لأن القصة لا علاقة لها باستراتيجية متماسكة أو حتى واضحة، ولأن السلاح يُستخدم لمزيج من أغراض الدعاية السياسية على حساب منازل الذين لم يفهموا “شو القصة”، فإن عنتريات حركة حماس ومن لف لفها في غزة، ليست سوى “فورة قهوة” تهب ثم تنطفئ، ثم تدفع القضية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، في أرضه وفي منفاه، كل الثمن.
قوات الاحتلال الإسرائيلي هدمت أخيرا منزلا في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية واعتقلت أفراد العائلة والمتضامنين معهم. والسؤال الذي لا بد أن يكون شاغل الناس هو: أين ذهبت صواريخ حماس؟ وما الذي حل بمزاعمها الصاخبة؟
يوم اندلعت المواجهة الأخيرة بين حماس وإسرائيل، بين الثالث عشر من أبريل والحادي والعشرين من مايو من العام الماضي، كانت القدس في قلب المعمعة، وحي الشيح جراح بالذات.
الكل يعرف كيف اندلقت فورة القهوة، وعلى رؤوس مَنْ. ولكن ها هو منزل آخر يُهدم. ولا تتشرد الأسرة التي تقيم فيه فحسب، بل إنها ذهبت إلى السجن فوق ذلك.
ماذا يتعين القول إذن للذين تباهوا بصواريخهم العابرة للمستوطنات؟ ماذا يتعين القول لقادة حركات مسلحة لم تضبط ساعتها على مواعيد كفاحية مُلزمة؟ وماذا يمكن القول للذين إذا فارت فورتهم خذلوا شعبهم بالهدنة، ثم إذا انطفأت خذلوا شعبهم بالعجز عن المقاومة؟
المسألة ليست، في النهاية، مسألة خسائر وتضحيات. الفلسطينيون اعتادوا أن يقدموها، من دون حساب، ولا أي اعتبارات، وببلاش في معظم الأحيان، وما من أحد يسأل عما تقدم. والكل يمضي تحت راية واحدة: ودّع شهيدك وامض قدما.
لا تنقص الفلسطينيين القدرة على الثورة. وظل بوسعهم أن ينتفضوا لسنوات، لا لأسبوع أو أسبوعين، ولا لشهر أو شهرين. وأطفالهم ظلوا أقوى من دبابات الاحتلال، بما حملوا من حجارة
الدم الفلسطيني ليس رخيصا. وكلما تعلق الأمر بمواجهة الاحتلال، كان مجانيا إلى حد العجب. لا أحد يسأل عما تقدم ولا عما تأخر، لأن الشهادة هي المكسب. هذه هي الثقافة الفلسطينية العامة، ولكنها وقعت تحت سنابك من لا ضمير حيّا لهم. فكل ما دأبوا على فعله هو أنهم قرروا المقاومة على نحو ما يفعل الهمج، من دون دراية، ولا استمرارية ولا منهج مدروس، فانتهوا إلى جعلها مجرد دعاية سياسية، أو تجارة على حساب دم مجاني؛ دم استرخصوه من دون حياء، ولا إدراك لثقل المسؤولية.
عقار محمود صالحية في حي الشيخ جراح يتألف من منزلين ومنشأة تجارية وقطعة أرض، قررت البلدية الإسرائيلية مصادرتها لإقامة مدرسة خاصة. وبعد أن ظل الصراع من أجل المحافظة عليه قائما بين المحاكم لـ23 سنة، فها هو يُهدم.
هذا العقار يبعد عدة أمتار عن فندق “شبرد” الذي تم هدمه عام 2011 وبنيت على أنقاضه 28 وحدة استيطانية. وبينما تنفذ جمعية “عطيرت كوهنيم” الاستيطانية مخططا لتحويل “قصر المفتي” البالغة مساحته 500 متر إلى كنيس، فإن البلدية الإسرائيلية تريد تحويل الأرض الملحقة بالقصر وتدعى “كرم المفتي” والتي تبلغ مساحتها 25 دونما إلى حديقة عامة.
هذه هي كل فلسطين. والذين باعوا ضمائرهم في التجارة باسمها، وباسم “المقاومة”، يتعين عليهم الآن أن يقولوا كيف جاز لهم أن يتنازلوا بالصمت عن جعل المقاومة مقاومة. أما كان جديرا بقادة تلك المقاومة الزائفة أن يُدفنوا هم تحت أنقاض ذلك المنزل، بدلا من أن يجدوا أنفسهم لا يعرفون ماذا يفعلون؟
فلسطين هي كل شبر منها. والقدس هي كل ذرة تراب فيها. ما لم تكن الأمور كذلك، فمن الخزي ألا تعرف ماذا تفعل.
المقاومة ليست فورة قهوة، ولا تظاهرة غضب، ولا شعارات تطلق من أجل شفاء النفس العاجزة بالتعويض الكلامي عما يضيع من الأرض.
المقاومة التي تنطفئ بين حين وحين، من الخير أن تصمت نهائيا. بل من الخير أن تخرس، ريثما يعثر الفلسطينيون على بديل قادر على الدفاع عن الأرض، من دون توقف ولا انقطاع ولا هدنة ولا حتى مفاوضات.
المقاومة ما لم تكن قادرة على أن تستمر وتتصاعد وتقلب الأرض من تحت أقدام المحتلين، كل يوم، وكل ساعة، وإلى يوم ينتهي الاحتلال، فإنها كلام فارغ، يحسن بالذين يبيعون ويشترون فيه أن يكفوا عن الفلسطينيين شرهم وشر تجارتهم البائسة.
الدم الفلسطيني ليس رخيصا. وكلما تعلق الأمر بمواجهة الاحتلال، كان مجانيا إلى حد العجب. لا أحد يسأل عما تقدم ولا عما تأخر، لأن الشهادة هي المكسب
لا تنقص الفلسطينيين القدرة على الثورة. وظل بوسعهم أن ينتفضوا لسنوات، لا لأسبوع أو أسبوعين، ولا لشهر أو شهرين. وأطفالهم ظلوا أقوى من دبابات الاحتلال، بما حملوا من حجارة.
ولم تخذلهم القدرة على الاستمرار، بل خذلتهم منظمات المقاومة الزائفة. خذلهم محمود عباس بأن باع واشترى اتفاقات لا تنفذ. فظل يرعى التزامات ينفذها هو من جانب واحد، لخدمة مشروعه الأمني مع إسرائيل.
انظر إلى عالم اليوم. انظر إلى الأثر الذي يمكن أن يتركه الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، انظر إلى الهزة التي يمكن أن ترتعد لها فرائص إسرائيل من داخلها بالذات على أعمال القمع الوحشي المتوقعة، التي يرفضها إسرائيليون كثر. واسأل نفسك من بعد ذلك، لماذا لا تُحرك منظمات الخيانة الوطنية دوافع الثورة؟ لماذا لا يستنهضون شعبهم لكي يستنطق الحجارة من جديد لعشر سنوات أو عشرين متواصلة؟
بصواريخ أم دونها، المقاومة مشروع لا يأخذ استراحة. والمقاومون لا يأخذون إجازة للذهاب لا تعرف إلى أين، من أجل بيع الكلام التافه عن “إنهاء الانقسام” في ما بينهم، ومن أجل توقيع اتفاقات لا تساوي قيمتها قيمة ما يتمسحون به. وهم عادة ما يتمسحون بها في آخر المطاف، كما ظلوا يفعلون منذ العام 2007 إلى يوم الناس هذا. داروا بالممسحة ما يعادل قطر الكرة الأرضية أربع مرات، بين بلد وبلد، وظلت الممسحة ممسحة.
وما هم إلا خونة. يرفعون شعارات لا يصدقونها هم أنفسهم، ولا يعملون بها، ولا يملكون لها استراتيجية راسخة. وإذا قالوا إنهم يعرفون ماذا يريدون، فإنهم لا يعرفون السبيل إليه. “علاك مصدّي” لزعماء كان من الأولى أن يشتغلوا بتجارة أخرى لا تكلف الناس أرضا ودما.
أفهل نسي الناس ما ظلوا يزعمون أيام اندلعت المواجهات الأخيرة؟ ألم يجعلوا القدس خطا أحمر؟ فكيف مسحوه؟
ولكم كان من الخير، في ذلك الحين، أن تُستنهض الثورة. ما كانت غزة بحاجة إلى عنتريات حماس ولا إلى صواريخها، لكي يشارك أهلها مع أهالي الضفة الغربية والقدس وأراضي 48 في الانتفاضة ضد الاحتلال وانتهاكاته.
ولكن “ركوة” الصواريخ التي فارت، إنما اكتفت بما هدمت. حتى إذا ما عاد الأوان ليستدعي الثورة، فانه لم يجد في الموعد أحدا.
ذهبوا إلى الجزائر ليستأنفوا فصلا جديدا من فصول المهزلة.
العرب