لا بلد في العالم ظل في منأى عن التأثر بحرب أوكرانيا من باب التضخم وارتفاع الأسعار وأزمة الغذاء والطاقة، فضلاً عن نزف الأسلحة والمال في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا الداعمة لكييف، وفضلاً أيضاً عن نزف البشر بالأسلحة والمال في كل من روسيا وأوكرانيا.
لكن ذلك ليس كل شيء. فمنذ الغزو الروسي في 24 فبراير (شباط) الماضي، والسؤال في كل مكان هو هل تبقى الحرب محصورة في الجغرافيا الأوكرانية؟ وإلى أي حد يمكن الحؤول دون أن يتطور الصدام بالوكالة إلى صدام مباشر بين روسيا و”الناتو” الداعم لأوكرانيا بالسلاح والخبرة والتدريب والمعلومات والمال؟ حين بدأ التلويح الروسي باستخدام السلاح النووي، وجد العالم نفسه على حافة حرب نووية شاملة، قبل أن يتم “ضب” الموضوع. كان واضحاً أن القرار في موسكو وعواصم الغرب هو الامتناع عن الصدام المباشر عن قصد، وتجنب الوصول إلى ذلك بالخطأ في الفعل والتسرع في رد الفعل.
قبل أيام عاش العالم ساعات عصيبة، بعد سقوط صاروخ داخل حدود بولندا العضو في “الناتو”. كييف سارعت إلى اتهام موسكو التي نفت. أوروبا ارتبكت. أميركا فضلت انتظار التحقيق الذي شاركت فيه. كان “الناتو” مجبراً على الرد إذا ما تبين أن الصاروخ روسي. الرد بما يناسب الفعل، إذا كان سقوط الصاروخ بالخطأ. والرد القوي الذي يقود إلى رد ثم إلى سلسلة ردود، إذا ما تأكد أن موسكو قررت توسيع حدود الحرب. وهكذا بدا مصير العالم متوقفاً على صاروخ يشعل حرباً نووية عالمية هي سيناريو “يوم القيامة”. ولا يزال مصير العالم يتوقف على صاروخ، إن لم تنته اللعبة الخطرة في حرب أوكرانيا.
بيان “قمة الـ20” في بالي الإندونيسية سجل أن “معظم الدول الأعضاء نددت بالحرب في أوكرانيا”، وركز على ما أحدثته من “تقويض للاقتصاد العالمي ومعاناة إنسانية كبيرة”، وطالب بـ”انسحاب كامل غير مشروط للقوات الروسية من أوكرانيا”. والأحاديث في القمة وخارجها بدأت تطرح الحاجة إلى التفاوض على أبواب الشتاء. ومع أن وزير الدفاع الأميركي الجنرال لويد أوستن كرر التزام بلاده “دعم أوكرانيا مهما تطلب الأمر”، فإن رئيس هيئة الأركان المشتركة في البنتاغون الجنرال مارك ميلي رأى ضرورة التفاوض لأن “النصر العسكري مستحيل” سواء لجهة روسيا أو لجهة أوكرانيا. أما الكرملين، فإنه يبحث عن التفاوض ويتهم إدارة الرئيس جو بايدن بأنها تمنع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من قبول التفاوض، وهي وحدها القادرة على الأمر.
ذلك أن المعادلة، كما وضعها الكرملين أخيراً، هي “نريد تحقيق أهدافنا عسكرياً أو بالمفاوضات”. وفي الحالين مشكلة. فما تأكد، حتى الآن، هو أن القوات الروسية عاجزة عن تحقيق الأهداف بالقوة أو عن الحفاظ على المواقع التي تحتلها، وإن كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول إن قواته “تستخدم أقل من قوتها”.
والبديل هو القصف بالصواريخ والمسيرات لتدمير البنية التحتية وحرمان السكان من الماء والكهرباء والغاز في الشتاء. وهذا نوع من “إرهاب الدولة بالصواريخ” تحت عنوان “عملية عسكرية خاصة”. أما مشكلة التفاوض، فإنها صعوبة التفاهم على صيغة يبدو فيها بوتين “غير مهزوم” وزيلينسكي “غير منتصر”. الحد الأدنى لما يريده بوتين هو الدونباس مع شبه جزيرة القرم. والحد الأدنى لما يطلبه زيلينسكي هو استعادة الأرض كلها. ولا حرب في الدنيا تنتهي بخروج طرفيها “رابحين ومنتصرين”. ولا أحد يعرف إلى أي حد يستطيع الجمهوريون الذين سيطروا على مجلس النواب في مقابل احتفاظ الديمقراطيين بالسيطرة على مجلس الشيوخ عرقلة خطة بايدن لدعم أوكرانيا. لكن الرئيس الأميركي احتاط للأمر، وطلب من الكونغرس الباقي بصيغته الديمقراطية الحالية حتى نهاية العام الموافقة على إنفاق 37 مليار دولار معظمها مساعدات لأوكرانيا.
“الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى” كما قال كلاوزفيتر. والمفاوضات هي استمرار للحرب بوسائل أخرى، كما يريدها بوتين وزيلينسكي.
اندبندت عربي