عاد الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط على وقع الحرب الروسية على أوكرانيا وما تسببت به من أزماتٍ عالمية في الطاقة والمواد الغذائية، وعلى وقع تعثّر العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وما يعنيه من رفع العقوبات عنها وعودتها إلى أسواق الطاقة العالمية، وكذلك تصاعد النفوذين الروسي والصيني في المنطقة، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية الأميركية الداخلية من تضخم بلغ 10%، وارتفاع سعر البنزين، ومديونية أميركية ضخمة وصلت إلى 30 ألف مليار دولار، وقبيل الانتخابات النصفية في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. كانت استراتيجية الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ أوباما ثم ترامب وحتى بايدن، تتجه نحو تركيز الاهتمام بالصعود الاقتصادي للصين، وتقليص حجم وجودها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وآسيا الوسطى؛ تجلت في قرارات الانسحاب من العراق وأفغانستان، ولم تكن واشنطن في قيادة حلف الناتو المتدخل في ليبيا، وعدم اكتراثها بسورية، وتقليص حجم وجودها العسكري فيها شرقاً، والسكوت عن مطامح إيران التوسّعية في المنطقة ومليشياتها، وعن اعتداءاتها المتكرّرة على المنشآت المدنية للحلفاء في السعودية والإمارات، وعلى منشآت الطاقة والسفن، وهذا مخالفٌ للاتفاقيات الأمنية التي تلزم واشنطن بحماية أمن حلفائها في الخليج العربي.
بدت الإدارة الأميركية مكبّلة بتصريحات بايدن السابقة وشعارات حملته الانتخابية، التي جاءت حينها على النقيض من سياسات ترامب؛ وهي مثقلةٌ بالضغوط الإسرائيلية التي دفعتها إلى العودة إلى تبنّي سياسات ترامب؛ بالتخطيط لاستمرار التطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي، وعلى حساب الفلسطينيين، عبر دمج إسرائيل في النسق الأمني للمنطقة مرحلة أولى. فشل بايدن في العودة إلى إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وكان انسحابه من أفغانستان دراماتيكياً وغير مسؤول، ويؤلمه رفض السعودية طلبه بزيادة إنتاج النفط؛ وهو في جولته في الشرق الأوسط، أراد تبييض ماء الوجه بإنجازات جديدة، تصبّ في صالح شعاره الانتخابي “عودة أميركا” دولة عظمى وصاحبة النفوذ الأكبر في الشرق الأوسط، ولتعزيز فرص الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية المقبلة قبل نهاية العام.
وحملت جولة بايدن في المنطقة مغزىً مهماً لإسرائيل، عبر “إعلان القدس”، وهو تأكيد المؤكّد، أي استمرار الدعم العسكري للكيان الصهيوني، والالتزام بأمنه أولوية، وأخذ المبادرات الإسرائيلية على محمل الجدّ، سواء تلك المتعلقة بناتو شرق أوسطي، أو إدماج إسرائيل ضمن سوق اقتصادي للمنطقة، ما يعني الاعتراف بالكيان الصهيوني على نطاق عربي واسع. هذا جلّ تصريحات بايدن في محطته الثانية في الضفة الغربية تبدو منافقة، بالحديث عن تمسّكه بمبدأ حلّ الدولتين وفق حدود 1967، وحقوق الفلسطينيين، وتهرّبه من إحراجات الصحافيين حول الممارسات الإسرائيلية العنصرية ضد الفلسطينيين، والتحقيق في مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، وهذا يعني أن زيارته الجانب الفلسطيني رمزية، وبمحصلة تكاد تكون صفرية، لولا تعهده باستمرار تقديم المساعدات لمشافي القدس.
وكانت إنجازات بايدن في جدّة محدودة بدورها، وليست بحجم قمّة يعقدها رئيس دولة عظمى مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق؛ فرغم تطبيع أربع دول (الإمارات والبحرين والسودان والمغرب) مع إسرائيل، ووجود علاقات سياسية واقتصادية بين الأخيرة وكل من مصر والأردن، إلا أن السعودية رفضت بوضوح أية اتفاقات مع الكيان الصهيوني، واشترطت حلّ المسألة الفلسطينية وفق القرارات الدولية. هذا ينسف فكرة إنشاء منظومة أمنية واقتصادية وسياسية تضم إسرائيل، والاكتفاء بتبادل معلوماتٍ استخباراتية، وبمقايضة فتح الأجواء السعودية أمام حركة الطيران المدني الإسرائيلي مقابل قبول إسرائيل بسيطرة السعودية على جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين في البحر الأحمر. وفشلت واشنطن في الحصول على وعود من الرياض بزيادة إنتاج النفط في اجتماع “أوبك+” المقبل، خصوصا أن روسيا لن تقبل بهذا القرار، وكذلك السعودية مستفيدة من ارتفاع أسعار النفط، وهناك وفرة اقتصادية بنمو 10% من الناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من عام 2022، وهذه الوفرة ضرورية لتنفيذ سلة المشاريع التنموية التي يعد بها ولي العهد محمد بن سلمان في السعودية والخليج، سواء على صعيد البيئة والطاقة النظيفة، وتقنيات خفض الانبعاثات وإزالة الكربون، ومشروع “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر”، إضافة إلى استثماراتٍ واسعةٍ في مجال التكنولوجيا. تتطلع إدارة بايدن إلى حصول الشركات الأميركية على هذه الاستثمارات، وعدم تركها للصين؛ ولعل هذا أفضل ما أنجزه بايدن في قمة جدّة. ورغم ذلك، ما زالت بكين تنافس واشنطن في الاستثمارات في منطقة الخليج العربي في مجالات التكنولوجيا والطاقة المتجدّدة، كما أن الصين أكبر مستورد للنفط السعودي.
لا وعود سعودية مؤكّدة بزيادة إنتاج النفط إلى المستوى الذي يُحدِث فرقاً في تقليص استفادة روسيا من عائدات النفط
تطمح السعودية إلى الحفاظ على دورها القيادي ضمن مجلس التعاون الخليجي، والمنطقة العربية، وهذا يجعلها، بوصفها دولة وازنة، ترفض التطبيع، وترفض أي تنسيق أمني تقوده إسرائيل، أو حتى أميركا، ولا ترغب في كشف منظوماتها الدفاعية حتى أمام دول مجلس التعاون. وكانت قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي قد أضرّت بمكانة السعودية تلك، وزاد هذا الضرر مع تراجع العلاقات الأميركية السعودية بعد مجيء بايدن رئيساً؛ وهو الذي كان قد اعتبرها دولة منبوذة، ورفع جماعة أنصار الله (الحوثيين) من قائمة الإرهاب، وجمّد مبيعات أسلحة للسعودية مؤقتاً، وأوقف الدعم العسكري للتحالف الذي يقف إلى جانب الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً. وقد استفادت الرياض كثيراً من زيارة بايدن، بإعادة الاعتبار لها دولة لها دور مهم في المنطقة وفي أسواق الطاقة العالمية؛ وهذا يعني، في الوقت نفسه، تراجعاً، لدى إدارة بايدن، في ملف حقوق الإنسان والانتهاكات، ونشر الديمقراطية.
في المجمل، لا وعود سعودية مؤكّدة بزيادة إنتاج النفط إلى المستوى الذي يُحدِث فرقاً في تقليص استفادة روسيا من عائدات النفط، ولا وعود أيضاً بالابتعاد عن الصين وروسيا، ولا اتفاقيات أمنية مع إسرائيل، عدا عن تنسيق استخباراتي محدود فيما يخصّ التصدي للصواريخ والطائرات الإيرانية، ولم تعد السعودية ودول الخليج تثق بالضمانات الأميركية لأمنها عموماً. قد تربح الرياض صفقات أسلحة، وعليها في الوقت نفسه تهدئة الساحة اليمنية.
ويمكن تلخيص ما أنجزه بايدن في جدة بمحاولة لتهدئة الجبهات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإبعادها عن الصين وروسيا، واستغلال فشل إعادة إحياء الملف النووي الإيراني في الضغط على دول المنطقة للقبول بتنسيق أمني سياسي اقتصادي مع إسرائيل، ولو بالحد الأدنى، وكذلك الضغط على إيران للقبول بالعودة إلى الاتفاق، وعودة نفطها إلى الأسواق الدولية، واهتمام أميركي عالي المستوى بحزمة الاستثمارات الخليجية المقبلة، وعدم ذهابها إلى الصين.