يشهد الوضع الأمني في الشرق الأوسط العديد من التغيرات الجذرية في ظل ظهور الجماعات المتمردة والتنظيميات الإرهابية العابرة للحدود، والتي أضحت تشكل تهديداً للأمن الداخلي والخارجي لدول الإقليم، وهو ما أدى إلى انهيار نظام الدولة في عدد من البلدان مثل سوريا والعراق وليبيا، وتحولها إلى بؤر عنف وتطرف تمثل خطراً على حياة مواطنيها وكذلك جيرانها، وبالتالي تهدد حلفاء الولايات المتحدة وشركائها. ويُضاف إلى ذلك، ما تمثله طموحات إيران النووية من تهديدات للمنطقة بأسرها.
وفي ظل هذه البيئة الإقليمية غير المستقرة، تُثار تساؤلات حول دور الولايات المتحدة فيما يجري في المنطقة، خاصةً مع افتقارها الواضح لاستراتيجية أمنية شاملة تساعدها في الحد من تلك الاضطرابات، ما أثار الشكوك لدى شركائها في الإقليم حول مدى جديتها والتزامها بحماية أمنهم.
انطلاقاً مما سبق، نشر مركز “برنت سكوكروفت للأمن الدولي” التابع للمجلس الأطلسي دراسة بعنوان: “الاحتواء الجديد.. تغيير النهج الأمريكي نحو أمن الشرق الأوسط”، أعدَّها “بلال صعب” Bilal Y. Saab الزميل الأول لأمن الشرق الأوسط بمركز “برنت سكوكروفت للأمن الدولي”. وتسلط الدراسة الضوء على التهديدات الأمنية في إقليم الشرق الأوسط، والمشكلات التي تواجه استراتيجية واشنطن في التعامل مع هذه التهديدات، مع اقتراح دور أمني جديد ومتوازن للولايات المتحدة في المنطقة، من خلال تقديم عدد من التوصيات لتطبيق نهج أمريكي جديد يساعدها على خلق بيئة أمنية إقليمية مستقرة.
مصادر التهديدات الأمنية في الشرق الأوسط
يُجمل الباحث أبرز التهديدات الأمنية التي تواجه منطقة الشرق الأوسط في مصدرين رئيسيين، وهما:ـ
1- مصادر تهديد الأمن الخارجي لدول المنطقة، وتشمل:
أ- البرنامج النووي الإيراني وخطر انتشار الأسلحة النووية في المنطقة: فعلى الرغم من أن الاتفاق النووي المُبرم بين إيران والغرب (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الصين، روسيا، وألمانيا) لوضع حد للبرنامج النووي الإيراني خلال العقد القادم، قد قلل من خطر انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، بيد أن هذا الاتفاق لم يقض على ذلك الخطر، ولا يبدو بوضوح أنه سيضمن أمن المنطقة.
ب- الحرب الباردة بين إيران والسعودية: وهي حرب ليست وليدة الوقت الراهن، وإنما تعود إلى عام 1979، أي منذ نشأة دولة ايران، فالمملكة العربية السعودية – بالإضافة إلى غيرها من الحكومات ذات الأغلبية السنية في المنطقة – تستشعر وجود خلل خطير في توازن القوى بين السنة والشيعة في الشرق الأوسط، ومن ثم تفعل هذه الدول السنية ما في وسعها لتصحيح ذلك.
على الجانب الآخر، تعتقد إيران أن السعودية تقف في طليعة الحملة الإقليمية التي تحاول الإطاحة بالرئيس السوري “بشار الأسد”، وزعزعة استقرار الحكومة العراقية، وهزيمة “الحوثيين” في اليمن، وذلك باستخدام أدوات مثل القوات العسكرية السنية.
ويرى الباحث أن أخطر ما في هذا الصراع هو أن كلاً من إيران والسعودية يرى أن محصلته “صفر”، حيث تمثل المكاسب النسبية لأحد الطرفين في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان، خسائر للطرف الآخر.
ج- الحرب القادمة بين إسرائيل و”حزب الله” أو بين إسرائيل و”حماس: في حال حدوث حرب أخرى بين إسرائيل و”حزب الله” أو “حماس”، يعتقد الباحث أنها ستكون أكبر وأكثر دموية من صراع عام 2006، حيث ستشمل الحرب أطرافاً متعددة، وربما تؤدي إلى حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل، ومثل هذه النتيجة ستكون كارثية على الأمن الإقليمي.
د- التدخل الدولي: فقد كان التدخل الدولي موضوعاً لمناقشات ساخنة منذ التسعينيات، إذ يعتقد العديد من أتباع تيار “اليسار السياسي” أن التدخل الانساني الدولي في الصراعات الداخلية للبلدان يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، لأنه يحدث خللاً في الحراك السياسي الداخلي، ويقتل العديد من الأبرياء، ويزيد من المخاطر الأمنية ونقاط الضعف في المجتمعات المحلية.
وعلى العكس يرى دُعاة التدخل الإنساني أن الصراعات العرقية تتسبب في معاناة إنسانية كبيرة وتشكل خطراً كبيراً على السلام الداخلي والإقليمي، وتحتاج إلى حلول خارجية في حال عجز الدول عن إنهائها بمفردها، وهو ما قد يكون ضرورياً لتجنب المزيد من الجرائم الإنسانية والعنف المنظم.
2- مصادر تهديد الأمن الداخلي لدول الشرق الأوسط، وتشمل:
أ- الدول الفاشلة: غالباً ما يؤدي انهيار أو تدهور مؤسسات الدولة إلى عدم قدرتها على حماية سكانها من الأخطار الداخلية والخارجية، كما يترتب على فشل مؤسسات الدولة أيضاً انتشار الفاعلين من غير الدول، والذين يتحدون سلطة الدولة ويحتكرون استخدام القوة.
ب- الحروب الأهلية: ثمة علاقة بين الدول الفاشلة والحروب الأهلية التي تشكل بدورها تهديدات فعلية بما تنتجه من دمار ومعاناة إنسانية، بل وربما تؤدي الحروب الأهلية إلى صراع بين الدول، وهو ما شهده الشرق الأوسط في ست دول على الأقل على مدى العقود القليلة الماضية.
ج- الجماعات المتطرفة والعنيفة: في ظل انتشار الفوضى في الإقليم، بدت البيئة مهيأة بصورة أكبر لنشاط الجماعات المتطرفة التي تتحدى باستمرار سلطة الدولة وتهدد السلام الداخلي للمجتمعات، ولكن من بين جميع الفاعلين يبدو انضمام المقاتلين الجهاديين وولائهم لكلِ من تنظيم “داعش” و”القاعدة” بمثابة الخطر الأكبر على المنطقة، وهذا مرده:
الموارد المادية والبشرية الضخمة.
ما تمارسه هذه التنظيمات المتطرفة من قتل للبشر وتدمير للبنى التحتية والممتلكات بصورة تفوق أي فاعلين آخرين من غير الدول.
عملها في العديد من البلدان، ومنها تخطط أيضاً لعمليات ضد آخرين في بلدان أخرى.
أنها التنظيمات الأكثر تسليحاً، وتسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي في العراق وسوريا.
لديها أيديولوجية عابرة للحدود تجذب المقاتلين ليس فقط من المنطقة، بل من جميع أنحاء العالم.
تتمتع بمهارات تقنية وتكنولوجية، بالإضافة إلى أنه لا يمكن إقناعها أو التفاوض معها.
دور جديد للولايات المتحدة في أمن الشرق الأوسط
تضع الدراسة أربعة افتراضات رئيسية تؤكد على ضرورة أن تضعها الولايات المتحدة في حسبانها عند تدخلها في الشرق الأوسط، وهي:ـ
– الافتراض الأول: لن يكون ثمة أمن واستقرار دائم في منطقة الشرق الأوسط بدون تنمية اقتصادية وسياسية حقيقية.
– الافتراض الثاني: لا ينبغي أن تكون الولايات المتحدة عامل ضغط من أجل التغيير في المنطقة، فالتغيير يجب أن يأتي دوماً من الداخل.
– الافتراض الثالث: لا يمكن أن يحدث التغيير بدون أن يبدأ بتحديد التحديات الأمنية الأكثر إلحاحاً وخطورة.
– الافتراض الرابع: مفاده أن واشنطن لن تتمكن من تحديد هذه التحديات بمفردها.
وفي هذا الصدد، يؤكد الباحث أن لدى الولايات المتحدة ثلاثة خيارات استراتيجية لتحسين الظروف الأمنية في الشرق الأوسط، وتتمثل في الآتي:
الخيار الأول: محاربة الإرهاب (Counter terrorism)
يعتقد من يدافعون عن هذا الخيار أن ما يحدث حالياً في المنطقة يُذكرنا بحرب الثلاثين عاماً (1618- 1648) في أوروبا؛ فبدلاً من الصراع الذي كان دائراً في ذلك الوقت بين الكاثوليك والبروتستانت يدور حالياً في الشرق الأوسط صراع بين السنة والشيعة. وفي هذه الحالة، لن يكون لدى واشنطن الكثير لتقدمه، وهنا تصبح الاستراتيجية المُثلى لها هي التراجع للخلف وترك العناصر المتطرفة داخل المجتمعات السنية والشيعية في حربها، والانتظار حتى يتم “تنقية” المنطقة.
ووفقا لهذا السيناريو، فإن الولايات المتحدة ستُعطي الأولوية فقط لمحاربة المجموعات الإرهابية التي تستهدفها بصورة مباشرة، ولا تتدخل عسكرياً إلا إذا كان العنف بين السنة والشيعة يمثل تهديداً مباشراً لإسرائيل أو لحركة التجارة العالمية. وفي حال حدوث ذلك، يجب أن يكون استخدام واشنطن للقوة محسوباً للغاية.
ويرى الباحث أن هذا الخيار يمثل توصيفاً مُلائماً للسياسة الخارجية التي تنتهجها إدارة “أوباما” في المنطقة (باستثناء التدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا)، ولكن يبدو أن هذه الاستراتيجية لم تؤت نتائجها المرجوة حسبما يرى الكاتب؛ فالمشكلات الأمنية في الشرق الأوسط لا تقتصر فقط على الإرهاب، ناهيك عن أن ذلك النهج قد يؤدي إلى تقويض نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة وفقدان شركائها الإقليميين.
الخيار الثاني: الاشتباك Hands-On))
تعود جذور هذا النهج إلى فلسفة إدارة الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” تجاه الشرق الأوسط، وهو نهج بحاجة إلى مناقشة متأنية وتقييم صادق؛ فمسألة تعزيز الأمن في منطقة الشرق الأوسط من خلال التدخل العسكري المباشر وتعزيز انتخابات حرة تعد استراتيجية محفوفة بالمخاطر. ولعل تجربة الولايات المتحدة الكارثية في العراق منذ عام 2003 تمثل تحذيراً كافياً من عواقب قيادة واشنطن لعملية إعادة بناء الأمة في المنطقة.
ويرى الباحث أنه وبغض النظر عن نوايا الولايات المتحدة، فهي لا تملك ما يكفي من الموارد الاقتصادية أو المعرفة المحلية أو الالتزام السياسي تجاه المنطقة، للقيام بذلك الدور على الوجه الصحيح.
الخيار الثالث: الأمن التعاوني Cooperative Security))
يقوم نهج “الاحتواء” الأمريكي لأمن الشرق الأوسط على تطوير نظام الأمن التعاوني في المنطقة. وفي مثل هذا النظام، يكون الأمن هدفاً مشتركاً يتم تحقيقه بالمشاركة عن طريق التنسيق والتعاون، ويما يمنع بشكل فعَّال التصعيد، ويحد من العنف والصراع وسباق التسلح.
وقد يساعد اتباع الولايات المتحدة لنهج “الاحتواء” في نهاية المطاف على خلق فضاء سياسي آمن بشكل معقول للشركاء الإقليميين للولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مرور الفترة الانتقالية بأقل قدر من العنف والفوضى.
ومن وجهة نظر الكاتب، فإن “الأمن التعاوني” هو الخيار الأمني أكثر استدامة من الناحية الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة والمنطقة مقارنةً بالخيارين الآخرين، ولكنه أكثر تعقيداً وصعوبة في تطبيقه، فتعزيز ثقافة الحد من التسلح في المنطقة تعد عملية صعبة للغاية وطويلة، خاصةً في ظل البيئة التي تزداد تقلباً يوماً بعد آخر في الشرق الأوسط.
ويرى الباحث أن أي محاولة لنقل مفاهيم الأمن والتعاون الإقليمي الأجنبية، سواء الأوروبية أو الآسيوية، إلى منطقة الشرق الأوسط، هو أمر أكثر عرضة للفشل، نظراً للسمات والتحديات الفريدة من نوعها في هذه المنطقة، بالإضافة إلى التشكيك في قدرة الولايات المتحدة على التصدي لتنظيم “داعش”، ما يجعل أي اقتراحات قد تقدمها واشنطن لأمن إقليم الشرق الأوسط تفتقر للجدية والمصداقية.
وبناءً عليه، ثمة ضرورة لوجود مساحة يمكن لبلدان المنطقة من خلالها مناقشة التهديدات الأمنية التي تشكل خطراً مشتركاً عليها، والاتفاق على مدونة لقواعد سلوك الأمن البشري والإقليمي. ومن هنا، يقترح الباحث تكوين “فريق عمل مراقبة الأسلحة الجديدة والحفاظ على الأمن الاقليمي”، على اعتبار أن الشرق الأوسط هو المنطقة الوحيدة في العالم التي ليس لديها هذا المحفل.
وبالتالي، يقتصر دور الولايات المتحدة على المساعدة وتسهيل إنشاء نظام الأمن الاقليمي، ليصبح بمثابة محور للتعاون، وتيسير تقديم المساعدة التقنية والدبلوماسية عند الحاجة. ولكن سيظل على واشنطن تحديد أولويات الأمن الاقليمي لديها، والتي تتضمن:ـ
منع امتلاك إيران للأسلحة النووية، وتجنب انتشار الأسلحة النووية على نطاق واسع في المنطقة.
ردع نشوب الصراع العسكري واسع النطاق، مع التدخل العسكري لدعم حلفاء الولايات المتحدة إذا فشل الردع.
إيقاف التصعيد في حال نشوب حرب أخرى بين إسرائيل و”حزب الله” أو إسرائيل و”حماس”.
الحد من نطاق وحِدة الحروب الأهلية في المنطقة.
القضاء على العنف والجماعات المتطرفة.
الحد من تأثير إيران في زعزعة الاستقرار بالمنطقة.
* عرض مُوجز لدراسة: “الاحتواء الجديد: تغيير النهج الأمريكي نحو أمن الشرق الأوسط”، والصادرة في يوليو 2015 عن مركز “برنت سكوكروفت للأمن الدولي” التابع للمجلس الأطلسي.
Bilal Y. Saab
المصدر:
Bilal Y. Saab, The new containment: changing America’s Approach to Middle East Security (Washington, Brent Scowcroft Center on International Security, Atlantic Council, July 2015).
إعداد: عزة هاشم
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة