خلال خطاب كان منتظراً بفارغ الصبر في البيت الأبيض وعواصم الحلف الأطلسي وعلى نطاق العالم بأسره، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعتراف موسكو الرسمي باستقلال دونيتسك ولوغانسك، وهما منطقتان في شرق أوكرانيا اختارتا الانفصال عن دولة أوكرانيا سنة 2014 على خلفية الثورة التي أطاحت بالرئيس الأسبق يانوكوفيتش ولم تعترف باستقلالهما أي دولة منذئذ.
ورغم أن اتفاقية مينسك لعام 2014 بين الحكومة المركزية الأوكرانية والانفصاليين منحت المنطقتين صفة قانونية خاصة تكفل بعض حقوق السكان ولكنها تنص على بقاء دونيتسك ولوغانسك ضمن المتحد الأوكراني، فإن روسيا لم تتوقف عملياً عن توطيد نفوذها في المنطقتين، وخاصة عن طريق منح الجنسية الروسية لقرابة 700 ألف مواطن. وهنالك العديد من العوامل التاريخية واللغوية والثقافية والدينية التي تربط بين روسيا وأوكرانيا عموماً وهاتين المنطقتين خصوصاً، ولم يكن غريباً بالتالي أن يجنح بوتين إلى دغدغة مشاعر المواطنين الروس عن طريق استحضار رموز قيصرية مثل كاترينا الثانية ملكة روسيا، ورموز سوفييتية مثل لينين وستالين، وصولاً إلى الكنيسة الأرثوذكسية والرابطة المسيحية.
خطوة الاعتراف الروسية تنتهك الشرعة الدولية عموماً في المقام الأول، لأن الوضع القانوني للمنطقتين حسمته بنود اتفاقية مينسك، وكان من الممكن البناء عليها لتطوير اتفاقية مينسك-2 على سبيل المثال، إذا كانت الضرورة الملحة تقتضي ذلك على صعيد صيانة حقوق المواطنين الناطقين بالروسية في دونيتسك ولوغانسك. لكن الخطوة ذاتها لا تقتصر على هذا الانتهاك، لأنها في المحصلة تسلخ عن الجسم الأوكراني أراضي واقعة تحت السيادة الوطنية من جهة، كما أنها تفتح البوابات عريضة من أجل بسط النفوذ الروسي رسمياً، ابتداء من نشر قوات روسية بحجة اتفاقيات الدفاع المشترك وليس انتهاء بفرض الروبل كعملة وطنية.
وإذا صح أن قرار بوتين لا يشكل اجتياحاً عسكرياً لأوكرانيا على الطراز الذي كانت الولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي تتحسب له، فإن التقارير التي أشارت إلى بدء توغل وحدات عسكرية روسية في المنطقتين المواليتين إنما تؤكد ابتداء تنويع أول على ذلك الاجتياح المرتقب، كما تقوم بتثبيت عناصر جديدة ضمن معادلة الحضور العسكري الروسي في قلب أوكرانيا هذه المرة وليس على حدودها مع روسيا فقط. ولن يكون عسيراً على الكرملين أن يستغل أي مناوشات عسكرية بين الانفصاليين والجيش الأوكراني لاتخاذها ذريعة تبرر اللجوء إلى عمليات عسكرية أوسع.
وخطوة بوتين بصدد أوكرانيا ليست الأولى في منهاج التمدد الخارجي الذي طبع شخصيته منذ سنة 1999، فقد تدخل في كوسوفو وفي بلاد الشيشان ذلك العام، ثم في جورجيا سنة 2008، وجزيرة القرم سنة 2014، وسوريا سنة 2015. وبات واضحاً أن حفظ مصالح روسيا القومية ليست وحدها الهدف الفعلي خلف سياسات بوتين هذه، بل تترافق معها أو تسبقها أحياناً مطامع قيصرية وإمبراطورية وانحيازات دينية تسير غالباً على حساب حقوق الشعوب ضحية التدخلات، هذا بمعزل عن أضرار التوظيف الخارجي لميليشيات مرتزقة فاغنر التي تحظى برعاية بوتين شخصياً.
وبين الإمبراطورة كاترين والقيصر بوتين يظل مصير أوكرانيا معلقاً على خطوة تنويع الكرملين التالية.
القدس العربي