وضعت الحرب في سوريا أوزارها، لكن الأزمة في البلاد لم تنتهِ بعد. ولا يزال الأسد، الذي انتُخب رئيساً للمرة الرابعة (لكن ليس الجميع مقتنعين بأن هذه الانتخابات أعطته الشرعية التي يدّعيها)، عاجزاً عن السيطرة على سوريا بأكملها. اليوم، يخضع أكثر من 2-5 من الأراضي السورية لسيطرة جماعة «هيئة تحرير الشام» (في إدلب) و«قوات سوريا الديمقراطية» (شمال شرقي وجنوب شرقي سوريا)، وكذلك مناطق العمليات التركية التي تسيطر عليها المعارضة السورية (في الشمال).
على الصعيد الدولي، حازت سوريا بعض المكاسب في الآونة الأخيرة، الأمر الذي ينطبق بالأخص على علاقاتها مع الدول العربية، وذلك في ظل زيارات دبلوماسية رفيعة المستوى وإعادة فتح سفارات عربية في دمشق. في هذا النطاق، سيكون أهم إنجاز لنظام الأسد أن يتمكن من استعادة مقعده في جامعة الدول العربية. وبالفعل، يؤيد كثير من أعضاء الجامعة عودة سوريا، لكن يبقى هناك كذلك من لا يزالون يعترضون على الأمر.
فيما يخص الاقتصاد، تبدو سوريا في حالة يرثى لها. ذلك أن غالبية السوريين يعيشون في مرحلة بالكاد يستطيعون فيها البقاء على قيد الحياة. وتصنف الأمم المتحدة ملايين السوريين بوصفهم بحاجة إلى مساعدة إنسانية.
وحتى عام 2011، حصلت عائلة الأسد على النصيب الأكبر من كل مبادرة تجارية تقريباً. تجدر الإشارة هنا إلى أن السبب الرئيسي وراء احتجاجات 2011 كان النظام الاقتصادي الذي يركز على هذه العائلة، والفساد المستشري. وطوال هذه السنوات، لم يتغير هذا الوضع، وإنما ازداد سوءاً.
يُذكر أن مصدر الدخل الرئيسي لسوريا يتمثل في النفط. وتخضع حقول النفط السورية الآن لسيطرة «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي يُعرف عنها بيع النفط بأقل من أسعار السوق (أسعار منخفضة تصل إلى 15 – 20 دولاراً للبرميل) لتوفير التمويل لنفسها.
من ناحيتها، اقترحت إحدى شركات النفط «غلف ساندز» التي اضطرت إلى مغادرة البلاد عام 2011 بسبب ما وصفتها بأنها «ظروف قاهرة»، مبادرة تنص على أن «تعود شركات النفط العالمية إلى عملياتها في شمال شرقي سوريا، وسيجري إيداع جزء من عائدات مبيعات النفط في صندوق تجري إدارته دولياً لاستخدامه في تمويل مشروعات إنسانية واقتصادية وأمنية في جميع أنحاء البلاد، لصالح كل الشعب السوري».
ويمكن لمثل هذه المبادرات المساعدة على خلق مصدر للدعم الإنساني تبدو البلاد في أمسّ الحاجة إليه، وفي الوقت ذاته حرمان الجهات الفاعلة غير الحكومية والمنظمات الإرهابية من مصدر دخل كبير.
من جهتها، تُعد تركيا، بحكم الموقع الجغرافي والظروف، لاعباً رئيسياً في سوريا. ولطالما سعت إلى إقرار ما تسميها منطقة آمنة في منطقة تمتد من الخط الحدودي إلى عمق 35 كم داخل سوريا. ومن شأن ذلك أن يعمل على إبقاء «وحدات حماية الشعب» (وكذلك عناصر تهديد مثل قوات النظام وتنظيم «داعش») بعيداً عن الحدود، وإقامة منطقة يمكن للسوريين الموجودين في تركيا (3.7 مليون نسمة) العودة إليها.
ونفّذت القوات المسلحة التركية أربع عمليات كبرى خلال الفترة من 2016 حتى 2020، وحققت بالفعل أهدافها، لكن بشكل جزئي. وتعزو تركيا أوجه القصور إلى عدم وفاء الولايات المتحدة وروسيا بوعودهما بإقناع «وحدات حماية الشعب» بالانسحاب من مواقعها مقابل وقف إطلاق النار. ولا تزال «وحدات حماية الشعب» الكردية موجودة في بعض المناطق، مثل منبج وتل رفعت.
قبل بضعة أسابيع، أشار الرئيس إردوغان إلى عزم قواته تنفيذ عملية جديدة لاستكمال الأعمال غير المنجزة، لكنّ هذا لم يتحقق بعد.
وتعارض جميع الجهات الفاعلة داخل سوريا تقريباً، بما في ذلك أولئك الذين يعادي بعضهم بعضاً وروسيا والولايات المتحدة ونظام الأسد وإيران والدول العربية، شن عملية عسكرية تركية جديدة.
ولم تتمكن تركيا من الحصول على الدعم الذي كانت تأمله من حلفائها (الولايات المتحدة وأعضاء حلف الـ«ناتو» الآخرين) ومن شركائها في التعاون الإقليمي (روسيا وإيران ودول عربية).
أما الدولة الأكثر أهمية في هذا السياق، فهي روسيا. وقد اكتسبت العلاقات الخاصة التي نشأت خلال السنوات القليلة الماضية بين تركيا وروسيا زخماً جديداً في ظل الحرب المستعرة في أوكرانيا.
من جانبها، تدّعي روسيا أنها تتفهم مخاوف تركيا بشأن الإرهاب المنطلق من داخل الأراضي السورية. في الوقت نفسه، فإنها تشجع نظام الأسد و«وحدات حماية الشعب» على توحيد قواهما وإقامة جبهة موحدة ضد تركيا. ومن الضروري أن ننتبه هنا إلى أنه في السنوات الأخيرة، دخلت تركيا وروسيا في قتال بعضهما ضد بعض في مناطق مثل ليبيا وسوريا. ففي ليبيا، قضت الطائرات التركية من دون طيار على منظومة «بانتسير» الروسية التي جرى الترويج لها كثيراً.
اليوم في سوريا، إذا لم يكن ذلك ضرورياً للغاية، أعتقد أن تركيا لن ترغب في الدخول في مواجهة مع روسيا من جديد. من ناحية أخرى، لن ترغب روسيا في خسارة «صداقة» تركيا، عضو الـ«ناتو»، خصوصاً أنه جرى إعلانها كدولة مارقة ومنبوذة من كثيرين في العالم. والأرجح أن هذين البلدين سيبحثان عن طرق لإرضاء كل منهما الآخر داخل سوريا.
ومنذ عام 2011 أصبحت الأزمة في سوريا أثقل عبئاً على أكتاف الرئيس إردوغان من منظور العلاقات الدولية لتركيا، وخلّفت وراءها الكثير من التداعيات المحلية. وتحول اللاجئون السوريون داخل تركيا إلى قضية مهمة على صعيد السياسة الداخلية، وأصبحت مسألة موعد وكيفية عودة السوريين لوطنهم محل نقاش حاد بين الحكومة وأحزاب المعارضة.
من جانبي، أعتقد أن حل قضية السوريين في تركيا (يشار إليهم رسمياً بالسوريين الخاضعين للحماية المؤقتة) يكمن في المصدر. بمعنى آخر، فإن العودة الطوعية للسوريين تعتمد على الظروف القائمة في المكان الذي من المفترض أن يعودوا إليه. فإذا كانت لدى السوريين شكوك ومخاوف بشأن سلامتهم عند عودتهم لبلادهم، وإذا لم يجرِ توفير بعض الفرص والحوافز الاقتصادية، لا أعتقد أن العودة الطوعية ستكون ممكنة في أي وقت قريب. ومما لا شك فيه أنه من المتوقع أن تأتي مثل هذه الفرص والحوافز تحت مظلة حماية وضمانات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
من ناحيتها، تبنّت الحكومة التركية «مقاربة براغماتية» في سياستها الخارجية خلال الفترة الأخيرة، وحرصت على إصلاح علاقاتها مع عدد من دول المنطقة. وقد تأخذ السياسة السورية نصيبها هي الأخرى من هذا النهج الأخير. وجرت اتصالات بين البلدين من خلال أجهزتهما الاستخباراتية. وفي طريق عودته من سوتشي، نهاية الأسبوع، أعاد الرئيس إردوغان التأكيد على هذه الاتصالات. وعلى ما يبدو، فإن روسيا هي الوسيط هنا.
السؤال هنا: بعد كل ما حدث، هل يمكن للبلدين، أو بالأحرى الزعيمين التركي والسوري، استئناف علاقات طبيعية بينهما؟ هل يمكن أن تنتقل الاتصالات بين أجهزة استخبارات الجانبين إلى مرحلة تالية على المستوى السياسي؟
هناك الكثير من الصعوبات، لكن هناك كذلك بعض العوامل التي من شأنها أن تدفع هذه العملية قدماً. من بين هذه العوامل أنه على بُعد أقل من عام على الانتخابات، يرغب إردوغان في تحرير نفسه من مشكلة كبيرة. من ناحية أخرى، يحاول الأسد العودة إلى المجتمع الدولي وإبقاء تركيا بعيداً، الأمر الذي سيشكل إنجازاً مهماً له. من ناحية الصعوبات، تبدو القائمة طويلة للغاية. على سبيل المثال، هناك عدد كبير للغاية من الفاعلين في المعادلة، ولديهم جميعاً أولويات وأجندات مختلفة. علاوة على ذلك، فإن نظام الأسد نفسه مصدر للمشكلات. كيف سيتم التعامل مع ذلك؟ ثم هناك المعارضة السورية، بما في ذلك الجماعات المسلحة، التي كانت تركيا على علاقة وثيقة معها منذ سنوات كثيرة. كيف سيكون وضعها في حال بدء عهد جديد من العلاقات بين تركيا وسوريا؟ والقائمة تطول.
على أي حال، وعلى الرغم من كل الصعوبات وأوجه الهشاشة، ربما يَلوح عصر جديد في العلاقات -لكن الأمر يبقى مجرد احتمال.
الشرق الأوسط