مستقبل المنطقة و«البراغماتية» الإسرائيلية الإيرانية

مستقبل المنطقة و«البراغماتية» الإسرائيلية الإيرانية

كانت بداية شهر أبريل/نيسان الحالي أقرب إلى بدايات شهر أبريل من عام 1975 حيث لاحت وقتها إرهاصات الحرب اللبنانية بين فريق استقوى بالفلسطينيين وفريق آخر خاف على بلده من نفوذهم.

وبداية هذا الشهر من عام 2024 حملت قيام إسرائيل باغتيال قادة إيرانيين في قنصلية بلادهم في دمشق، ونعلم ما سبق ذلك من عشرات الضربات التي اغتيل فيها علماء إيرانيون وعسكريون من خيرة الحرس الثوري الإيراني ولم ترد وقتها إيران أو عجزت عن الرد واليوم ترد بعدد هائل من الصواريخ.

وهي التي ربما تكون قد تقاعست عن الرد في السنوات الماضية إلى أن تنتهي من تجهيز السلاح النووي الذي سيكون رادعًا لخصومها وعلى رأسهم إسرائيل من أن يهاجموها مجددًا.

بداية أقول إن إيران حاولت أن تعلن للعالم أن العدوان على قنصليتها داخل دمشق هو عدوان على طهران من الداخل ولذلك تكفلت هي بالرد ولم تكلف به وكلاءها في الإقليم. ثم أتى الرد الإسرائيلي داخل أصفهان واليوم تبدو تلك الردود المتبادلة أقرب إلى مسرحية انتهت فصولها ولو مؤقتًا فالكل لا يريد التصعيد أكثر ولا دليل على ذلك من اعتراف وزير خارجية إيران بأنهم أبلغوا الولايات المتحدة بأنهم سيردون داخل إسرائيل لكنهم لا يريدون حربًا إقليمية.

ولذلك وبعد دقائق قليلة من اقتراب المسيرات من الأجواء الإسرائيلية جمع مندوب إيران في الأمم المتحدة الصحفيين حوله ليكرر عليهم القول بأن الرد الإيراني قد انتهى، في دلالة لا تخفى معانيها وهي أننا نحن الإيرانيين لا نريد إطالة القضية مع إسرائيل وداعميها أكثر من هذا ولا يعنينا كون هذه الضربة قد أصابت أهدافًا إسرائيلية داخل هذا الكيان أم لا. المهم أننا نعتبر الآن أننا قد استرددنا كرامتنا ويكفينا هذا.

وبمعنى أوضح، أيها السادة: نحن لا نريد حربًا إقليمية.. وليس لدينا مشروع حرب.. ولا تغيير في قواعد الاشتباك التي تعلمونها جميعًا. نحن لا نريد حربًا مع إسرائيل لا يمكن إلا أن تكون أمريكا طرفًا فيها.

هنا في واشنطن وبالقرب من الكابيتول يرى كثيرون أن الرد الإيراني كان أكثر قليلاً من حفظ ماء الوجه وإرضاء لصفوف الشعب الإيراني ومليشياته المنتشرة في دول عربية. لكن الحقيقة أن الرد الإسرائيلي بعده بدا وكأنه رسائل عشق مخفية كلتاهما لا تريد البوح والاعتراف بها. فلا إسرائيل اعترفت بأنها من قصف بعض المواقع داخل إيران يوم 19 من الشهر الحالي ولا إيران وصفت الأمر بأنه أكثر من جسم غريب داخل الأجواء وأنه ربما قد يكون أتى من كردستان أو من أي فصيل معادٍ لإيران لينتهي الحديث داخل الأروقة في إيران بأن ما حدث قد يكون حريقًا مفتعلًا أو غير مفتعل تمت السيطرة عليه وانتهى الأمر.

أما إذا انتقلنا إلى الموقف الأمريكي فإنه ورغم كل شيء بدت الولايات المتحدة وحكومة بايدن كمن لا يمكنه التخلي عن رئيس وزراء إسرائيل حتى لو لم يمكن التوافق معه في نقاط كثيرة على مدى شهور عديدة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول فأمن إسرائيل خط أحمر حتى لبعض دول المنطقة التي لا تنفك تعلن الخشية من التمدد الإيراني وعمومًا فقد أسهمت واشنطن في إسقاط كل الصواريخ والمسيرات التي أرسلت على إسرائيل وسعت بعد ذلك إلى تنسيق رد دبلوماسي موحد على التصرف الإيراني هذا.

أما الدول العربية فكان الله في عونها ذلك أن رسائل العشق هذه بين إيران وإسرائيل جعلت الدور العربي في هذه الأحداث عاجزًا إلا في المسائل الإنسانية، خاصة في ظل الضغوط التي تتعرض لها الدول التي على تماس مع الجانبين الإسرائيلي والإيراني فلا الدور القطري تمكن حتى الآن من حماية ما تبقى من حماس ولا نتيجة التحركات المصرية أظهرت أي ضمانات لمنع اجتياح رفح ولا العراق قادر على كبح جماح الفصائل التابعة لإيران ولا الأردن قادر على مواجهة أي تبعات قد تحدث في الضفة الغربية والقدس ولا سوريا يمكنها الخروج من أن تكون ساحة مستباحة لجميع الأطراف.

وباتت إيران وإسرائيل كمن ينظر إلى الدور العربي نظرة الشامتين بعد أن اتفقت تل أبيب وطهران على حدود (الخسائر) و(الأرباح) لكل منهما.

في قراءة تحليلية للأحداث منذ الأول من أبريل وحتى هذه الساعة، يمكننا أن نقول إن التصورات المستقبلية للأحداث الجارية يمكن تلخيصها في الآتي:

أولًا، كان الرد الإسرائيلي الخجول يوم الـ19 من هذا الشهر كمن يطلب من حليفه الأمريكي أن يطلق يده في مكان آخر هو ولا شك (اجتياح رفح)، الذي ستقف إيران عاجزة أمامه عن حماية ما تبقى من حركة حماس بعد أن أظهرت (أي إيران)، للعالم أنها تقبل بقواعد اشتباك معينة مع إسرائيل.

ثانيًا، بات الرد الإيراني بمثابة المانع لإسرائيل من استهداف سفارات إيران في أي مكان في العالم لأن الرد الطبيعي مستقبلًا لن يقل بحال من الأحوال عن إطلاق 300 صاروخ تربك إسرائيل وحلفاءها ليلة كاملة عبر إلزام الإعلام في كل العالم بتسليط الضوء على الحدث وانتظار ما سيحدثه سقوط تلك الصواريخ والمسيرات في مدن محدودة المساحة ولا شك أنها، أي طهران، نجحت في جعل العالم يترقب ويعيش على أعصابه ساعات معدودة.

ثالثًا، الرد الإسرائيلي لم يكن له أي تأثير على الأمن الإقليمي وبدا كذلك كأنه رغبة في عدم الدخول في حرب مباشرة وفي تقديري لن تقع حرب مباشرة وسيبقى كل من الفريقين ضمن قواعد الاشتباك التي لا يريدان تجاوزها فإسرائيل باتت بعد ردها الأخير، غير المعلن، يمكنها المغامرة بضرب المنشآت النووية الإيرانية علنًا، خصوصًا مع إعلان الولايات المتحدة أنها لن تقف مع إسرائيل إذا قامت بهذه الخطوة. ويبقى التصعيد بين الطرفين لا يتجاوز الحناجر والكلام التهديدي.

رابعًا، لا بد من الإشارة إلى أن القضية الفلسطينية باتت اليوم في مأزق لا يمكن وصفه، فقد باتت الفصائل المسلحة عاجزة عن إيقاف الآلة العسكرية الإسرائيلية وبات قادة تلك الفصائل باحثين عن بلد جديد يلم شتاتهم وباتت القضية الفلسطينية على أعتاب نكبة جديدة لا يعلم مداها إلا الله. وباتت فصول الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول تتجدد أسبوعيًا وشهريًا عبر كوارث جديدة على الشرق الأوسط تخرج منها إسرائيل وإيران وحتى الولايات المتحدة بأقل الخسائر بينما تدفع الأمة العربية أثمانًا كارثية تسبب بها التخطيط والأوهام الصبيانية التي حلم بها قادة حماس. خامسًا، الأسواق العالمية ولا شك ستتأثر في حال تمدد الصراع وتعقده في الشرق الأوسط وعندها سيعاد بالتأكيد تشكيل بعض التحالفات الاقتصادية وحتى الجيوسياسية، ولذلك كانت كل الجهود الدولية تصب في ألا يتسع الصراع بين طهران وتل أبيب إلى أكثر مما حصل.

سادسًا، يمكننا القول إنه وإلى حد ما نجحت إيران في إقناع كثير من القوى الدولية أن ما يحدث في غزة هو السبب للتصعيد الذي ألزمت به إيران حلفاءها على طول الحدود مع إسرائيل ولكنها لا تزال تذكر العالم بأنها طرف فاعل في لجم أي أحداث في هذه المنطقة المضطربة من العالم وهي لا تريد في الحقيقة تفاهمات ودية غير مباشرة لا تدخلها أبدًا في حرب حقيقية مع عدو لها لا يمكن إنكار قوة القوى المدافعة عنه في كل الظروف.

كذلك نجحت إسرائيل وحلفاؤها في التسويق لنجاحهم في دفع واعتراض وتدمير مئات الصواريخ الإيرانية في تناسق بديع يحمل دلالات أكبر من أن تلغيها ادعاءات إيران وحلفائها بجدوى الهجوم الإيراني وتبعاته. ولا ننسى أن هذا الأمر أعلن بوضوح التفعيل الدائم للتعاون الأمني والتحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ومعظم دول المنطقة للدفاع عن إسرائيل.

ومع تصاعد وتيرة الحديث عن “عملية ضخمة في رفح” وتحذير إسرائيل سفاراتها في كل العالم من موجة معادية وتلوح في الأفق بداية معركة رفح التي هي ولا شك مكافأة استطاعت إسرائيل الحصول عليها بعدما أدارت الصراع مع إيران بكثير من الدهاء ولا أريد أن أقول العبقرية وأيضًا نالت إيران هي الأخرى مكافأة إقليمية حيث التضحية بالفلسطينيين وسكان غزة ورفح في مقابل عدم رغبتها هي في الدخول في حرب إقليمية كبرى.

ومجددًا تبيع إيران شعوبًا عربية على مذبح تمددها الإمبراطوري وتحقيق نفوذها الإقليمي. ومجددًا تضع إسرائيل العالم أمام أحداث جديدة كان الجميع في غنى عنها لولا أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول.