من بغداد إلى دمشق وبيروت فصنعاء تنتشر نُصّب وصور الخميني وخامنئي وقاسم سليماني وغيرهم، وكلهم زعماء إيرانيون لا صلة لهم بالأمة العربية، بل هنالك ألف شاهد وشاهد على أن أيديهم ملطخة بدمائنا، ومعاولهم هدمت الكثير من مدننا، وتلاعبت أفكارهم المعطوبة بنسيجنا الاجتماعي، وفرضت أذرعهم سيطرتها على كل مناحي الحياة في بلداننا.
ولا تمر ذكرى وصولهم إلى السلطة أو وفاة هذا ومقتل ذاك، إلا وكانت ساحات هذه الحواضر العربية مليئة بالشعارات الإيرانية، وحناجر الميليشيات المصنوعة في طهران تهتف لها معظّمة زعاماتها السياسية، ومجددة العهد بالالتزام بما يأمرونهم به من قتل وتدمير وتغييب واستباحة.
ولأن الصفة السياسية والعباءة الدينية للزعامات الإيرانية، هما وجهان لعملة واحدة منذ وصولهم إلى السلطة عام 1979، فإن أتباع وذيول ودمى وعملاء طهران في بلداننا العربية، باتوا ملتزمين بكل ما يصرح به حاضنوهم هناك، لأن التصريحات السياسية هي فتاوى دينية، من خلال انعكاس الديني على السياسي، والفتاوى الدينية هي ممارسات سياسية، من خلال انعكاس السياسي على الديني. بمعنى أن التخادم ما بين الدين والسياسة في إيران هو سلوك يومي، لذلك نجد شعار «الموت لأمريكا» مصطلح مطاط تفرضه متطلبات المرحلة، حيث خفت ولم نعد نسمع له وقعا إبان الاتفاق النووي عام 2015. كما أن شعار «الموت لإسرائيل» مصطلح زئبقي ترتفع النبرة فيه عندما تريد طهران ابتزاز الولايات المتحدة والغرب. ولأن الرقص على الحبل الواصل ما بين الدين والسياسة يتطلب إضفاء نوع من القداسة، فلا بد من جعل الراقصين عليه بعمامة مثل، خميني وخامنئي، أو بأضعف الإيمان يحظون بمباركة أصحاب العمامة، مع إضفاء كم هائل من صفة البطولة عليهم، مثل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني.
أما المرحلة الثانية في صناعة الأيقونات الإيرانية فهي، التسويق والتصدير. وتعتمد هذه النقطة على عاملين رئيسيين: العامل الأول هو إسقاط الزعامة العربية. والعامل الثاني هو التبني لقضايا الأمة العربية. أما إسقاط الزعامات العربية فيتأتى من التنظير بأن الحدود الوطنية لا وجود شرعي لها في المنطقة، وأن الدول العربية كيانات مصطنعة أوجدها المستعمرون. كما يستحضرون في هذه النقطة بالذات موضوع أن الإسلام دين عابر للقوميات، كي يسقط اليقين الذي يتمسك به الناس من أن لديهم هوية وطنية، يتبعها وجود رمز عربي. وبالتالي يحاولون إرسال رسالة تقول إن الولاء لطهران ليس فيه عمالة، لذلك وجدنا زعيم حزب الله اللبناني حسن نصرالله يقول بكل وضوح، إن كل التمويل والتدريب والتسليح يأتيه من طهران. كما لا تخفي الميليشيات العراقية الدعم الذي تتلقاه من المصدر نفسه، ويعلنون يوميا بأن ولاءهم للولي الفقيه مصدر فخر، إلى الحد أن أحد زعمائها أجاب على سؤال بأنه سيقاتل مع إيران في حال قررت مهاجمة بلده العراق. وهذا هو حال ميليشيات الحوثي في اليمن والميليشيات في سوريا. وبذلك لو سألت أيا من هؤلاء عن تعريفهم للبنان أو العراق أو اليمن أو سوريا، لا يستطيع الإجابة، فهم يؤمنون بأن هذه البلدان العربية جزء من ولاية الفقيه، لأن الجغرافيا والأيديولوجيا، وكل التفاصيل الأخرى مختلفة لديهم عن باقي اللبنانيين والعراقيين والسوريين واليمنيين.
تبني قضايا الأمة من قبل الزعامات في طهران، عملية استثمار سياسي الهدف منها خلق قدرة إيرانية على التأثير في الوطن العربي
أما تبني قضايا الأمة من قبل الزعامات في طهران، فإنه لا ياتي بصيغة حشد الطاقات والإمكانات الإيرانية مع الطاقات العربية من أجل صيغة ردع وتحرير، بل هي عملية استثمار سياسي الهدف منها خلق قدرة إيرانية على التأثير في الوطن العربي، لذلك عندما تدعم طرفا ما في موضوع القضية الفلسطينية، على سبيل المثال، فإنها تروم إدارة واستغلال النتائج المترتبة من ذاك الدعم، على المدعوم أولا، وثانيا استغلال النتائج ضد موقف القوى الإقليمية والدولية في موضوع مصالحها معهم. وهنا ستصبح الزعامة الإيرانية هي الحاضرة في المشهد العربي، ويظهر المدعومون من فوقهم وعن أيمانهم وشمائلهم صور هؤلاء، وعندها ينزوي الرمز السياسي العربي، أو يختفي تماما، خاصة أن الوطن العربي يعيش أزمة قيادة. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الشخصية الشرقية، ومنها الشخصية العربية، تشكل الرمزية فيها عنصرا مهما يحدد ملامحها وطبيعة استقرارها ويؤثر في صناعة سلوكها، إلى الحد أن غياب أو سقوط الرمز يؤدي إلى سقوط الدولة أو تهلهل أركانها، فإنه يصبح لدينا فهم واضح عن الدوافع الإيرانية في صناعة وتصدير زعاماتها، وجعلهم أيقونات لنا، لذلك نجد ورش التفكير الإيراني تعمل ليل نهار على خلق حالة التقديس لرموزهم، ونشر المفاهيم والممارسات الطائفية النابعة من تقاليدهم، وإشاعة حالة من التبعية والاغتراب في مجتمعاتنا، بهدف هز ركائز الهوية الفكرية والثقافية العربية، ثم الانتقال إلى خلق حالة من الاختلاف على مفهوم الهوية الوطنية والزعامة الوطنية. كما انتهجت أسلوب الحط من رموزنا التاريخية والفكرية، وتصويرهم على أنهم كانوا شخوصا جدلية غير متفق عليهم، إضافة إلى التركيز والتذكير باستمرار بأن البلدان العربية كانت جزءا من الامبراطورية الفارسية، وأن حواضر العرب كانت محطات ومراكز ثقافية تزخر بالثقافة الفارسية، لكنها تعرضت للتجريف بسبب خروجها من التاج الفارسي، وأن عودة الروح لهذه العواصم مرتبط بولاية الفقيه، والخضوع إلى رموزهم السياسية ـ الدينية.
إن المُسلّمات الإيرانية التي تجعلها في وضع ممتاز، من وجهة نظر صانع القرار في طهران، هي استقرار ووحدة الأرض الداخلية، واستمرارية النظام الحالي. كما يتطلب أيضا القدرة على التأثير في منطقة بحر قزوين والخليج العربي وبحر العرب، والسيطرة على المضائق، خاصة مضيقي هرمز وباب المندب، والوصول إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان، يضاف إلى ذلك كله عدم قيام نظام خارج عن سيطرتها في العراق، لأنه البوابة التي تحد من أطماعها القومية والتاريخية، ولو بحثا في التاريخ الإيراني نجد أن هذه المسلمات هي نفسها كانت في عقلية صانع القرار الإيراني قبل 400 سنة قبل الميلاد، بل إن هذا التطابق في المسلمات بين العهد السياسي الحالي، والعهد في ذلك التاريخ، يأتي حتى في الوسائل المستخدمة في تنفيذ هذه المسلمات. ففي عام 400 قبل الميلاد كان صانع القرار الإيراني آنذاك قد شكّل فيلقا عسكريا من المنهزمين والأسرى لجيوش البلدان المهزومة سمّاها فرقة «الخالدون» نظيرها في عام 1981 فيلق بدر العراقي، الذي قاتل مع الإيرانيين في الحرب العراقية الإيرانية حتى عام 1988. كما لها نظير آخر اليوم وهي الميليشيات التي صنعتها والمنتشرة في المنطقة تحت عنوان محور المقاومة.
نحن أمام صناعة وتسويق وتصدير زعماء ورموز سياسية ودينية إيرانية، لزعزعة اليقين الذي يعتصم به الناس، من أن أمتهم قادرة على إنتاج زعامات ورموز وطنية خاصة بهم، تستطيع امتصاص الرجّات الكبرى في المجتمع، وتضع الحلول الناجعة لها، ولديها القدرة على التصدي للتهديدات الخارجية من خلال بناء مشروعها الخاص الذي يلبي الحاجات المستقبلية للأمة.
القدس العربي