مع كون روسيا قوة نووية كبرى، أن روسيا دولة في وضع اقتصادي بالغ السوء، بإمكانات تكنولوجية من الدرجة الثانية، تعاني من تناقص مستمر في تعدادها السكاني. وستحتاج روسيا إلى الكثير قبل أن تُقِرَّ لها واشنطن بدور الشريك في النظام الدولي.
بصورة عامة، وعلى المستوى المباشر للأزمة السورية، ثمة احتمالان رئيسيان لمآلات الانخراط الروسي العسكري في سوريا:
الأول: أن تساعد هذه الخطوة على الإسراع في مسار الحل السياسي. بمعنى أن تصل أطراف الأزمة الدولية والإقليمية إلى قناعة بأن قواعد اللعبة في سوريا قد تغيرت وأن اللجوء إلى مواجهة التدخل الروسي بتصعيد الدعم للثوار السوريين لن يأتي بنتيجة وسيزيد من معاناة الشعب السوري ومن معدلات اللجوء من سوريا إلى دول الجوار وأوروبا. ومن جهة أخرى، يمكن أن يتطور الموقف الروسي نحو التخلي عن هدف استمرار بشار الأسد في الحكم، سيما إنْ رأى الروس أن وجودهم العسكري الملموس سيضمن استمرار وتماسك ما تبقى من مؤسسات الدولة السورية والإتيان بقيادة بديلة لمجموعة الأسد، تحافظ على العلاقات مع موسكو والمصالح الروسية في سوريا. في هاتين الحالتين، يُتوقَّع أن تنعقد مجموعة الاتصال حول سوريا قريبًا، وربما تصبح قناة التوصل إلى حلٍّ توافقي للأزمة.
الاحتمال الثاني: أن تصب الخطوة الروسية في اتجاه المزيد من تعقيد الأزمة، وتصاعد حدَّة الصراع؛ سيما إنْ قررت الدول الداعمة للثورة السورية، أو حتى بعض هذه الدول أن زمن الحل السياسي لم يأتِ بعد وأن من الضروري إفشال التدخل الروسي-الإيراني قبل التفكير في طبيعة الحل الممكن للأزمة. في هذه الحالة، سترتفع حدَّة الصراع إلى مستويات جديدة، وتصبح سوريا عرضة لمزيد من الدمار والخسائر البشرية، ويشهد الجوار السوري موجات لجوء سوري جديدة وكبيرة. ولكن ثمة ما هو أكثر فداحة وأخطر؛ إذ ليس من المستبعد أن تتسع ساحة الصراع لتشمل العراق أيضًا، وأن تزداد احتمالات الصدام الروسي-التركي. ومن المؤكد أن تتزايد معدلات تدفق المقاتلين الإسلاميين من غير السوريين على سوريا، وأن تستطيع جماعات مثل تنظيم الدولة وجبهة النصرة تعزيز قوتها ونفوذها.
ومهما كان الاتجاه الذي ستتخذه الأزمة فمن الواضح أن مشروع إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، الذي تبنَّته تركيا بأكثر من صيغة في الشهور القليلة الماضية، أصبح غير ممكن عمليًّا بدون صدام مسلح مع الطيران الروسي. في المقابل، على المستوى الميداني، ومهما بلغ عدد الغارات الجوية يوميًّا، من المستبعد أن تحقق العمليات الروسية انقلابًا سريعًا في ميزان القوى. فالحقيقة، أن النظام حافظ على تفوق دائم في الجو، منذ بداية النزاع المسلح في سوريا، بدون أن يستطيع توظيف هذا التفوق في إيقاع الهزيمة بمجموعات الثوار. بدون تواجد عسكري فعَّال على الأرض، لن يستطيع الطيران الروسي سوى الحفاظ على مواقع النظام الحالية ومنع المزيد من تقدم جماعات المعارضة السورية.
على مستوى الرأي العام، تحولت روسيا بتدخلها المباشر في سوريا إلى هدف لكراهية القطاع الأكبر من الشعوب العربية والإسلامية، وباتت تُرى اليوم من عموم العرب والمسلمين، وبصورة تفوق حتى حقبة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، باعتبارها قوة إمبريالية، تقف ضد خيارات الشعوب وإرادتها. وسواء كان لمشاعر الكراهية هذه انعكاسات ملموسة على أرض الواقع أم لا، فقد يمر زمن طويل قبل أن تستطيع موسكو محو هذه الصورة السلبية.
الأثر الأخطر للخطوة الروسية، والذي لا يبدو أن إدارة بوتين تحسَّبت لتداعياته، أن الدعم السافر الذي قدمته الكنيسة الأرثوذكسية للرئيس الروسي وسياسته، وما صدر عن الكنيسة من توصيف الحرب في سوريا باعتبارها حربًا مقدسة، يهدِّد بزرع الكراهية والانقسام في صفوف عرب المشرق. الأكثرية العربية المسيحية، كما هو معروف، تنتمي للكنيسة الأرثوذكسية، وبالرغم من حوادث احتكاك وتوتر نادرة بين العرب المسلمين ومواطنيهم الأرثوذكس، فإن علاقات التعايش والمواطنة بين الطرفين ظلَّت عميقة ومتماسكة. اليوم، وفي حال تعقد الصراع وتكرر دعم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لحرب بوتين في سوريا، فإن العلاقات الإسلامية-الأرثوذكسية ستتعرض لمحنة كبيرة.
مثَّل التدخل الروسي المباشر في سوريا نجاحًا تكتيكيًّا، لكنه يواجه عقبات كبيرة، تحول دون تحويله إلى نجاح استراتيجي، بل قد تجعله حرب استنزاف تقضي على النتيجة السياسية المتوخاة.