يبدو أن الرئيس التونسي قيس سعيد قد خالف المثل الروسي القائل “إذا أردت أن تصل إلى هدفك بسرعة فامش ببطء”، ذلك أن الرجل ذا الإيقاع الرتيب الذي يظهره حرصه على احترام قواعد اللغة العربية في خطاباته، قد تسرّع في إجراءاته وقراراته إلى درجة أنه حاد عن أهدافه وبدا مشتتا في نظر منتقديه.
أما مساندوه فيأخذون عليه البطء الشديد في تخليص البلاد من الفاسدين والاحتكاريين وتجار الدين كما وعد منذ الخامس والعشرين من يوليو الماضي، اليوم الذي جمد فيه البرلمان وأقال الحكومة المحسوبة على حركة النهضة.. لا بل ظهرت تلك الوعود منذ حملته في الانتخابات الرئاسية سنة 2019.
الذين يصفون قيس سعيد بالتسرع يستندون إلى وقائع يقول منتقدوها إنها اتسمت بالارتباك والعشوائية مما زاد المشهد ضبابية، فكل يوم يصحو وينام التونسي على قرار ارتجالي زاد من التشويش عما يريد سعيد قوله، حتى أن الصحافة الساخرة قد وصفت مسانديه والمدافعين عن إجراءاته بـ”هيئة مفسري خطابات قيس سعيد”، وذلك لكثرة الغموض الذي يغلف كلامه.
◙ أما كان الأجدر بالرئيس التونسي أن يستهلك شيئا من رصيده الشعبي في إقناع شعبه بضرورة الإصلاحات الاقتصادية
غريب أن ينقسم داعمو قيس سعيد إلى فريقين متناقضين: الأول يأخذ عليه التباطؤ في حسم أمره مع خصومه السياسيين، والثاني يعاتبه على هذا التسرع الذي من شأنه أن يوقعه في المزيد من الأخطاء فيجعله فريسة سهلة أمام المتربصين به – وهم عدد غير قليل – في الداخل والخارج.
محللون يوردون سردية مفادها أن الرئيس التونسي قد مثل جملة من التناقضات يصعب فهمها في توجهاته وتحالفاته السياسية، مما أوقع المحيطين به في صراعات وتجاذبات أدت إلى استقالة العديد منهم، وكان أبرزهم نادية عكاشة المكلفة بمهام مديرة الديوان الرئاسي، بعد أن كانت لمدة سنتين من أهم الشخصيات الفاعلة في دائرة صنع القرار.
كل هذا من شأنه طبعا أن يهدد شعبية قيس سعيد التي لا يختلف فيها تونسيان، لكن ما هو جوهر هذه الشعبية، وما هي خلفياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية في بلد متقلب المزاج السياسي، ولا يعتبر إلا بالنتائج المعيشية والأمنية بدرجة أولى؟
دخل سعيد دائرة الاهتمام من بوابة رجل القانون النزيه والذي يدلي بدلوه في القضايا الدستورية بمنتهى الشجاعة والاستقلالية، وبلغة فصيحة هدارة أثارت إعجاب التونسيين على وسائل الإعلام، مما جعل معارضيه يصفونه بـ”الظاهرة الإعلامية الصوتية”.
وبمساعدة وتشجيع ثلة من محبيه وطلابه السابقين، ولج سعيد المسرح السياسي أعزل دون حزب أو أي سند سياسي أو لوبي مالي، متسلحا برصيد محترم من المساندة الشعبية في زمن انتكاسة الأحزاب، والنقمة عليها بعد أن جربها الشعب التونسي ووجدها لا تغني ولا تسمن من جوع.
هكذا سبقت المساندة الشعبية الرجل وأوصلته إلى سدة الرئاسة في واقعة قل نظيرها، لكن هذا الرصيد قابل للاستهلاك السريع، وهو الأمر الذي قد يغيب عن ذهن سعيد الذي يشهد له بالصدق والاستقامة.. وليس بالبراعة واستمالة عواطف التونسيين كما هو الحال بالنسبة إلى سلفه الراحل الباجي قائد السبسي، رفيق الزعيم الحبيب بورقيبة وأحد رواد مدرسته في البراغماتية السياسية.
يبدو أن سعيد لم يجد من بين مستشاريه من يقول له: هذه الشعبية وحدها لا تكفي يا سيادة الرئيس، أضف إليها الكثير من الحنكة والاقتدار واختيار البرامج والمخططات الاقتصادية والاجتماعية الناجحة.
وبالفعل، أوشكت الحالة الشعبية أن تستهلك نفسها بنفسها في ظل غياب أو تأخر ظهور البرامج الإصلاحية، ذلك أن الإصلاح لا يعني الوعد بالإصلاح.
الجماهير العريضة تنتظر حزمة من الحلول الناجعة يستشفها المواطن من تحسن في قوته اليومي وليس من محسنات بلاغية تطرب لها الآذان قليلا ثم سرعان ما تملها فيبدأ التململ حينها ويضمحل الرصيد الشعبي ويستحيل إلى بعبع شعبوي.
كيف للرئيس التونسي أن يشرح لشعبه معضلة تضخم كتلة الأجور مثلا، وشروط القوى المانحة وإملاءات صندوق النقد الدولي مع قلة الموارد الطبيعية التي تعيشها البلاد؟ أضف إلى ذلك شبح كورونا والوضع الاقتصادي العالمي، بالإضافة إلى القوى المعطلة محليا وخارجيا في الاقتصاد الموازي واللوبيات المتحكمة.
◙ الذين يصفون قيس سعيد بالتسرع يستندون إلى وقائع يقول منتقدوها إنها اتسمت بالارتباك والعشوائية مما زاد المشهد ضبابية
كيف لك أن تحافظ على شعبيتك وأنت واقعي العمل والتحليل.. أمر يصعب تنفيذه في بلد عربي مثل تونس وقد ذاقت طعم الحريات وودعت عصر الاستبداد بالرأي وقمع المعارضات وإسكاتها.
هي معادلة يصعب تحقيقها إذن، وإن كتب لها التحقق فستكون على شكل نوع من الشعبوية الكاذبة، كما كان الحال لدى دولة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
الرصيد الشعبي لدى قيس سعيد كبير، لكنه قابل للاندثار بحكم طبيعته الاستهلاكية، والسياسي الناجح هو ذاك الذي يخفي رصيده الشعبي لأيام الصعوبات والأزمات فيستخدمه لفرض الواقع وإقناع شعبه بضرورة شد الحزام وإبراز الهمة في حالات الضيق.
وهنا يتساءل مراقبون: أما كان الأجدر بالرئيس التونسي أن يستهلك شيئا من رصيده الشعبي في إقناع شعبه بضرورة الإصلاحات الاقتصادية كالخصخصة وغيرها بدل ما صنف في خانة الشعبويات كمنصة الاستشارات الشعبية التي أطلقها قيس سعيد، وانتقدتها هيئة الانتخابات التي تقول بأنها هي المخولة بتحديد تاريخ الانتخابات وفق الدستور، بعد الاتفاق مع الأحزاب أو مع السلطة التنفيذية؟
العرب